ترجمة

فلاديمير أورلوف بين الرواية والمقالة الصحفية

الدكتور تحسين رزاق عزيز

ولد فلاديمير فيكتوروفيتش أورلوف في موسكو في عام 1936 (وتوفي في عام 2014 – المترجم). أظهر قدراته الأدبية وهو ما زال تلميذاً في المدرسة: فقد نُشرَت قصائده أكثر من مرّة في صحيفة «برافدا الطلائع»، ودفعته الدروس في حلقة المسرح ذات مرّة وهو في الصف العاشر الى كتابة مسرحية له ، التي خضعت لتحليل جدي وشديد من لدن الكاتبة ل.ر.كابو، التي كانت في ذلك الوقت مدرِّسة الأدب وفي الوقت نفسه مشرفة على حلقة المسرح  في مسرح الأطفال المركزي.

سار فلاديمير اورلوف على خطى والده الصحفي في مهنته والتحق في عام 1954 بكلية الصحافة في جامعة موسكو الحكومية. وعند ما كان طالباً في السنة الثالثة في الكلية المذكورة اشتغل في صحيفة «روسيا السوفيتية» بصفة مراسل خارج الملاك، وفي صيف عام 1958 يذهب للتطبيق في صحيفة «العامل الكراسنويارسكي» وهكذا وصل الى منطقة بناء السكة الحديدية اباكان- تايشيت. وعند عودته الى موسكو ألَّف فلاديمير أورلوف عدة مقالات قصصية حول سيبيريا وضمها الى أطروحته الدراسية وبعد المناقشة، اهتمت رئاسة تحرير مجلة «يونوست» (الشباب) بالصحفي الشاب. وذهب فلاديمير أورلوف الى سكة حديد أباكان -تايشيت ثانية في عام 1959 في مأمورية بصفته مراسلاً خاصاً لمجلة “يونوست”. ونشرت مقالاته القصصية في «يونوست» و«كومسومولسكليا برافدا» التي سرعان ما صار مراسلاً لها (واستمر10سنوات). ونتيجة لمراقباته الصحفية وانطباعاته من الزيارات المتعددة في أنحاء سيبيريا ظهر كتابه «طريق بطول سبعة سنتيمترات» (1960).

    يبدو ان فلاديمير اولوف شعر بعدم الرضا عن اختصار عمله على النشاط الصحفي المحض فبدأ إضافة الى تأدية مهامه الأساسية بالعمل على روايته الأولى «البطيخ المملح». انتهت كتابة الرواية في تشرين الثاني من عام 1962 وصدرت على صفحات مجلة «يونوست» في عام 1963 ونالت نجاحاَ كبيراً لدى القراء. تجسدت في هذه الرواية المُثل الأخلاقية لتلك السنين الذي تبدو ساذجة نوعاً ما في ايامنا هذه. فقد حاول المؤلف من خلال شخصية اندريه كولوكشين ابن السابعة عشر أن يحل مسألة خلق بطل مثالي – أي خلق إنسان الغد. وكانت هذه الشخصية في ذهن قراء الستينيات مدعوة الى إيقاظ فكرة حول الكيفية التي عليها معاصريهم وكيف يجب ان يكونوا.

    لاحظ النقد رواية «البطيخ الملح»، وجرى تحويل نصها الى مسرحية عرضت على خشبة المسرح وأخرجت للسينما بفلم يحمل عنوان «إنزال في التايغا».

    كتب فلاديمير أورلوف في عام 1966 روايته الثانية «بعد المطر في الخميس» (صدرت عام 1968). جرت حوادثها، كما في النتاج السابق، في سيبيريا، حيث تخلقُ ظاهرةٌ مستعرةٌ موقفاً استثنائياً في أحد أنهار سيبيريا: ففي أحد الرافد العليا بعد هطول وابل من الأمطار يجرف التيار العاصف الأخشاب المقطوعة ويحملها بقوة مرعبة الى الجسر الذي بني بمدة قصيرة جداً، لكن بتجاوزات خطيرة للمعايير التقنية. وقد اعترف المؤلف نفسه فيما بعد أنه أراد أن يعرض من خلال هذا العمل موقف جيله الذي تربى في مدة ما بعد الحرب «في جو من الرعب والجبن، سواء عرف الناس أم لم يعرفوا، أنهم عاشوا فيه وكان محيطاً بهم». إضافة الى ذلك يوجد في الرواية مسار آخر من المواضيع مرتبط بموضوعية الحب المتألق الذي لا يعرف الحدود.

    وضع فلاديمير اورلوف مادة إحدى الرسائل الواصلة الى صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» في أساس مضمون روايته اللاحقة «حادث في نيكولسكي» (صدرت عام 1975).

    أراد الكاتب في هذه المرة، وفقاً لاعترافه الشخصي، «أن يحلل بواعث ونتائج سلوك فئة معينة من الصبيان الذين يعيشون مرفَّهين وتافهين وغير مبالين بالمصالح الاجتماعية، ومن دون كتب يفضلونها وبمفاهيم تصوروها هم أنفسهم عن الأخلاق والآداب». لم يكن قدر هذا النتاج بسيطاً، مع أن الرواية كانت قد أُعدّت للنشر في مجلة «نوفي مير» (العالم الجديد)، لكنها لم تصدر في حينها، ولم تر النور إلّا بعد مرور مدة طويلة، وذلك بعد أن تنازل المؤلف وسمح بإجراء اختصار كبير في النص وعدّل تماماً النهاية المأساوية الى نهاية أكثر سعادة.

    رواية فلاديمير اورلوف الرابعة «دانيلوف عازف الكمان الأوسط» (1980) جلبت له الشهرة الأكبر. إذا كانت أعمال الكاتب السابقة كلها تتمسك بالأسلوب الواقعي بدقة فإن خيال فلاديمير اورلوف الحر في «دانيلوف عازف الكمان الأوسط» يحطم بحزم المظاهر المعتادة للواقع الحياتي. تميزت الرواية من بين عدد من النتاجات المعاصرة لها بشكل حاد بالامتزاج العجيب للواقع مع الخيال وللرثاء مع المحاكاة الساخرة. ولهذا قيَّم النقاد والقراء عالياً أصالة رواية «دانيلوف عازف الكمان الأوسط» وما برحوا يتحدثون عن قربها من اعمال بولغاكوف، مع أن فلاديمير اورلوف في واقع الحال لم يحذُ قط حذوَ بولغاكوف في روايته وإنما دخل في جدال شديد معه.

    يعيش البطل الرئيس دانيلوف الذي نصفه إنسان ونصفه الآخر شيطان بين الناس العاديين في منطقة اوستانكينو في العاصمة في عام 1972 (التاريخ الدقيق – سمة بارزة لرواية اورلوف هذه ولجميع رواياته اللاحقة). عندما يسعى البطل لإثبات نفسه كشخصية كاملة الأهلية، يتخلى عن قصد عن جميع قدراته «الشيطانية» ويعمل انطلاقاً من حقيقته البشرية الخاصة فقط.

     أتاحت هذه المسيرة من التأليف إمكانية تناول عدد كامل من المسائل التي من أهمها مسألة الإبداع والشخصية الإبداعية في الوقت المعاصر. فالظروف الحياتية بين حين وأخر تكدِّر صفو الموسيقى دانيلوف بوصفه شخصية مبدعة، لكن حالته لا تؤهله «للتملص» منها او التخلي عنها تماماً، لأنه يجب أن لا يختلف البتة بظروف حياته عن الناس الاعتياديين الذين يحيطون به. ولمّا يمتنع الموسيقى دانيلوف عن استعمال القوة الشيطانية قطعياً (سواءً في إبداعه أم في حياته) فإنه يصطدم مراراً بمسألة مؤلمة: هي كيف السبيل للتوفيق بين التطلعات الروحية والمتطلبات المادية البحتة، إذا ما كانت الأخيرة تنجذب بعبء الأثقال نحو أرض الخطيئة؟ يقود المؤلف السرد بالمنطق كله وبحتمية نحو فكرة أن الشخصية الإبداعية الحقيقية ملزمة بأن تسمو على الحياة اليومية وتتجاوزها من دون السعي للابتعاد عن القضايا المعاشية  نفسها.

    لا تقتصر الرواية على قضايا الإبداع ومصير الشخصية المبدعة فحسب. فالكثير من صفحات هذا العمل الأدبي تمثل تهكماً شديداً على الواقع المعاصر (رغم أن فلاديمير أورلوف نفسه كان أحياناً يحاول نفي ذلك). أثارت رواية «دانيلوف عازف الكمان الأوسط» عند ظهورها موجة من اهتمام القراء وخلال أشهر معدودة صارت حقاً بيستسيلر (الكتاب الأكثر مبيعاً).

    إن رواية «الصيدلي» التي ألفها الكاتب بعد ذلك بعدة سنوات قيمها النقاد في بادئ الأمر كشهادة على أن المؤلف «يكرر نفسه». فالنتاج بدا من جديد ربطاً لوصفٍ دقيقٍ لظروف الحياة اليومية مع حوادث خيالية تماماً. لكن رواية «الصيدلي» لم تكن مطلقاً تكراراً لرواية «دانيلوف عازف الكمان الاوسط» لأنها تناولت مسارات مختلفة تماماً بل حتى أسلوب المؤلف كان مختلفاً.

     يتضمن أساس موضوع الرواية حكاية عن ظهور امرأة خرافية «بيريفينيا» (جنية ساحرة)  في ذروة الركود (الحوادث تدور في صيف عام 1975) في مدينة موسكو في شارع  الأكاديمي كوروليوف. وتَعْرض على بعض المترددين على إحدى الحانات أن تقوم فوراً بتحقيق أي حلم ينشدونه في الحياة. وهنا يبدو فجأة أن لا أحد من هؤلاء الأفراد ببساطة (كانوا رجالاً ناضجين) لديه حلم ينشده. وليس هناك من هدف سامٍ يسعون نحوه. فقد تحولت الحياة لديهم من زمن طويل الى عيشٍ ميكانيكي بحت لا معنى له. وهذا الأمر ولَّد لدى أبطال فلاديمير اورلوف شعوراً بعدم الارتياح الداخلي ورغبة بالخروج من دائرة الحياة الاعتيادية وأدراك عدم إمكانية هذا الخروج.

    يُلاحَظ في إبداع فلاديمير اورلوف بعد رواية «الصيدلي» انقطاع  طويل يفسره الكاتب نفسه بالاهتمام الشديد الذي أثارته لديه الحوادث السياسية والاجتماعية في تخوم الثمانينيات والتسعينيات.

     لم يعلن فلاديمير ارولوف عن نفسه ثانية إلّا في عام 1993 عندما بدأت مجلة «يونوست» بنشر روايته التالية «شيفريكوكا، أو حُب الشبح».

     ظهر آنذاك بوضوح اهتمام أورلوف في روايته «الصيدلي» بتاريخ موسكو وعمارتها (إذ اعترف الكاتب أنه حتى جمع ملف بطاقات خاص فيه جميع منازل العاصمة المهمة). بدأت هذه الهواية أثناء عمله في صحيفة «كومسومولسكايا برافدا»، عندما تشكلت جمعية حماية المعالم التاريخية والثقافية، التي شارك فيها فلاديمير اورلوف مشاركة فعالة. وانعكس في الرواية الجديدة الولع الأدبي التاريخي للكاتب بشكل أقوى من سابقتها. وليس صدفة أن بعد ظهور الجزء الأول من رواية «شيفريكوكا…»نال الكاتب جائزة موسكو في مجال الأدب والفن.

    وكما في روايات فلاديمير اورلوف «المسكوفية» السابقة تجري حوادث «شيفريكوكا…» في حي اوستانكينو، إذ يظهر شيفريكوكا الشبح المنزلي المسكوفي «الاعتيادي» في علاقاته المتبادلة مع إخوته الأشباح ومع سكان منزل حديث متعدد الطوابق «التابعين لإدارته». يعطي الكاتب ثانية لخياله حرية لا محدودة، وأحياناً يخرق المعايير، ومن هنا ينشأ «إفراط في قائمة الموجودات الخيالية» (ف.نوفيكوف)، ويظهر تشويش وعدم وضوح وتكديس «لمبتكرات» المؤلف.

    إضافة الى ذلك انعكس في «شيفريكوكا…» في المجال الرمزي الساخر واقعنا الاجتماعي في النصف الأول من التسعينيات. عندما يعرض فلاديمير اورلوف عبثية  الحياة الحالية فإنه يسعى بكل وسيلة «لِيُبَيِّن أن أساس قوى الخير – موجود داخل الإنسان، وليكشف أن الخلاص موجود».

    لم يستطع الكاتب، للأسف، لا في«الصيدلي» ولا في «شيفريكوكا…» أن يرتقي الى مستوى «دانيلوف عازف الكمان الأوسط» – وهو النتاج الذي جلب لفلاديمير أورلوف المجد الذي يستحقه.

     ما زال اورلوف في الوقت الحاضر يعيش في موسكو ويلقي محاضرات على الطلبة في معهد الأدب ويعترف أنه يحلم بأن يؤلف عن موسكو كتاباً، لكن «ليس روائياً بل شخصياً».

    ألف فلاديمير اورلوف الى جانب النتاجات السردية كذلك مسرحيتين (بالاشتراك مع س.أ. كوغان): «أنظر الى نفسك» (1971) و«حفلة تنكرية مرحة» (1972).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com