قصة

نيكا….قصة قصيرة للكاتب الروسي المعاصر فيكتور بليفين

الأن بعدما تشتت أنفاسها الخفيفة في العالم، في هذه السماء الملبدة بالغيوم، في هذا النسيم الربيعي البارد، ومجلد أعمال الكاتب بونين يجثم ثقيلاً على ركبتي كطابوقةسيلكا، صرت أحياناً ارفع عينيّ عن الورقة وأنظر إلى الجدار، المعلقة عليه صورتها المحفوظة صدفة. 

   كانت اصغر مني بكثير، قادنا القدر صدفة، ولم اعتقد ان تعلقها بي أثارته فضائلي؛ وإني، على الأغلب، كنت بالنسبة لها، اذا ما استعملنا مصطلحاً من الفيزيولوجيا، مجرد مهيجّ أثارته ارتكاسات الماضي والانفعالات التي كانت ستبقى كما هي بلا تغيير لو كان مكاني أي شخص آخر، قادر على تثمين حسنها وجمالها الجنوبي الأسمر، وتخفيف ثقل تواجدها بعيداً عن وطنها العتيق، في البلد الشمالي الجائع، الذي ولدت فيه بسبب خطأ أرتكب. 

   لم أسميها مرّة باسمها الكامل- فكلمة «فيرونيكا» كانت بالنسبة لي مصطلحاً نباتياً وتثير في ذاكرتي زهوراً بيضاء وتفوح برائحة خانقة من حوض زهور جنوبي علق في ذهني من الطفولة. واكتفيت بالمقطع الأخير «نيكا»، لأن الأمر لديها سيان: لم يكن لديها إحساس بموسيقى الكلام على الأطلاق، أما الآلهة، المجنحة وبلا رأس، التي تحمل اسمها، فلم تعرف حتى بوجودها. 

  أصدقائي نفروا منها على الفور. لم تهتم نيكا بمشاعر الغرباء، لكنها كانت بالغريزة تحرز علاقتهم بها – وعندما كانوا يأتون، في أغلب الحالات تنهض وتذهب إلى المطبخ. وفي الظاهر لم يكن معارفي غير مهذبين معها، لكنهم لم يخفوا ازدرائهم بها، عندما لم تكن موجودة؛ ولا أحد منهم، في الواقع، عدّها صنواً له. 

– لماذا صاحبتك نيكا هكذا حتى لا تريد النظر إليّ؟ – سألني أحدهم بابتسامة ساخرة. 

   لم يدر في خلده، أن هذه هي الحقيقة بالذات. 

– إنك لا تعرف مطلقاً أن تروضهم، – قال آخر في نوبة من صدق السُكرْ، – لو كانت عندي  لجعلتها مطيعة خلال أسبوع. 

  أعرف أنه يفهم في هذا الموضوع بشكل ممتاز لأن زوجته تروضه للسنة الرابعة، لكن أقل ما يهمني في الحياة أن أكون مربياً لأحد. 

  ليس لأن نيكا كانت لا تهتم بوسائل الراحة – إنها باستمرار مرَضيّ تبدو على الكرسي الذي أريد الجلوس عليه، – لكن الأشياء وجِدت لها، ما دامت هي تستعملها، ومن ثم تختفي. وربما، لهذا، لم يكن لديها فعلياً أي شيء خاص بها… لم تحسب حساباً لمشاعر الغير، لكن ليس بسبب مزاج خبيث بطبعها، بل غالباً لأنها لم تحرز وجود هذه المشاعر فعندما كسرت من غير قصد آنية لحفظ السكر قديمة من مصنع كوزنيتسوفسكي الشهير للخزف الموضوعة في الخزانة، وبعد ذلك بساعة صفعتها على وجهها غفلة، لم تفهم نيكا ببساطة لماذا ضُربت، – وخرجت مسرعة وعندما جئت اعتذر، استدارت ساكتة نحو الجدار. السكرية بالنسبة لنيكا ما هي إلاّ مخروط ناقص من مادة لامعة محشو بالأوراق؛ وبالنسبة لي– حصالة حُفِظَت بها دلائل حقيقة الوجود التي جُمِعَت طوال العمر: صفحة من دفتر ملاحظات لم يعد موجود منذ زمن طويل برقم هاتف لم أتصل به قط وبطاقة إلى سينما «إلوزيون» لم تُستعمَل؛ وصورة صغيرة وعدة وصفات صيدلية لم تُملَ. كنت خجلاً من نيكا، والاعتذار كان حماقة؛ لم أعرف ماذا عليّ أن أفعل، ولهذا حكيت بصورة غير مفهومة وغامضة. 

– نيكا، لا تزعلي. النفايات القديمة لها سلطة غريبة على الإنسان. أن ترمي نظارات قديمة مكسورة يعني اعتراف بأن عالم كامل، شوهد من خلالها، بقي خلف ظهرك… نيكا، لو أنك تفهميني…إنّ حطام الماضي يصبح شبيهاً بالمرساة، التي تربط الروح بما لم يعد موجوداَ. 

 تطلعت إليها من وراء كفي ورأيت كيف هي تتثاءب. اللهيعلم بأي شيء كانت تفكر، لكن كلامي لم يتسلل إلى رأسها الجميل الصغير- إذ كأني أتكلم مع الأريكة التي كانت تجلس عليها.  

  كنت في ذلك المساء لطيفاً مع نيكا بشكل مميز، ولم ينفك عني شعور بأن يديّ الملامسة لجسدها، بالنسبة إليها تختلف قليلاً عن الأغصان التي تلامس جنبيها أثناء تجوالنا في الغابة – آنذاك كنا نتنزه معاً. 

  كنا جنباً معاً كل يوم، لكني أدركت تماماً أننا لن نصبح قريبين بشكل حقيقي أبداً. إنها حتى لم تحرز ان في اللحظة التي تلصق بها جسدها المرن على طريقة القطط، قد أكون في مكان آخر تماماً، متناسياً وجودها على الإطلاق. وهي في الحقيقة تافهة جداً، ومتطلباتها كانت فيزيولوجية بحتة: أن تملأ كرشها وتأخذ قسطاً كاملاً من النوم وتحصل على الكمية اللازمة من الحنان للعيش. كانت تغفو ساعات أمام التلفاز، من دون ان تنظر تقريباً الى الشاشة، وتأكل كثيراً – بالمناسبة، هي تفضل الطعام الدسم – وكانت تحب النوم كثيراً، لم أتذكر اني رايتها مرة مع كتاب. لكن الجمال الطبيعي والشباب أضفيا على جميع مظاهرها إلهاماً وهمياً؛ وفي وجودها الحيواني اذا أمعنا النظر – كانت ملامح انسجام سامٍ ونَفَسٍ طبيعي لما يسعى خلفه الفن بلا أمل وصرت أتخيل أنها جميلة حقاً. واني ادركت بالذات قدرها البسيط، وأنَّ كل ما بنيت عليه حياتي الخاصة – ما هو إلا بدعة ومن اختلاق آخرين. وفيوقت ما كنت أحلم بمعرفة رأيها بي لكن لا طائل من الحصول على جواب منها، ولم يكن لديها دفتر يوميات حتى أقرأه خلسة. 

   وفجأة لاحظت أني مهتم بعالمها. كانت لديها عادة الجلوس طويلاً عند النافذة والنظر الى الأسفل؛ وذات مرّة وقفتُ خلفها ووضعت كفي على قفاها – فارتعشت قليلاً، لكنها لم تتنحَّ -وحاولت أن احرز إلى أي شيء تنظر، وماذا يمثل لها ما تنظر إليه. 

   كان أمامنا فناء مسكوبي عادي – رقعة رملية للعب الأطفال يحفر فيها طفلان، وعارضة لتنظيف السجاد، وبيت خشبي للأطفال، وحاوية للقمامة وأغربة (غربان) وسارية مصباح. 

   يا الهي، فكرت وأنا احتضن نيكا، كم كان بمقدوري أن أتحدث مثلاً، عن رقعة الرمل؟ وعن حاوية القمامة؟ وعن المصباح؟ لكن هذا، كله سيكون عالمي الذي تعبت من رتابته والذي لا مناص لي منه. لكن أي روح روحها؟ 

   إن اهتمامي القصير المدة بحياتها الداخلية، التي استطعت التغلغل إليها، بغض النظر عن كون نيكا نفسها كانت تحت سلطتي كلياً، يُفسًر، على ما يبدو، بسعيي للتغيير والتخلص من الأفكار التي تدوي دائماً في رأسي. الحقيقة، لم أشهد من زمن طويل أي شيء جديد، وكنت آمل أني عندما أكون لجانب نيكا سأرى  طرق إحساس وعيش غير مألوفة لي. 

– اسمعي، يا نيكا، – قلت وانا أتنحى جانباً، – أني لا يهمني لماذا أنت تنظرين في النافذة، وماذا ترين.

    نظرت الي وعادت ثانية الى النافذة – يبدو، أنها تمكنت من أن تعتاد على فلتاتي. إضافة لذلك إنها لا تبالي تماماً بكل ما أقول على الرغم من أنها ما كانت لتعترف بذلك أبداَ. 

   اندفعتُ من تطرف إلى آخر. وبعد أن اقتنعت أن سر عينيها الخضراوين هو-  ظاهرة بصرية محضة، أحست أني اعرف عنها كل شيء، وتعلقي بها كسره احتقار خفيف، لم أخفه تقريباً، حاسباً أنها لن تلاحظه. لكن سرعان ما شعرت أنها تتضايق من انعزال حياتنا وتصبح عصبية وتشعر بالإهانة. 

   حل الربيع، وكنت طوال الوقت تقريباً جالساً في البيت، وهذا الأمر جعلها تقضي الوقت الى جانبي، وقد اخضر العشب المقابل للنافذة. لا أتذكر، متى تنزهت آخر مرة من دوني، لكني أذكر مشاعرها بهذا الصدد- فقد سمحت لها بلا أي قلق من طرفي بعد أن طردت من راسي فكرة خاملة عن ضرورة أن نذهب معاً. 

  ليس لأني صرت أملُّ من عشرتها – بل أخذت بكل بساطة أتعامل معها كما تعاملت معي في بداية الأمر- كما لو كانت كرسياً أو نبتة صبار على رف النافذة أو غيمة مستديرة تبدو من النافذة. ولكي أبقي وهم الاهتمام السابق، عادة، ما كنت أشيِّعها حتى الباب المؤدي إلى السلالم، متمتماً معها بشيء فارغ ومبهم، ثم أعود راجعاً؛ لم تهبط مطلقاً بالمصعد، بل كانت تنزل على السلم راكضة بخطوات سريعة غير مسموعة – وأعتقد أنه لا يوجد في هذا أي ظل دلع رياضي؛ إنها فعلاً شابة ومفعمة بالقوة، بحيث من الأسهل عليها أن تركض ثلاث دقائق هابطة على السلالم من دون أن تلامسها تقريباً، بدلاً من أن تضيع هذا الوقت بانتظار صندوق أزّاز شبيه بالتابوت.

   انتابتني الرغبة بمعرفة الى أين تسير- على الرغم من أنني لم أرد قطعاً أن أتجسس عليها، لكني كنت مستعداً لأن آخذ الناظور بيدي بعد عدة دقائق من خروجها؛ ولم اقنع نفسي أبداً ان ما أقوم به، أخلاقي. سلكَ خط سيرها في ممر الأشجار، وبجانب المقاعد، وأكشاك المشروبات ومن ثم استدارت خلف ركن عمارة عالية خضراء تتكون من 16 طابقاً – حيث تبدأ الغابة خلف قطعة أرض ترابية قفر. وبعد ذلك أضعتُ أثرها، و- يا إلهي!- كم كنت متأسفاً على كوني لم أستطع لعدة ثواني أن أجدها وأرى من جديد ما لم أعد أراه. وقد فهمت فيما بعد، أني رغبت ببساطة أن أكف عن سلوكي المعتاد، أي أن أترك أسلوب الحياة هذا. 

   لم أتصور ولا مرة واحدة احتمال وفاتها فكل ما فيها كان منافياً لمعنى هذه الكلمة؛ كانت هي حياة مكثفة، كما يكون الحليب مكثفاً. لهذا لم يترك موتها علىَّ انطباعاَ محدداَ. إنه ببساطة لم يسقط على ذلك الجزء من وعيي المرتبط بالأحاسيس ولم يصبح عاملاً حسّاساً؛ من المحتمل، أنه كان ردة فعل نفسية من نوع خاص على كون تصرفي هو سبب كل شيء. الحقيقة، أني لم أقتلها بيدي، لكني أنا من دفع عربة القدر المخفية التي داهمتها بعد أيام كثيرة، أنا المذنب بسلسلة الأحداث الطويلة التي بدأت، وتكللت نهايتها بمصرعها. فالكلب باتريوت صاحب البوز الذي يسيل منه اللعاب، والجبين المرتد إلى الأعلى ذو الوبر الكث – آخر ما شاهدَتْه في حياتها، – صار تجسيداً ملموساً لموتها، هذا كل ما في الأمر. من الغباء البحث عن مذنب؛ فكل حكم جنائي يجد بنفسه الجلاد الملائم للتنفيذ، وكل واحد منا- مشترك بحملة قتل جماعي؛ العالم فيه كل شيء متشابك، والعلاقات النتائجية السببية غير قابلة للتجديد. من يعرف، هل نتسبب نحن بجوع أطفال زنجبار، عندما نتنازل عن مكاننا في المترو الى عجوز حاقدة؟ 

  لاحظت منذ زمن طويل أنها، في الليالي، تخرج لبرهة الى مكان ما. وتوقعت أنها بحاجة الى نزهة قصيرة قبل النوم، أو الى بضع دقائق من الحديث مع نيكات أخرياتشبيهات بها يجتمعن مساءً حول المصباح أمام مدخل العمارة، حيث كان يصدح دائماً جهاز التسجيل لأحدهم. والظاهر، أنه كان لديها صديقة تدعى ماشا- شقراء وحرِكة؛ رأيتهما مرتين معاً. لم يكن لدي أي اعتراض على هذا، وحتى أني تركت الباب مفتوحاً حتى لا توقظني بالجلبة التي تحدثها في الممر المظلم، ورأت أني أعرف نزهاتها الليلية. والإحساس الوحيد الذي عانيت منه، حسدي المتعلق بكوني للمرة الثانية تتلاشى أمامي بعض حدود العالم، – لكن لم يدر في خلدي قط أن أذهب معها؛ وفهمت، إلى أي درجة سأكون غير لائق في شلتها. ومن المستبعد ان تبدو لي جماعتها ممتعة، ولكن على كل حال شعرتُ قليلاً بالإساءة، لأن لديها جماعة لا يُسمح لي باختراقها. وعندما أفقتُ من النوم والكتاب على ركبتيّ ورأيت أني وحيد في الغرفة، انتابني فجأة شعور بالرغبة للنزول قليلاً الى الأسفل، وتدخين سيجارة على الدكة مقابل مدخل العمارة؛ وقررت، إذا ما رأيت  نيكا، فلن أبيِّن علاقتنا  مطلقاً.

   لم يكن أمام العمارة أي أحد، وفجأة لم افهم، لماذا كنت واثقاً أني سألاقيها. كانت أمام الدكة واقفة «مرسيديس» رياضية بُنيّة اللون- لاحظتها أحياناً في الشوارع المجاورة، وأحياناً أمام مدخل عمارتنا؛ أي أنها السيارة نفسها، وهذا واضح من الرقم السهل الحفظ – «ج ل ف» أو «ص ل ف» وتناهت الى سمعي من الطابق الثاني موسيقى هادئة، والأغصان كانت تتمايل – قليلاً بفعل الريح، ولم يكن هناك أي ثلج في المكان من حولي؛ فكرت أنَّ الصيف سيحل قريباً. لكن الجو لم يزل بارداً. 

  عندما عدتُ الى العمارة، ألقتْ عليّ نظرة استهجان عجوزٌ كأنها وردة يابسة، كانت تقوم بالحراسة، – فقد حان وقت قفل مدخل العمارة. 

   أخذت عند السلالم نفساً عميقاً من السيجارة، وفتحت باب السلم، كي اقذف عقب السيجارة في الدلو، فسمعت أصواتاً غريبة في قاع السُلَّم، انحنيت على الحاجز ورأيت نيكا. 

   لو كان إنسان آخر ذو حس مرهف ونفسية هادئة أكثر، لقال، ربما، أنها اختارت هذا المكان بالذات- القريب جداَ من شقتها-، للحصول على متعة ما وراحة من الاستهزاء بالموطن العائلي. لم يدر هذا في خلدي- كنت أعرف انَّهذا كان صعباً للغاية على نيكا، لكن ما رأيته أثار عندي تقززاً غريزياً. جسدان منسجمان يعملان بجنون على ضوء مرتجف لمصباح معطلّ تراءيا لي كماكنة خياطة حية، والزعيق الذي يصعب عدّه أصوات كلام بشري، تصورته صرير تروس مسننة غير مدهونة. لم اعرف كم من الوقت استغرقت رؤيتي لهذا كله، ثانية واحدة أم عدة دقائق. وفجأة رأيت عينيّ نيكا، فرفعت يدي ذاتها الغطاء الصدئ لدلو القمامة الذي اصطدم بعد لحظة بالحائط محدثاً قعقعة وهوى على رأسها. 

   يبدو أني أخفتهما جداً. اندفعا راكضَين نحو الأسفل، واستطعت أن أعرف مَن كان مع نيكا. كان ساكناً في عمارتنا وحدث أن صادفته عدة مرّات على السلَّم عندما كنت اغلق المصعد،- عيناه غير معبرتين وشاربه تافه لا لون له، وهيأته مليئة بعزة نفس رأيت مرةً كيف ينبش في دلو القمامة من دون ان يفقد تلك الهيأة، مررّت بجانبه، فرفع بصره ونظر إليّ باهتمامٍ بعضاً من الوقت؛ وعندما هبطت عدة سُلّمات واقتنع أنّي لا أشكل منافساً له، دوّت خلف ظهري من جديد خشخشة قشور البطاطا، التي كان يبحث عن شيء فيها. خمّنت منذ زمن طويل- أن نينا تحب أولئك الذين على شاكلته، الحيوانات بمعنى الكلمة، وستظل دائماً تنجذب نحوهم، أولئك الذين تشبههم على ضوء القمر او أي ضوء آخر كان.

   إنها، في الحقيقة، لا تشبيه أحداً، فكرت وأنا افتح باب الشقة، فاذا ما نظرت إليها بدت لي تحفه فنية عصرية من نوع خاص- المسألة هنا لا تتعلق بها، بل بي أنا، منْ يتراءى له. فكل الجمال الذي أنظر اليه محصور في قلبي، لأن فيه الشوكة الرنانة، التي بواسطة نغمتها التي يصعب التعبير عنها، أقارن كل ما سواها. 

   لم تأتِ نيكا الى البيت في الليل، وفي الصباح الباكر، بعد أن أغلقتُ الباب بجميع الأقفال، غادرتُ المدينة لمدة أسبوعين. وعندما عدت استقبلتني عجوز من كشك الحراسة في العمارة وردية الشعر، وقالت لي بصوت عالٍ، وهي تتطلع في وجوه ثلاث عجائز أخريات، يجلسن على شكل نصف دائرة حول طاولتها على كراسٍ جُلبن من الشقق، أنَّ نيكا جاءت عدة مرات لكنهما لم تتمكن من دخول الشقة، وفي الأيام الأخيرة لم تعد تُرى. صار العجائز ينظرن إليّ بفضول، فمررت بجانبهن مسرعاً؛ وعلى كل حال لاحقتني الى المصعد ملاحظات حول صفاتي الأخلاقية. شعرت بالقلق لأني لم أتصور مطلقاً، أين أبحث عنها، لكني كنت واثقاً أنها ستعود؛ كانت لدي مشاغل كثيرة، وحتى المساء لم أتذكرها ولا مرّة، وفي المساء رن جرس الهاتف، فعجوز كشك الحراسة، التي قررت علناً المشاركة في حياتي، قالت أنَّ اسمها تاتيانا غريغوريفنا، وأنها قبل هنيئة رأت نيكا في الأسفل. 

    الإسفلت قُبالة العمارة بدا أسوداً أمام ناظري- فقد كان يرذ المطر الناعم. لم تكن نيكا موجودة استدرتُ حول الركن وسرت باتجاه الغابة، التي لا لا تزال غير مرئية خلف العمارات. لم أكن أعرف بصورة أكيدة الى أين أنا ذاهب، لكني كنت واثقاً أني سألاقي نيكا. وعندما وصلت الى آخر عمارة قبل الأرض القفار المتروكة توقف المطر؛ استدرتُ حول الركن. كانت واقفة أمام “المرسيديس” البنية ذات الرقم الجلف المتوقفة بحذاقة غندور- إحدى العجلات كانت على الرصيف. الباب الأمامي كان مفتوحاً، وخلف الزجاجة يدخن رجل شبيهه بستالين في شبابه يرتدي سترة مقلمة جميلة. 

– مرحباً، نيكا !، – قلت وأنا أتوقف. 

  تطلعتْ في وجهي وكأنها لا تعرفني. فانحنيتُ الى الأمام، واستندت بكفّي على ركبتيّ. دائماً ما قيل لي، أنَّ هؤلاء الذين على شاكلة نيكا، لا يغفرون الإساءة، لكني لم آخذ تلك الكلمات بجدية – ربما، لأنها سابقاً سامحتني على الكثير من الإساءات. أدار الرجل الذي في “المرسيديس” وجهه نحوي بتقزز، وعبس قليلاً . 

– نيكا، سامحيني، ماذا تقولين؟ – حاولتُ ألّا أهتم له، وهمستُ ومددتُ يدي اليها. أنكست هي رأسها وكأنها تفكر وفجأة اعتقدتُ بسبب شيء صغير غير محدد، أنها الأن ستخطو نحوي ستخطو عن هذه «المرسيديس» المسروقة، وسائقها الذي اخترقتني نظرات عينيه اللتين لونهما كلون غطاء السيارة، وبعد بضع دقائق سأحملها على يديّ من جانب العجائز الى مدخل عمارتنا؛ وفي الخيال أخذت على نفسي عهداً أني لن اتركها تذهب الى أي مكان لوحدها. افترضت انها تخطو نحوي، وهذا واضح وضوح الشمس، لكن نيكا فجأة خطت مبتعدة جانباً وتناهى اليّ من الخلف صوت طفل مذعور: 

– توقف! أقول لك،  قف!

   ألقيت نظرة فشاهدت كلباً كبيراً، يركض في المرج نحونا مسرعاً بصمت؛ صرخ صاحبه، وهو صبيٌ عليه قبعة ذات حافة، ملوحاً:

– باتربوت! عد! الى رجلي !. 

   أتذكر بشكل ممتاز تلك الثانية الممتدة – الجسم الأسود المسرع بدناءة على العشب، والشخص ذا اليدين المرفوعتين، وعدّة المارة الذين توقفوا ينظرون باتجاهنا؛ وأتذكر الفكرة التي ومضت في ذهني في تلك اللحظة، إنه حتى الأطفال ذوي القبعات الأمريكية يتكلمون عندنا برطانة رجال معسكرات الحدود. وزعق من الخلف بشكل حاد صوت فرامل، وصرخت امرأة؛ وبعد أن بحثت عن نيكا ولم أجدها أمام ناظريّ، عرفت بما جرى. السيارة – من نوع “لادا” بملصقات ساطعة على الزجاجة الخلفية – أسرعت ثانيةً؛ يبدو ان السائق خاف، رغم انه لم يكن مذنباً. وعندما اقتربتُ راكضاً، كانت السيارة قد توارت خلف المنعطف؛ لاحظتُ بطرف عيني الكلب الراكض الى الخلف نحو صاحبه. لا أعرف من أين ظهر في المكان عدد من المارة الذي كانوا ينظرون باهتمام شره الى الدم الساطع بشكل غير طبيعي على الإسفلت المبلل. 

– يا له من وغد،- قال خلف ظهري صوت ذو لكنة جورجية.- لقد ذهب بعيداً. 

– يجب أن يُقتل أمثاله، – نوهّ، صوت نسائي آخر. 

   ازداد الحشد خلفي؛ وشاركت في الحديث عدة أصوات أخرى، لكني كففت عن الإنصات اليهم. هطل المطر من جديد، وأخذت تسبح في المروج فقاعات شبيهة بأفكارنا وأمالنا وأقدارنا؛ وحملت الريح القادمة من جانب الغابة أوائل روائع الصيف، المليئة بطراوة يصعب وصفها وكأنها تَعد بشيء لم يكن موجوداً قط. لم أشعر بالخطب وكنت هادئَ بشكل غريب. ولكنّي وأنا أتطلع بذيلها الغامق الملقى بلا حراك، وجسدها الذي حتى بعد الموت لم يفقد جماله السيامي الخفي، أيقنت أنه مهما تغيرت حياتي ومهما كان غدي، ومهما تبدّل ما أحب وأكره، سوف لن أقف عند نافذتي وفي يديً قطة أخرى. 

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com