مقالات

رؤية فالنتين راسبوتين لروسيا الحقيقية

ولد فالنتين غريغوريفيتش راسبوتين عام 1937 في إحدى قرى مقاطعة إركوتسكايا في سيبيريا في عائلة فلاحية. أكمل تعليمهالجامعي عام 1959 بكلية اللغة والتاريخ. واشتغل بالصحافة للفترة من عام 1958 إلى عام 1966.

  نشر أول نتاج قصصي له عام 1961 بعنوان ((نسيت أن أسال ليوشكا …)). تدور إحداث القصة حول مجموعة شباب تسقط على احدهم شجرة صنوبر في احد أماكن تصنيع الأخشاب في الغابة، ويسّوَد مكان الإصابة فيأخذه أصدقائه إلى المستشفى التي تبعد خمسين كليومتراً مشياً على الإقدام. وفي محاولة لتخفيف الألم عليه يقوم أصدقائه بتوجيه أسئلة حول مستقبل الشيوعية لكن ليوشكا تسوء حالته أكثر ويموت قبل الوصول إلى المستشفى. لكن أصدقائهيتحسرون لأنهم لم يوجهوا له سؤال إن كان يتذكر أسماء العمال البسطاء على شاكلتهم … تمتاز هذه القصة بخصائص تبقى ملازمة لراسبوتين في جميع إعماله الأدبية مثل: الطبيعة المتفاعلة بطيبة مع ما يختلج في نفسية البطل، والتأمل المحير بمواضيع العدالة والذكريات والقدر.

​لقد أتاح العمل بالصحافة لراسبوتين اكتساب تجربة حياتية وعلَّمته كيف يقف على رجليه بثبات. إذ كانت مواضيع مقالاته حول المشاريع الكبيرة من أمثال خطوط سكك الحديد العملاقة في سيبيريا والمحطات الكهرومائية فيها وحول الجهد والبطولة التي يبذلها الشباب.

​صدرت له في عام 1966 مجموعتين قصصية الأولى بعنوان: ((ناحية قرب السماء)) و الثانية ((أصحاب مشاعل المدن الجديدة))، و اصدر في عام 1967 ((إنسان من هذا العالم)). جلبت له شهرة واسعة قصته الطويلة ((نقود لماريا)) التي صدرت عام 1067. إن فكرة القصة الأساسية تكمن في تغلب الخير العدالة على عالم الجشع والاستبداد وهذه الفكرة هي ابرز ما في إبداع الكاتب.

​الإحداث التي يرويها الكاتب تجري في سيبيريا. قد رسم المؤلف صوراً نفسية دقيقة للإبطال من معاصريه كاشفاً أسرار طبيعة الإنسان السيبيري. إن الموضوع الرئيس في القصة هو علاقة الفرد بمصيبة غيره. إذ تقع المصيبة على رأس بائِعة المخزن الريفي ماريا وهي أم لأربعة أطفال، تتعرض بسبب عدم الخبرة إلى نقص في دخل المخزن الحكومي بمبلغ إلف روبل. وهذا المبلغ لا يوجد ليس عند الأسرة فقط بل عند القرية كلها. يحاول كوزما زوج ماريا جمع هذا المبلغ خلال ثلاثة أيام من الأقارب والأصدقاء. 

​تثير قصة ((نقود لماريا)) انتباهنا بتعقيد الصراع فيها وجدَّته ودقة حله. وحقاً قام الكاتب عندما رسم شخصياته بتغليب الصفة العامة على ما هو فردي ومميز حين عرض صفات ماريا التي زادتها مصيبتها قوة وكوزما المجتهد وغالكا الثرثارة – الفارغة والجد غوردي الرزن وفاسيلي الذي يلبي الدعوة للمساعدة في مواجهة المصيبة. ويبقى التساؤل هل نجح كوزما بجمع المبلغ المطلوب؟ واذا لم يجمعه فماذا سيحصل؟ حصل راسبوتين بعد نشره ((نقود لماريا)) على عضوية اتحاد الكتاب السوفيت. واكتسب شهرة وصارت أعماله الجديدة مادة للنقاش وحدثاً بارزاً في الحياة الأدبية للبلاد. وتعززت مكانة راسبوتين بوصفه كاتباً من خلال قصصه ((الميقات الأخير)) (عام 1970)، ((عش وافتكر)) (عام 1975)، ((توديع ماتيورا)) (عام 1976). أما قصته ((الحريق)) (1985) فقد عُدَّت إحدى أهم نتاجات المرحلة الأولى من البريسترويكا (إعادة البناء). وقصة ((ابنة ايفان، ام ايفان)) (عام 2004) التي تُعَد واحة من أفضل أعمال الكُتّاب الروس في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي.. 

​صدرت نتاجات راسبوتين مرات عديدة وبنسخ كبيرة وذكرت مجلة ((قضايا الكتب)) انه منذ عام 1987 نُشِر في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق أكثر من 80 كتاباً له بمجموع نسخ تجاوز ستة ملايين.

​تحمل مواقف الكاتب الاجتماعية في حقبة البريسترويكا وروسيا الديمقراطية طابعاً متحفظاً. حيث وقَّع فالنتين راسبوتين عدة وثائق مضادة للبريسترويكا من بينها الرسالة التي ادان فيها مجلة ((الشعلة)) (صحيفة ((برافدا))، 18 كانون الأول عام 1989)، ((رسالة إلى كتاب روسيا)) (عام 1990)، ((كلمة للشعب)) (عام 1991)، ((وقّفوا إصلاحات الموت)) (عام 2001).

​قرن راسبوتين إبداعه الأدبي بالنشاط الاجتماعي. فهو عضو في مجلس النواب للاتحاد السوفيتي (1989 – 1992)، وعضو مجلس الرئاسة السوفيتي (1990 – 1991)، ورئيس مشارك لدوما المجلس الوطني الروسي (منذ عام 1992)، ومجلس منظمة الأدب السولافي، والثقافات السولافية ولعدد أخر من منظمات المجتمع المدني.

​فالنتين راسبوتين متحصِّل على جائزة الدولة للاتحاد السوفيتي. ويحمل أوسمة لينين (1984 و 1987)، ونوط ((تعزيز المضمون الحربي)) (عام 2000). ومُنِحَ في عام 1987 لقب بطل العمل الاشتراكي.

​ونال عدة جوائز أدبية منها: جائزة ليف تولستوي (عام 1992) وجائزة بلاتونوف (عام 1995) وجائزة سولجنيتسين (عام 2000) وجائزة دوستويفسكي الدولية (عام 2001)، وجائزة جمعية التأليف الروسية (عام 2003)، وجائزة رئيس روسيا (عام 2003)، وجائزة أبناء روسيا الأمناء (عام 2004) وجائزة المسابقة السنوية ((لأفضل رواية أجنبية في القرن الواحد والعشرين)) (الصين، عام 2004)  وجائزة إكساكوف (عام 2005) وجائزة القديسين الارثدوكسيين كريل وميفوديا (عام 2006) وجائزة المسرح الدولي (عام 2007) وغيرها من الجوائز الأخرى.

نبذة مختصرة عن إعماله الأساسية:

قصة ((الميقات الأخير)) (عام 1970)

​تصور القصة الأيام الأخيرة من حياة امرأة روسية قروية – هي العجوز أنّا، التي كرست حياتها كلها للعمل الشاق وللاهتمام بأولادها. وبعد إن تشعر بدنو اجلها تطلب رؤية أبناءها للمرة الأخيرة.

​بقي منهم خمسة على قيد الحياة برغم أنها ولدت أكثر من ذلك حيث قضى بعضهم موتاً والبعض الأخر قضت عليه الحرب لكن بقي ثلاث بنات وولدين. إحدى بناتها كانت تعيش في المنطقة نفسها والأخرى في المدينة أما الثالثة فتسكن بعيداً جداً – في  كييف. ابنها الأكبر استوطن في المدينة بعد ان عاش في الشمال الذي ظل فيه بعد تسريحه من الجيش. وكانت العجوز تعيش مع ابنها الصغير ميخائيل، الوحيد الذي لم يغادر القرية، ساعيةً إلى عدم إزعاج أسرته بشيخوختها.

​يرسل الابن الأصغر برقيات إلى أخواته وأخيه لكي يأتوا. على الرغم من أنَّ الأولاد لم يقوموا بزيارة العجوز منذ مدة طويلة لكنهم جميعهم/ ما عدى تاتيانا، يؤجلون أعمالهم ومشاغلهم اليومية ويصلون إلى القرية. غير أنهم يفعلون ذلك بضغط الواجب لا بدافع الشفقة على الوالدة ورد الجميل لها. ما أن يتعدى الأولاد عتبة دارهم حتى يبدؤا مباشرة حل أهم مشكلة بنظرهم: كم سيحتاجون من الفودكا لمجلس العزاء وأين يمكن الحصول عليها. وبعد أن يتمكنوا من حل هذه المعضلة غير القابلة للتأجيل يبدأ الرجال شرب الفودكا ويسكرون. أماالبنت لوسيا فتعود مباشرة بعد أن تجد والدتها لا تزال على قيد الحياة. لكن العجوز تشعر بمَدد من القوة بعد أن تسعد بمشاهدة أبناءها من جديد. هؤلاء الأبناء الذين ولدتهم وربتهم ورعتهم. ويعطيها الموت إجازة.

​يرى الكاتب أن ضياع أفضل المشاعر الإنسانية وتحلل الأواصر الأسرية العريقة والجفاء والجفاف الروحي – هي ملامح الإنسان المعاصر ويعتبرها تهديداً لوجوده.

قصة ((توديع ماتيورا)) (عام 1976)

​إذا كانت بطلة قصة ((الميقات الأخير)) هي العجوز التي تحتضر فإنَّ الكاتب يصور في ((توديع ماتيورا)) القرية المحتضرة إن صح التعبير.

​كانت على مدى عشرات السنين توجد قرية تسمى ماتيورا تقع على جزيرة فاتنة بسحرها وسط نهر انغارا في سيبيريا. وقد ظن أول رجل استوطنها قبل ثلاثمائة سنة انه لا توجد ارض أفضل منها لكي يبحث عنها. وكانت الجزيرة تمتد على مسافة خمسة فراسخ. ولكن هاهو الربيع الاخير لماتريونا يحل. حيث يقام سد على النهر لبناء محطة كهرومائية، ويتسبب هذا السد بغرق القرية. ويتوجب على سكانها الانتقال إلى الضفة اليمنى للنهر – إلى بلدة بناها ((اختصاصيون)) غرباء عن الشعب الروسي بدون حب للناس وبلا تفهّم لحياتهم. إن بناء محطة كهرومائية كبيرة يمثل حاجة ضرورية للبلد لكنه يؤدي إلى غرق آلاف الهكتارات من الأرضي مع بيوتها التي عاش فيها الكثير من الأجيال. وربما يمثل هذا الانتقال إلى البلدة الجديدة بالنسبة للشباب فرصة سعيدة لحياة أفضل لكنه بكل تأكيد يمثل بالنسبة لكبار السن – الفناء.  

​تدور الحوادث في زمن السلطة السوفيتية عندما كانت تُبنى محطات كهرومائية على انهار البلاد الكبرى وذلك لتأمين الطاقة الكهربائية الرخيصة . ولكن يبقى التساؤل هل يستحق التقدم التكنلوجي أن يُحرم الناس، من دون موافقتهم، من الحياة وفق الطريقة التي اعتادوا عليها وقطع جذورهم من الأرض العزيزة عليهم؟هذا ما يطرحه الكاتب في قصته. ومع انه لم يُجب عليه بصورة مباشرة لكنه يوصي لنا بفكرة تقول إن الناس المجتثون من أرضهم يفقدون أفضل الصفات الإنسانية: الطيبة والعطف والمساعدة والتعاون. إضافة لذلك يطرح الكاتب قضية عميقة جداً وهي تسبب منجزات التطور التكلنوجي بتدمير الطبيعة وتخريب البيئة المحيطة بالإنسان إذ أنَّ الناس يحفرون بأيديهم قبور المستقبل للإنسانية بأجمعها. وهذا ما يرمز له اسم الرواية الذي يحمل جذر الكلمة ((مات التي تعني باللغة الروسية الأم)).

​لا تزال هذه القصة التي ألفها راسبوتين قبل أكثر من ثلاثين سنة تحافظ على أهميتها في أيامنا هذه.

قصة ((الحريق)) (عام 1985).

​يمكننا اعتبار قرية سوسنوفكا، التي تجري فيها أحداث القصة، مكاناً مماثلاً للبلدة التي انتقل لها سكان قرية ماتيورا في القصة السابقة. حيث يستذكر بطل القصة الرئيس إيفان بتروفيتش قريته السابقة يغوروفكا التي تشبه بملامحها ماتيورا. حين تجاوز سنوات المجاعة الثقيلة لأن الكل كان متماسكاً ومتعاوناً في الأفراح والأتراح. ويرى راسبوتين أنَّ الصفات الأخلاقية الرفيعة لدى الناس إنما تشكلت هكذا بسبب ارتباطهم الوثيق بالأرض وانشغالهم بأعمال الفلاحة. وبعد استيطانهم هذه القرية أصبحت مهمتهم مهمة أخرى تنحصر ((بسحق الغابة و تدميرها)).

​ولا يتوحَّد الناس في سوسنوفكا حتى عندما يشب الحريق فيها ولا تجمعهم المصيبة الشاملة للكل. ولا يهب لإطفاء الحريق إلا القليل من الناس. فالقسم الأكبر منهم ذهب جانباً. أما معدوموا الضمير فقداستغلوا هذه المصيبة لصالحهم. وتستشري في القرية أعمال السرقة والسكر والعربدة و للامبالاة بالحياة. جرت هذه الرذائل جميعها بسبب اجتثاث الناس من أرضهم كالذي حدث في ((توديع ماتيورا)).

​يجمع قصص راسبوتين الثلاثة الطويلة هذه موضوع القلق على الأسس الأخلاقية للوجود الإنساني وتحذير الناس من ضياع قيم الحياة الحقيقية.

قصة ((دروس اللغة الفرنسية)).

​يسترجع الراوي في هذه القصة القصيرة ذكرياته في السنة الحادية عشرة من عمره: ((دخلت الصف الخامس في عام ثمانية وأربعين)). ولأن مدرسة القرية الابتدائية لا تحتوي إلّا على اربع مراحل توجَّبَ عليه أن يغادر إلى مركز القضاء للاستمرار بالدراسة وأن يبدأ الحياة المستقلة.

​يعرض الكاتب الحياة القاسية لسنين ما بعد الحرب العالمية الثانية ومعاناة الناس من الجوع وكيف كانوا يأكلون كل شيء لسد رمقهم وعدم الشعور بالجوع وذلك من خلال جوع الطفل بطل القصة. ونلاحظ كذلك معاناة الطفل الدائمة واشتياقه الى أسرته. وخوفه من الحرب على الرغم من أنَّ المدافع لم تطلق نيرانها منذ فترة.

​دائماً ما كان يسيء المراهقون معاملته خاصة عندما يُجبَر على لعب القمار معهم من اجل الحصول على مبلغ لشراء الحليب. فهو يعيش في أجواء الجوع والخوف ومع ذلك يتميز بدراسته. والإنسان الوحيد الذي يتعاطف معه هو مُدرسة اللغة الفرنسية ليديا ميخايلوفنا، برغم أنَّ مادتها ليست سهلة على هذا الطفل الموهوب. عرضت عليه المدرسة دروساً خصوصية لتقويته وكانت في كل مرة تقدم له الأكل لكن كرامته تمنعه من تناول الطعام. فحاولت المدرسة مساعدته دون المساس بكرامته من خلال لعبة قمار بسيطة يشرحها كاتب القصة. لكنها تتعرض للفصل من المدرسة لأن لا احد يستطيع أن يفهم ذلك بسبب طيبتها ومواساتها للطفل الجائع. إن دروس الرحمة التي كانت تعطيها هذه المدرسة للطفل والتي يتذكرها طوال عمره لا تمثل شيئاً للآخرين. 

تقييم المستخدمون: 0.55 ( 1 أصوات)
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com