ترجمة

يوري ماملييف بين السرد والشعر والفلسفة والمسرح


الدكتور تحسين رزاق عزيز

  و.ف. لازارينكو

ترجمة: د. تحسين رزاق عزيز

ولد يوري فيتاليفتش ماملييف في موسكو في عام 1931. وبعد أن أكمل الدراسة في معهد تقنيات الغابات عمل مدرساً للرياضيات في المدارس المسائية. لكن، وفقاً لاعتراف فن الكاتب، «سارت حياته الحقيقة في عالم الأدب غير الرسمی». بدأ ماملييف التأليف في الستينيات ووصلت تجاربه الفنية الأولى الى القارئ عبر الإصدارات الذاتية (استنسخ باليد أو تنضيد على الآلة الكاتبة – م)، فالطباعة الرسمية بدت غير متاحة له بسبب الأسلوب غير الاعتيادي للكاتب الذي سار وفق قوانين السريالية «التي قَوَّضت» الأسلوب المبسط للسرد أحادي البعد الذي يلتجأ الى المبدأ اللاعقلي في الإنسان.

     إن سعي ماملييف ليكون مسموعاً حثه على مغادرة الاتحاد السوفيتي. فقد غادر في عام 1975 الى الولايات المتحدة، ثم استوطن في باريس منذ عام 1983. فتحت الهجرة لماملييف آفاق الوصول الى شريحة  واسعة من القراء: إذ تُرجمت مؤلفاته الى الكثير من اللغات الأوربية. ومنذ عام 1989 اخذ الكاتب ينشر كتبه على أرض الوطن. ففي عام 1990 صدر له  كتاب يحمل مجموعة من القصص القصيرة بعنوان «إغرق رأسي» وفي عام 1991 صدرت كذلك مجموعتان هما:« صوت من لا شيء» و«منزل الخلود». وفي عام 1993 أصدرت دار نشر«تيررا» كتاب لماملييف يحمل عنوان«مختارات» يضم في طياته روايات «المتسكعون» و«المغامرة المسكوفية» وقصته طويلة «جناح الرعب» وقصص قصيرة ألَّفها في سنين مختلفة.

     يرى ماملييف المهمة الأساسية لإبداعه في كشف «اللجج» الداخلية التي تغمر روح الإنسان». لهذا يختار الكاتب البطل الذي يركز على العيش وحيداً والذي يلبي رغباته كاملةً. فمثلاً، بطلة قصة «حكاية سمجة» دكتورة العلوم التربوية آنّا كارلوفا موسكينا التي يغلب عليها شره النهم. والنزعة الأخرى لديها – هي الميل نحو النظرية. إن بشاعة هذا الاقتران تدعو الى دحض النظرة النمطية للإنسان بوصفه كائناً عاقلاً على كبح المبدأ الأعمى للغريزة داخله. يكتشف ماملييف في الإنسان هَوَّة بين ما هو واعي وما هو خارج الوعي ويجد لها تجسيداً صورياً مرئياً.

       بدأ المؤتمر العلمي أعماله في الساعة الحادية عشر. لم تَكد أناّ كارلوفنا تسمع شيئاً مما قاله المتحدثون لأنها كانت مشغولة ببطنها. فقد بدت لها كائناً حياً مشحماً ودافئاً كطفل سمين ملتصق بجسدها. تحسستها وحزتها قليلاً، ومن دواعي سرورها أن سال اللعاب من فمها.

        إن المؤلف وفقاً للمبادئ السريالية يضفي معنى حرفياً على مفهوم «العالم الداخلي» للإنسان، هذا المفهوم الذي يمثل أهمية بالنسبة للأدب الكلاسيكي. وهذه المادية – هي علامة «للأنا» اللاعقلي الحقيقي والخفي الذي يمنهج سلوك الإنسان.

      حدد الاهتمام بالجوانب اللاعقلية للحياة توجُه الكاتب نحو الأنواع الأدبية التي تحافظ على العلاقة الوثيقة مع العالم. إذ يجمع ماملييف عدة نتاجات في سلسلة ميثالوجية فولكلورية (القصص قصيرة «الأزرق» و«حلم في الغابة» وحكاية «يرما الأحمق والموت» وأسطورة ملحمية «النغمة واللعنة»). يعرض المؤلف في نصوص هذه السلسة صعوبة اختراق العالم بالنسبة للوعي العقلي فيمكن للإنسان أن لا يلاحظ القوى العفوية للحياة، لكنه في لحظة معينة من حياته يعنى من غير قصد بما هو خفي وغير مفهوم. وهذا ما يحدث لبطل قصة «الأزرق» نيكولاي ريازانوف المتميز في دراسته، القادم الى القرية بحثاً عن «أسرارٍ رئيسية». «عجوز مرتدٍ للباس أبيض» يقود نيكولاي الى باب سحرية لا ندري أين هي: تارة في مخبأ وتارة في كوخ وتارة في السماء. وما أن يقترب البطل من الباب حتى يستولي عليه تيار خفي ويتخلص من الحنين الى «الأسرار الرئيسية».

    لا يمكن مس الأسرار إلّا في حالات “البدايات”. فالمواقف «التي على الحافة» تجذب إليها ماملييف لأنها تساعد على النفوذ الى داخل “الأنا” وتلقي الضوء على البواعث الحقيقة لتصرفات الإنسان.

    يطور ماملييف في قصته القصيرة «مدبر المنزل قبل الوفاة» موقفاً «ابتدائياً» بصورة نمطية – ففي القصة شخص بانتظار نهايته لكنه يدخل في تأويله لمسات جديدة. إذ يتخلى الكاتب عن المعيار الأخلاقي في تقييم الإنسان الرافض للظروف الاستثنائية. وان سلوك الإنسان، حسب تصور الكاتب، في مثل هذه الظروف لا يمليه إيحاء العقل أو اندفاع القلب بل قوة غير منطقية سابقة للتقييم في أساسها.

   بطل القصة مدبر المنزل دميتري ايفانوفيتش موخييف يكتشف انه مريض بالسرطان. فيبرز أمامه بانفعال حاد سؤال: كيف يدافع عن نفسه أمام النهاية المقتربة؟ فبدأ العجوز بالبحث عن أشكال أرضية للخلود. و«يشرح» المؤلف بشكل غريب البحث الروحي للبطل، جاعلاً أساس القصة مسار التحطيم المتتابع لأوهام موخييف – وأول الأوهام التي تتحطم – هو الوهم بأن الإنسان يقاسي من أفعاله. فالبطل يستعلم عن هدم المنازل التي كانت تحت إدارته على امتداد سنين عديدة. والوهم الآخر – هو الحب الخالد. عندما يصف المؤلف المشاعر الدنيوية التي مرت بدميتري ايفانوفيتش في نهاية عمره فإنه يحوّل الرومانسية الى حياة، مؤكداً على سذاجة وقذارة مادة الحب – أي زوجة مدبر المنزل باربارة الملقبة «بالجلد» بسبب طبيعتها الحقودة. وعند تقاطع السامي والداني يتولَّد العالم الذي تظهر فيه على السطح القوى غير المنطقية المخفية في السابق التي تُخضع الإنسان لها. يذهب الحب مولياً بينما البطل يستبصر ويسلم لعظمة المجهول.

        إن عدم انسجام الداخلي والخارجي، التجريبي والميتافيزيقي يشكل، وفقاً لفكر الكاتب مادة لمعاناة الإنسان الرئيسية في الحياة. تتجسد تلك المعاناة في رواية «المتسكعون» بشكل سؤال خالد: في أي شيء يكمن مغزى الموت؟ لغز الموت بالنسبة لأبطال ماملييف – هو لغز تحلل للكامل وتفكك لارتباط الروح والجسد. يحاول الناس فهم سر وجود الروح بعد الموت – سر «ذلك» العالم في صور «هذا» العالم، وهنا يقعون في إشكال مختلفة من التطرف ابتداءً من الماسوشية السادية والنرجسية وانتهاءً بالتصوف. في الرواية كثير من الأبطال، ومصير كل واحد منهم – هو أحد خيارات الانتقال الدنيوي الى المجهول. يقوم البطل الرئيس فيدور سونوف بقتل الناس (تبدأ الرواية بمشهد قتل عابر سبيل) لكي يشعر بالطابع الروحي فيهم.

    ما أن يختفي الإنسان الذي قتله، حتى يتحول من مادة للانفعال والألغاز بالنسبة لفيدور الى كائن هادئ ومقدس وان كان غير مفهوم.

    آنّا وهي إحدى معارف سونوف تحلم بتسجيل علمي للموت «الميتافيزيقي»، وضيف آخر في منزل سونوف وهو الشاعر غينادي ريمين يؤلف «انشودة جثمان»، والطفل بيتينكا يأكل نفسه بالمعنى الحرفي للكلمة لكي يشعر جسدياً بالانتقال الى «هناك». وتؤدي دوراً كبيراً في النص حوارات الأبطال الذين يناقشون حل مشكلة الموت. لا تخلو الرواية من حدة البحث الفكري الفلسفي الذي امتاز به الأدب الروسي (لاسيما في إبداع دوستويفسكي) لكنها تقدم هنا بشكل لعبة سريالية تصور دراماتيكية التشبث الشخصي بالأفكار. وتبرز في الوسط التجريبي للرواية («…كنت أصف عادة أشخاصاً استثنائيين في ظروف استثنائية» – إعترفَ ماملييف ذات مرة) خطتان لتوطن الفكرة: هما الجسدية الثورية والعقلية الانعكاسية. وبينهما – فراغ وفسحة ربما لأن أبطال ماملييف غير حساسين للألم الروحي. وعدم الإحساس هذا يعرضه المؤلف كحالة مرضية تؤدي بالإنسان الى الوهم الذاتي والى الابتعاد عن الواقع.

    يعيد يوري ماملييف في نتاجاته حساب الخطوات الأخيرة لوجود الإنسان ناظراً بذلك في الأعماق الداخلية للروح.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com