مقالات

رئيسنا كردي… مفارقة المنصب.

بيدر ميديا.."

رئيسنا كردي… مفارقة المنصب

صادق الطائي
 

 

عندما جلس الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني على مقعد رئيس مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بغداد عام 2012 كان لافتا أن رئيسا كرديا يرأس مؤتمر قمة للدول العربية، لكن الأمر كان حينذاك مقبولا ومستساغا بالنسبة للكثيرين في العراق، نظرا لما يمتلكه الرجل من قبول، وكاريزما، ودور فاعل في محاولة لملمة شعث مرحلة ما بعد صدام، والانطلاق إلى مرحلة بناء هوية عراقية جامعة.
كما أن مسألة تقاسم الرئاسات الثلاث بين الشيعة والسنة والكرد، لم تكن مطروحة بهذه الصرامة حينذاك، ربما لأن التقاسم لم يكن دستوريا، وبالتالي كان هنالك توقع بإمكانية زوال هذا التقاسم، مع التغيرات السياسية المقبلة، بالإضافة إلى الانشغال بالتحديات التي جابهت البلد، والآمال العريضة في تحقيق ما تمناه العراقيون بعد مرحلة الديكتاتورية.
على الصعيد الكردي، تقاسم الحزبان الكرديان الكبيران (الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني) المهمات، فكانت رئاسة الإقليم من حصة الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه مسعود بارزاني، بينما أصبحت حصة رئاسة الجمهورية الاتحادية حصة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ورئيسه جلال طالباني، في اتفاق غير مكتوب وغير دستوري أيضا. وقد شغل منصب رئيس الجمهورية حتى الآن ثلاثة قياديين من الاتحاد الوطني، على الرغم من الهزات والتنافس، الذي ابتدأ يظهر بعد أزمة استفتاء انفصال كردستان العراق في سبتمبر/أيلول 2017، إذ رشح مسعود بارزاني فؤاد حسين لشغل منصب رئيس الجمهورية عام 2018 منافسا للرئيس الحالي برهم صالح، الذي فاز بالمنصب نتيجة اتفاق الكتل السياسية الذي أغضب بارزاني حينذاك. على الرغم من سعي أكراد العراق بعد الحرب العالمية الأولى لتقرير مصيرهم ومحاولاتهم الجادة لإنشاء وطن كردي قومي مثل العرب والأتراك الخارجين من ربقة الدولة العثمانية المتفككة، إلا أن المعادلات الدولية فرضت على الأكراد واقعا مجحفا قسمهم بين دول المنطقة (تركيا وايران والعراق وسوريا). وقد شهدنا في المشهد السياسي العراقي في تاريخه الحديث اندلاع موجات حركة التمرد الكردية المسلحة ضد حكومة بغداد المركزية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، التي استمرت على امتداد أكثر من نصف قرن، إلا أننا، ومن جانب آخر، يمكن أن نشير إلى العديد من الشخصيات الكردية، التي شغلت مناصب سيادية في الحكومات العراقية بينها رئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان والوزارات السيادية، كالدفاع والخارجية في الدولة العراقية الحديثة، وإذا أردنا أن نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، شخصيات كردية تبوأت أعلى المناصب السياسية فسنذكر جعفر العسكري، ونوري السعيد، وأحمد مختار بابان، ومحمد أمين زكي، وتوفيق وهبي وآخرين، لكن يجب أن نشير إلى أن كل هؤلاء كانوا عراقيي الهوى والهوية، ولم يطرحوا أنفسهم باعتبارهم قيادات كردية.

لا يمكن الخروج من المحاصصة ضمن معطيات وضع العملية السياسية العراقية الحالية، إلا اذا حصلت هزة كبيرة جدا قد تغير الواقع العراقي

تداعيات مفارقة (الرئيس الكردي) ظهرت بشكلها الفاقع، منذ طرح استفتاء انفصال كردستان في سبتمبر2017، وبات لزاما على كل قيادي كردي يريد الترويج لنفسه في شارعه السياسي في الإقليم القول إنه يطالب بـ»استقلال كردستان» وإنه يعمل جاهدا لتحقيق حلم «إقامة دولة كردستان المستقلة» وهنا تكمن المفارقة الفجة، إذ أن هذا الكلام يعني ضمنا أنه سيعمل على تقسيم العراق، وأنه لن يلتزم بالمادة (64) من الدستور الاتحادي للعراق، التي تحدد مهام رئيس الجمهورية وتصفه، بأنه»هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يمثل سيادة البلاد، ويسهر على ضمان الالتزام بالدستور، والمحافظة على استقلال العراق، وسيادته، ووحدته، وسلامة أراضيه، وفقاً لأحكام الدستور».
ربما كان الدكتور فؤاد معصوم أكثر رئيس جمهورية حظي بالسخرية على خلفية كونه غير فاعل سياسيا، حتى بات الكاريكتير الذي صوره وهو يلبس ملابس النوم ويحمل وسادته، الأكثر انتشارا في فترة رئاسته، باعتباره الرئيس الذي قضى ولايته الرئاسية نائما، لا عمل له سوى عد الأيام والحصول على دخل مليوني نهاية الشهر، وراتب تقاعدي بعد انتهاء ولايته الرئاسية ومغادرته قصر السلام في بغداد والعودة إلى قصره في السليمانية. لكن الحقيقة أن الرئيس معصوم لم يكن شخصية ثانوية في تاريخه السياسي، فهو حاصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وكانت أطروحته للدكتوراه بعنوان «إخوان الصفا فلسفتهم وغايتهم» كما كان الشخص الثاني في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بعد أمينه العام جلال طالباني، وقد لعب طوال تاريخه أدوارا أساسية في رسم سياسات الحركة الكردية العراقية، لذلك أنا أعتقد أنه كان متوازنا، مع نفسه على الأقل، فهو يعلم جيدا أنه مؤمن ويعمل لصالح انفصال كردستان، ولا يمكن أن يصرح بغير ذلك أثناء وجوده في القصر الرئاسي في بغداد، فقضى ولايته الرئاسية، من دون فعالية تذكر. من جانب آخر، مثّل التصويت لصالح انفصال كردستان النقطة الأكثر حساسية لدى المواطن العراقي العربي، في تعاطيه مع سير المرشحين لرئاسة الجمهورية من السياسيين الأكراد، وهي الزاوية الأبرز في الهجوم على برهم صالح عندما ترشح لمنصب رئيس الجمهورية، إذ امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بمقاطع الفيديو الذي يصور برهم صالح وهو يدعو لانفصال الإقليم في سبتمبر 2017، ثم تظهره ضاحكا بعد سنة في أكتوبر/تشرين الأول 2018 وهو يدخل قصر السلام في بغداد بصفته رئيسا لجمهورية العراق، وحاميا للدستور ومدافعا عن وحدة العراق، فأي مفارقة مضحكة مبكية. وإذا كان الجميع يصرحون بأن رئيس جمهورية العراق منصب بروتوكولي، أو كما يصفه البعض (تشريفاتي) في ظل نظام الحكم البرلماني، فهو يستقبل ويودع، ويدعو لاجتماع البرلمان، ويدعو لتشكيل الحكومة لا أكثر، من دون أن تتوفر له الإمكانات للإمساك بسلطات حقيقية، إذن لماذا يتنازع على هذا المنصب الفرقاء الكرد؟ والإجابة تكمن في التوازنات السياسية، وخيوط اللعبة وتوتراتها بين بغداد وأربيل، وتمرير الصفقات القائمة على هذه التوترات، إذن ليست مهمة الرئيس (تشريفاتية) فقط ، فنحن نتذكر موقف الرئيس برهم صالح عندما أطاحت انتفاضة تشرين بحكومة عادل عبد المهدي، وطرحت الكتل الشيعية المتنافسة (سائرون والفتح) أسماء مرشحيها لمنصب رئيس الوزراء البديل، حينها لعب برهم صالح على توازنات الكتل، فرفض المرشح مرة، وعرقل تمرير الصفقة مرة، حتى توصلت الكتلتان إلى رئيس وزراء توافقي هو مصطفى الكاظمي، فوافق عليه صالح وتم اختياره لرئاسة الحكومة، لذلك يمكننا الاستنتاج أنه طالما كانت الكتل الشيعية التي تحتكر منصب رئاسة الوزراء مختلفة ومتنازعة، سيكون لرئيس الجمهورية دور أكبر مما رسمه له الدستور، دور يقوم بشكل كبير على حذاقة ترتيب صفقات الكتل السياسية. وبعد أن رفضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق يوم 13 شباط/فبراير ترشح وزير المالية والخارجية الأسبق هوشيار زيباري (خال الزعيم الكردي مسعود بارزاني) للترشح لرئاسة الجمهورية بعد تعرضه لاتهامات بالفساد على خلفية تقديم عدد من النواب دعوى للمحكمة الاتحادية تطالب بإلغاء ترشيح زيباري، سارع مسعود بارزاني إلى الدفع بابن اخته مرشحا للمنصب بديلا لزيباري، الذي أقصته المحكمة الاتحادية العليا، فكان المرشح هذه المرة ريبر أحمد بارزاني، وزير داخلية أقليم كردستان العتيد، وأحد صقور العائلة البارزانية، والممسك بأمن الإقليم بقبضة حديدية، لينافس برهم صالح الذي ترشح عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني لولاية ثانية، وهنا تتأصل المفارقة، عندما يتنافس سياسيان كرديان هما من أبرز الداعين للانفصال ليشغلا منصب رئيس جمهورية العراق.
لكن يمكننا أن نطرح المفارقة بصيغة استفسار بريء مفاده: ألا يمكن أن تُكسر معادلة احتكار المكونات لمناصب الرئاسات الثلاث لتصبح مفتوحة أمام الجميع؟ على الأقل حينها سيخرج الوضع العراقي من هذه المفارقة البنيوية بصيغتها الكوميدية السوداء (حامي الدستور والمدافع عن وحدة العراق هو في الوقت نفسه أشد المطالبين بتقسيم العراق وانفصال الإقليم). والجواب: بالتأكيد لا يمكن الخروج من هذه المحاصصة ضمن معطيات وضع العملية السياسية العراقية الحالية، إلا اذا حصلت هزة كبيرة جدا قد تغير الواقع العراقي.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com