ثقافة

أدب الاطراف ينتصر على شلل العواصم .

بيدر ميديا / صحافة.

 واسيني الاعرج .

فتخر العواصم عادة كونها مركز الثقافة والممارسات الفنية العالية، وكأن المعرفة والإبداع مقتصران على المدن الكبرى، وينسى من يدعي ذلك أن الإبداعات الكبرى لا علاقة لشهرتها دائماً بالأمكنة الكبيرة. صحيح أن الفضاءات الواسعة كالعواصم، هي مساحات للرواج أكثر والشهرة، لأن مراكز الإعلام والدعاية هناك، إضافة إلى النشاطات المكثفة وإمكانية العلاقات، مما يوفر فرصاً كبيرة للشهرة، لكن هذا وحده لا يعني الكثير بدون موهبة مرفقة. الكثير من الكتاب والفنانين فضلوا قراهم ومدنهم الصغيرة على عواصم الضجيج، إما رغبة في ذلك وإما لأن الظروف المادية لم تسمح بالبقاء والإقامة في المدن الكبيرة والعواصم التي لا يدخلونها إلا كضيوف عابرين، أو للمشاركة في ندوة أو في لقاء ثقافي أو تكريم.
العواصم الكبيرة لا تصنع بالضرورة كاتباً كبيراً، الموهوب أينما وجد يفرض نفسه بقوة مهما كانت المعوقات التي يصطدم بها كونه في مكان صغير لا يصل صوته بسهولة.
كاتب مثل مارسيل بانيول Marcel Pagnol ظل وفياً لأمكنته الأولى مثل تروي ـ مسقط رأسه، ومارسيليا، ولم تغرِه أهواء باريس التي سحبت نحوها العديد من الكتاب والفنانين. معظم كتاباته بروفونسية (برفونس) تتناول الأعماق الخلفية لمارسيليا، الفلاحية الريفية بعاداتها وتقاليدها. لم يمنعه ذلك من أن يكون كاتباً وسينمائياً مهماً ومعروفاً، لكن في ظل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، ضاقت المسافات وأصبح الناس يلتقون يومياً ملايين المرات ويتحدثون ويدردشون حول هموم الحياة والكتابة، ويتراسلون، ويكتبون، مما كسر العزلة التي كانت سابقاً معوقاً حقيقياً في عملية التواصل.
هذا السياق يذكرني أيضاً بالمغني الفرنسي جون فيرا، الذي اختار أن يعيش في لارديش، بعيداً عن أضواء العاصمة، وبقي قريباً من منطقته يغنيها ويستفيد منها حتى موته، أغنيته «الجبل» تظل واحدة من أجمل ما أداه. لم يمنعه ذلك من أن يكون فناناً عالمياً كبيراً. عندما سئل في مرة من المرات: لماذا لا تنتقل إلى العاصمة باريس، مدينة الأضواء؟ أجاب، لأني بكل بساطة لا أستطيع أن أتحمل يوميات النخب الباريسية التي تقضي وقتها في الاقتتال الفارغ، وتأكل لحم بعضها البعض بعيداً عن الجوهر. كلما نجح شخص في مشروعه، راحت هذه النخب الفاسدة ذات اليقين المطلق، تنهش لحمه حتى بفبركة الكذب. هنا أعيش مع البسطاء، أناس يشبهونني وأشبههم. وهنا أحيا بينهم، وأموت وأدفن. بالفعل، ذلك ما حدث، فقد دفن في القرية التي عاش فيها، ورافقه نحو مأواه الأخير أصدقاؤه القرويون الذي قضى معهم جل وقته في التمتع بالحياة والشعر والموسيقى والنضال من أجل حياة أفضل للبشر وضد الظلم والطغيان.
يحضرني هنا أيضاً مثال الكاتب المصري الكبير مصطفى صادق الرافعي، الذي ظل وفياً لمدينته طنطا. لم يمنعه ذلك من أن يكون من أهم كتاب مصر في النصف الأول من القرن العشرين. وهو يشبه مارسيل بانيول والذين جعلوا من مدن الداخل أهم أمكنتهم الحيوية والأدبية وابتعدوا عن النخب المهيمنة التي تعلي وتنزل من تشاء. عدوها الكبير هو الشخص الموهوب الذي لا ينصاع لها. كان يأتي إلى القاهرة كل يوم ثلاثاء متحملاً مشقة السفر بالقطار من أجل حضور صالون مي زيادة الثقافي. القاهرة كلها اختزلت في امرأة، ما عدا ذلك، الباقي كان ثانوياً. لم يكن خياره سهلاً، فقد كانت مي امرأة شاقة بكل المقاييس، لأن منافسيه كثر وقاهريون، ويوصلون ما يريدونه لمي وتسمع حنينهم ويسمعون قلبها؛ العقاد، خليل مطران، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، عبد القادر المازني، داوود بركات، أنطوان الجميل، سلامة موسى، وإسماعيل صبري باشا، وغيرهم كان عليه خوض حرب ضروس لم يكن قادراً عليها في الجلسات. لم تبقَ أمامه إلا الندوة والكتابة شاحذاً متخيله إلى الأقاصي، وتطور هذا الحب بالتواتر إلى أن وصل تقريباً إلى حالة الجنون، أصبح يقتفي خطاها ويحضر كل ندواتها، صار حبه معضلة حقيقية، كان على مي تسيير ذلك بكل التقدير الذي يليق بالرجل الذي حوله بعض أصدقائه العاصميين إلى مسخرة. يوم الثلاثاء كان مقدساً بالنسبة إلى الرافعي، يقضيه عندها منذ لحظة وصوله من طنطا، حتى مغادرته المكان، لكن مع الزمن أصبح مقلقاً، كان ينتقل مباشرة من محطة القطار إلى بيتها، ويكون أول من يصل وآخر من يغادر. وكان عليها أن تراعي وضع سمعه المعدوم. لنا أن نتخيل كيف سيكون داخل قاعة كل الحاضرين فيها يسمعون جيداً. كان لا يفهم ما يقال، حتى أصدقاؤه الذين كانوا يساعدونه بالكتابة له حتى يفهم ما يقال، تخلوا عنه بسرعة. الشيء المؤكد الوحيد أنه كان أصدق عشاق مي. كتب شعراً كثيراً ودواوين في مي، لدرجة أن تخيلها تبادله هذه العاطفة، مما اضطر مي إلى أن تسر لبعض أصدقائها أنه لا علاقة لها بالرافعي وأنها تقدر عواطفه النبيلة والسخية والإنسانية. كتب شعراً جميلاً يشكل اليوم رصيده العشقي لمي: «السحاب الأحمر».. و«أوراق الورد».. و«رسائل الأحزان». وخلق لحظات عشقية بينهما. عندما سألها بعض الأصدقاء، نفت كل شيء، وأنكرت وجود أي علاقة من أي نوع بينهما. والنخبة القاهرية التي سخرت منه، هي نفسها التي حولته إلى مضغة داخل الأفواه، وهي سبب القطيعة النهائية بينه وبين مي.
الكاتب الجزائري الشاب عبد الوهاب عيساوي، الذي شاءت ظروفه الحياتية أن يظل في قريته الصغيرة، لم يمنعه ذلك من الفوز بجوائز كثيرة ومهمة، آخرها كانت جائزة الرواية العربية البوكر، فقد سلك نفس المسار في بلدته عين حاسي بحبح بالجلفة، بعيداً جداً عن أضواء العاصمة. عندما طبع روايته الأولى في جمعية أهلية، أهداها لي يومها بخجل كبير: طبعة ليست جيدة ولكن لا بأس.
قرأتها، واكتشفت في عبد الوهاب يومها موهبة روائية آتية من الأطراف التي لا يلتفت العاصميون لها. ثم طبعها طبعة جديدة أفضل وفازت بجائزة آسيا جبار عن النص المكتوب باللغة العربية، وكان ذلك خطوته الأولى للخروج من دائرة النسيان. أستغرب كيف أن الكثيرين من العاصميين بدل أن يفرحوا مزقوه نقداً، سألني. قلت له ما سمعته من المرحوم المؤرخ الثقافي الكبير الدكتور أبو القاسم سعيد الله: بلاد لا يهنأ لها بال إلا إذا أخصت عظماءها. لا ترد على أحد يا عبد الوهاب، هم صناع الشتائم. هم الذين سماهم جون فيرا: جوقة الكلاب المسعورة. واصل واكتب. وعندما أشرفت على ورشة البوكر في أبو ظبي، في قصر السراب، كان على رأس قائمة الذين اقترحت أسماءهم، من الكتاب الشباب، لكن مشكلة تأخر الفيزا منعته من السفر، واستدركت البوكر الأمر فدعته لورشة عمان. سدنة الضغينة في أمكنتهم دائماً، يترصدون كل من يخرج من دائرة الهزيمة التي لا تستقيم إلا بالنميمة والحط من الآخرين الناجحين.
كاتب الأطراف لا يدفع ثمن البعد عن المركز، ولكنه يدفع أيضاً ثمن كونه مميزاً ولا يشبه الآخرين.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com