متفرقات

الأدب في بلاد الرافدين

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

قد لا يتصور البعض أن الأدب في بلاد الرافدين كان مزدهراً، ولكن عدم المعرفة بالشيئ لا يعني عدم وجوده، وربما يعتقد البعض أن ملحمة كلكامش ندرة جاد بها الزمن، ولكن الزمن لوحده لا يجود بالنوادر من غير جذور، ومن غير بيئة تنضج النوادر.

لا نريد في بحث نعده للثقافة العامة أن يفي بكافة متطلبات البحث في هذه الموضوعة الكبيرة، ولكن بتقديرنا أن البحوث الصغيرة أو المختصرة لها قراءها، وهذا البحث هو مستل ومختصر من بحث علمي بجزئين، صدرا قبل نحو عشرة سنوات من دار ضفاف بدبي، حول جذور الفكر السياسي والثقافة في بلاد الرافدين. وفي هذا المبحث نركز على الملحمة والأسطورة والخرافة بوصفها من مصادر الفكر والثقافة.

 

الملحمة : Epic

الملحمة هي أحداث تدور حول فرد من البشر، تهتم بمنجزاته ومآثره وبطولاته (66) وتعرف الموسوعة الألمانية الملحمة ” إنها شكل عظيم للحكاية الشعرية لغة رفيعة وبعمل كبير يعرض حياة أحد الأفراد” (67)

وملحمة كلكامش التي ذاع صيتها عالمياً، ترجمت في عصرها وفي العصر الراهن إلى معظم اللغات الحية: الإنكليزية، الألمانية، الفرنسية، الروسية، الإيطالية وغيرها وهي تروي أحداث وسيرة أحد اشهر ملوك الوركاء وهو الملك كلكامش، الذي كان ثلثاه من مادة الآلهة وثلث من مادة البشر، وتنطوي على الكثير من الأفكار السياسية والأحداث المهمة. ويجدر بنا القول أن بطل الملحمة كلكامش ليس بشخصية خيالية، بل هو إنسان واقعي، والملحمة هي أشبه ما تكون ترجمة لحياته(بيبلوغرافيا)Bibliographia  ، لأسفارi وحروب بحثاً عن الحقيقة والعدل والخلود وعن الأمن والسلام، وهي أزمة عصره الذاتية الشخصية والسياسية، ومفردات هامة في القاموس السياسي لذلك العصر، ثم يستحق الملاحظة أيضاً، أنها متماثلة تماماً في نسختها السومرية والبابلية والآشورية، وكذلك في اللغات التي ترجمت إليها في ذلك العصر وهي اللغات الحيثية والعبرية والحورية.(68)

ونستدل من خلال ملحمة كلكامش على الأكثر من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية أيضاً، فعلى سبيل المثال، في العمود الثالث من الفصل الثاني، نص :” صنعوا أسلحة عظيمة … سبكوا فؤوساً وسيوف أغمادها من ذهب ” إذن فنحن أمام تأكيد بوجود صناعة لأسلحة، والأهم من ذلك أن الإنسان العراقي قد توصل إلى استخراج وسباكة الحديد والذهب.

وتؤكد الملاحم الرافدينية كلها على المكانة الكبيرة للآلهة. ففي ملحمة الطوفان (زيو ـ سدرا) هناك نص يؤكد، أن الملوكية نزلت من السماء بعد الخلق، وقدرت الأقدار، وأسست المدن الخمس، وحلت فيها الملوكية، ولكن البشر أغضبوها، فقررت أحداث طوفان وإفناء البشر.(69)

والملحمة تنسب إلى البشر سلوكهم السيئ، حيث أغضبوا الرب الذي أهلك منهم الكثير ولم ينج إلا الذين انقادوا إلى الحكماء والأتقياء الذين حذرتهم الآلهة عرفاناً بخدماتهم واحترامهم للآلهة وتلك فكرة مهمة حيث ستسيطر على فكر الشرق الفلسفي السياسي. وعن ذلك يقول أرنست باركر” إن الشرقيين كانوا قد أغرقوا أنفسهم في عالم الدين، فيما بقى الإغريق ينظرون إلى العالم بمنظار العقل”(70)

 

ويمكننا أن نلاحظ بسهولة ويسر تأثر الإلياذة والأوديسة البالغ بملحمة كلكامش لا سيما بعد أن تأكدنا من وجود ترجمات لها في اليونان القديمة، وهذه الملحمة قد أرست هدفاً للملاحم ألا وهو تمجيد التضحية والوفاء والبطولة والإيثار.

 

والواقع، فأن ثراء الفكر الرافديني السياسي، أو السياسي/ الأدبي، لم يقتصر على ملحمة كلكامش ذات المعاني السياسية والفلسفة العميقة، ولا ملحمة الخليقة الزاخرة كذلك بالفلسفة، بل أنتج أيضا ملحمة  (زيو ـ سدرا) وكذلك ملحمة (أترا حاسس) ومعناها حيث لا آلهة مثل الإنسان، وهذه الملحمة تنطوي بدورها على جوانب سياسية / فكرية. فجوهر الملحمة هو وصف الأزمنة القديمة حيثما لم يكن في الكون سوى الآلهة العظام، فكان على الآلهة لا سيما الصغار، أي من ذوي المراتب الدنيا أن يضطلعوا بأنفسهم في تهيئة ما يحتاجون إليه من شؤون الدنيا المختلفة، ثم الاتفاق بينهم على ضرب من ضروب تقسيم عمل، وأتفق الآلهة العظام آنو وأنليل وآيا على تقسيم الكون بينهم.(71)

ويقول الأستاذ العراقي المعاصر د. الطعان ” قد يوجه النقد إلى صعوبة التوفيق بين الأسلوب الفلسفي العلمي والأسطوري، وقد تمت مهاجمة الفكر الأسطوري باسم الفكر العقلاني، وقد قال أرسطو في كتابه النفس، أن كل الأشياء تبدو غاصة بالآلهة وأن المغناطيس حي لأنه قادر على تحريك الحديد. وقد اشتغل الإغريق بالأساطير كثيراً “(72)

ولعل في الاستشهاد بهذه السطور من قصيدة ملحمية لشاعر سومري يجمع فيها الروعة البلاغية والدقة في وصف أكداس القتلى في العراء :” وقد تحللت أجسادهم كما يتحلل السمن في الشمس المحرقة”، وهذه دقة في الوصف تسمح لنا بأعتماد مصداقية الوصف في الملاحم. ثم لاحظ مرة أخرى الدقة في هذا النص ” فتحطمت أور بفعل السلاح مثلما يتحطم إناء من فخار ” وهنا يشير إلى الهزيمة الكاملة لأور وتحطمها في الحرب وليس بفعل عوامل طبيعية أخرى كالزلازل والفيضانات أو الأعاصير. ثم لاحظ في نص آخر  :” كانت الزوابع تهب والعواصف تهيج، ووسط عاصفة معركتهم الضارية هذه، لم يعد بإمكان المقاتل أن يرى رفيقه الذي كان إلى جانبه. “(73)

الأسطورة Meth

يقول العالم صموئيل كريمر خبير السومريات ” إنها أول محاولة في تاريخ الفكر الإنساني لوضع مفاهيم فلسفية تهدف إلى إنقاذ الإنسان من متاهات الجهل بأسرار الطبيعة وظواهرها. فالأسطورة لم تكن تخلو من الجوانب العقلية، والأسطورة هي ” وسيلة للتعبير عن الموقف والأفكار”، ” ولذلك فهي واحدة من أعمق منجزات الإنسان وهو يتأمل الكون بأسلوب أحتجب عن الإنسان الحديث بحكم حدوده المقيدة ومنطقه الجامد. إنها تجيب على كل الأسئلة المتعلقة بالمجتمع والكون وتتفاعل فيه حكمة الإنسان وظواهر الطبيعة فتبين معنى الوجود وجدواه ومصير الإنسان “(74)

والأسطورة أيضاً، قصيدة شعرية(قد تكون منثورة) نظمت بأسلوب رفيع تحكي منجزات الآلهة ومآثرهم دون التقيد بحواجز الزمان والمكان، وهي رغبة نابعة من الإنسان بأن يجعل العالم شكلاً يمكن السيطرة عليه(أو فهمه أكثر) من خلال عملية تخيل. (75)

 

أما الموسوعة الألمانية دودن Duden فتعرف الأساطير ” أنها موروث شعب ما، تعاليم، ودروس إلهية، علوم، بحوث ووصف. والأسطورة هي شعر وكلام الآلهة والأبطال والأرواح.(76)

 

ونلاحظ أن التعريف الألماني يتعامل مع الأسطورة ليس فقط بوصفها شكلاً من أشكال الأدب الموروث فحسب، بل وأيضاً كمصدر تاريخي للعلوم والثقافة بصورة تامة.

ولكن المفكر العربي السوري د. طيب تيزيني بعرضه بوضوح أكبر في الإجابة على هذا السؤال المعقد :” ولكن هل بامكاننا القول أن الأسطورة تمثل شيئاً مفرغاً من أي انعكاس صحيح له ؟ . إن الإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب يتضمن نتيجة لا يمكن فعلاً تبريرها والأخذ بها من وجهة نظر تاريخية معمقة “.(77) وإنكارنا للإنسان القديم بأن يمتلك ذهناً هادفاً.

إذن علينا أن نوطد العزم على فكرة أن الإنسان الرافديني، لم يعبر عن مشاعره فحسب، بل وفعالياته الاجتماعية وتوثيق حقوقه وكذلك منجزاته العسكرية في ميادين القتال وأنشطة سياسية وما يمكن فعلاً إنجازه على أرض الواقع من بنى وهياكل سياسية واقتصادية واجتماعية. بل وحتى أن الملك سنحاريب الآشوري وثـّق وأرخ افتتاحه لقناة ري معلقة تعد من روائع الأعمال الهندسية شعراً ونثراً قائلاً :” على الوادي السحيق أقمت جسراً من كتل الحجارة البيضاء، وجعلنا هذه المياه تعبر من فوقه ” . ثم نحت على صخرة قرب سد بافيان 705ق.م :” إلى الآلهة العظيمة تضرع الملك فاستجابوا لدعواته واشرفوا على العمل الذي قام به فانفتحت البوابات وتدفقت المياه الثرة في النفق وبرغبة من قلوب الآلهة أنبط الملك المياه وحولها من مجراها واستغل قواها”(78) وجدير بالذكر أن أنباء هذه القناة العظيمة وتفاصيل الأعمال التكنيكية الهندسية والرسوم المتعلقة بها وجدت في رقيم طيني محفوظة اليوم في المتحف البريطاني بلندن.

ويقدم الأستاذ فراس السواح تفسيراً منطقياً لازدهار الأدب والأدب السياسي/ الملحمي، والسياسي/ الأسطوري ونضج كثير من المفاهيم في رحلة الإنسان من الظلمات إلى النور قائلاً :” حاول الإنسان أن يفهم الكون المحيط به وأن يفسر ظواهره الخارقة ففشل في مسيرة استغرقت وقتاً طويلاً، وبصفة خاصة فشل السحر في وضع تلك القوى الخفية في خدمته، وكان عليه أن يخطو خطوة كبيرة في فهم هذه الظواهر، بل و محاولة إيجاد نظام علاقات، وكانت الأسطورة نظاماً فكرياً يلبي طقوس العبادة، وفيها أبدع وأنتج الأدب والفن وحاول أن يجد تفسيراً لكل ما لم يستطع وعيه أن يجد الإجابات لها.” (79)

وليس بعيداً عن ذلك، ذهب سوكولوف في تعامله مع الأسطورة إذ قرر أنها وسيلة عقلية مرتبطة بمرحلة معينة من تاريخ تطور العقل الإنساني، فهي تستهدف قهر الطبيعة من قبل الإنسان، ولم يكن يملك في حدود تطوره الحضاري وسيلة أخرى من أجل ذلك غير الخيال والأسطورة.(80)

ولكن الأستاذ الطعان يطرح في مداخلة، أن الأسطورة تروي كيف أم واقعاً كان قد تحقق بفضل مأثرة الكائنات ما فوق الطبيعة فلا يهم أن يكون هذا الواقع الكلي(الكون مثلاً) أو جزء منه.(82)

والأساطير عدا وظيفتها الأدبية، فأنها تدلنا على الكثير من العادات والتقاليد والحكم والعبر ومفردات قاموس الحياة للحقبة التي كتبت فيها الأسطورة، ومن تلك، مفردات سياسية، وهذا فأنها تتحول حقاً إلى “سجل تاريخي”(82)

وتكرس الأساطير مبادئ وأخلاقيات وأعراف اجتماعية تكتسب قوة داخل المجتمعات قد يستخدمها السياسيون بذكاء يوظفها الفكر السياسي قوة قد تتفوق على قوة القوانين، وتوفر مناخاً ثقافياً يرمي بثقله على مفردات الحياة ويطبع بطابعه حتى مزاج الأفراد وتغدو جزءاً أساسياً من ممارسات ووجدان تلك الأمة وذلك الشعب. فلو لاحظنا بعمق المعاني التي تكرسها الأساطير السومرية تلك التي دونت في 2500 ـ 2000 ق.م فصاعداً، سنرى أن تلك المعاني ما تزال سارية لحد تقريباً في المجتمعات الشرقية. فالأساطير تؤشر المكانة الكبيرة للآلهة في الحياة السياسية والثقافية للناس، مكانة تؤهلها لأن تلعب دوراً بالغ الأهمية في حين لم تتمتع آلهة الإغريق بمثل هذه المكانة. وأيضاً مكانة المرأة في المجتمعات الشرقية هي دائماً في كنف الرجل، وكذلك احترام المرأة وعدم امتهانها، وإدانة أخلاقية للاغتصاب مثل في الأساطير أمراً مستهجناً، مما لم يكن ما يماثله في الأساطير الإغريقية. وأمامنا أسطورة أنليل وننليل السومرية على سبيل المثال خير دليل على ذلك. وعندما مجدت الأسطورة الشرقية (الرافدينية) الحكمة، أشارت الأسطورة الإغريقية إلى قوة الفرد، وعندما فضل كلكامش شعبه على نفسه، نرى أن أبطال الملاحم والأساطير الإغريقية يدمرون الأفلاك من أجل لذتهم.

وتشير لنا الأساطير الرافدينية أيضاً من خلال السرد الوصفي الشعري، طائفة من الحقائق في العلاقات وأنماط التفكير وهواجس إنسان ذلك العصر، والكثير منها تحمل معاني سياسية مثل احترام حرية الفرد واختياره وطموح الإنسان بخلق مجتمعه وتطويره، والسعي نحو إضافات جديدة، ومن تلك مثلاً أسطورة أنليل وخلق الفأس، أو تلك الأساطير التي تحكي أخبار الآلهة ويتضمن السياق السردي أفكار في القيادة وصناعة القرار وعلاقات القوى ببعضها مثل أسطورة أنكي، وتنظيم الكون التي تتضمن أيضاً أفكار عن التجارة الخارجية مع دول أجنبية مثل عمان والبحرين وملوخا(الهند على الأرجح) وأوصاف لسفن ومراكب وسلع الأمر التي مثلتها الأقوام القاطنة مثل (لولوبو وكوتي) شرقي جبال زاغروس ليس على أمن واستقرار بلاد الرافدين، بل عموم المشرق العربي.(83)

وكمحصلة أخيرة، فإن كاسبر يعتبر أن الأسطورة تقوم في جوهرها على أساس من رغبة حماسية تدفع الأفراد إلى الشعور بوجود هوية بينهم وبين المجتمع والطبيعة وبتحقيق إشباع هذه الرغبة بواسطة الطقوس الدينية، فهناك تذوب الفوارق بين الأفراد ويتحولون إلى كل لا يعرف التميز، وهنا تؤدي الأسطورة بمجموعها وظيفة سياسية بالغة الأهمية.(84)

الخرافة : Legend  

تعرف دودن، الموسوعة الألمانية الخرافة، أنها ” حكايات خيالية تضع الحدود بين الواقع والأعجوبة، يساهم فيها شعراء مجهولون، علامات ورموز، وهي موجودة لدى شعوب كثيرة وبصفة خاصة في الشرق”.(85)

وموسوعة دودن الرصينة إذ تقدم هذا التعريف، إنما تعبر عن أحداث غير واقعية ولكنها تكون في زمن معلوم وشخصيات معينة، ولكن هناك الكثير مما يضاف من هالات البطولة والمجد، أو بالعكس الحط من قيمة أشخاص أدانتهم المرحلة لسبب سياسي أو اجتماعي كالخيانة أو البخل أو الجبن، أو بالعكس الشجاعة والتضحية. وموسوعة دودن تعتبر على سبيل المثال، أن حكايات ألف ليلة وليلة خرافية، ولكن دون إنكار أن قصص من هذا القبيل قد حدثت لأبطال مجهولين، بحارة جابوا البحار، وواجهوا الصعاب مثل سندباد أو علي بابا، غيرهم في عصر ازدهار الحضارة العربية أواسط العصر العباسي.

وفي كثير من الخرافات أو الحكايات الخرافية، كألف ليلة وليلة مثلاً، نقرأ أوصافاً لملابس وأطعمة وحتى وصفاً دقيقاً لأدوات طبية تستخدم للعلاج، وآلات موسيقية ووصف لتضاريس طبيعية في العراق وبغداد وتعرجات نهر دجلة، ليست جميعها من نسج الخيال بل أن معظمها واقعي.

ويعرف الأستاذ د. فاضل عبد الواحد علي، الحكاية الخرافية ” عبارة عن حكاية فيها الكثير من الخيال والمبالغة والخوارق، ومع ذلك، فإن الشخصية الرئيسية التي تنسج حولها الخرافة تكون حقيقية تاريخية، ولكن يجب أن نتذكر أن مثل هذه الخرافات أو القصص الخيالية لم تدون في زمن أصحابها الحقيقيين(غالباً) بل في عصور لاحقة.(86)

ومن دون شك، فإن مثل هذه الأنشطة الثقافية المبكرة 2500 ـ 200 ق.م و هي الأقدم في تاريخ البشرية، مثلت بواكير عهد الإنسان بالكلمة المكتوبة والخطاب الهادف الذي يربط روايته للواقع بالقوى الخفية التي لم يدرك كنهتها، فاصطلح عليها بالآلهة. والنصوص والآداب الرافدينية تدور في هذه المحاور والاكتشافات الأولى، الخلق، القوى الإلهية، القوى الطبيعية الخارقة، الملك والزعامة والقيادة. وفي ثنايا هذه المحاور على المفكرين والباحثين المعاصرين أن يجدوا ويستنبطوا جذور الفكر السياسي الرافديني.

ويقول د. الطعان ” كان الإنسان الشرقي القديم، والعراقي بصفة خاصة، وهو بذلك يختلف عن الإغريقي الاستدلالي يتلمس في كل ظاهرة يقع عليها بصره يفهم كل ظواهرها من خلال فهم شخصية هذه الظواهر. كما أن هناك مسألة مهمة أخرى، هي أن الرافديني القديم، كان يعبر عن معرفته بالظواهر بأسلوب القصة. وبكلمة أخرى كان يقص المعرفة” .(87)

وقد تستخدم الحكاية الخرافية الحيوانات كرموز، فتضع على أفواههم الحكمة والتجربة المطلوب تعميمها ونشرها، فلا شك أن أحداث الخرافة، والحوار الذي يكتنفها، هي ترمي إلى تحقيق هذا الهدف، وهذا ما نراه واضحاً في قصة أيتانا، حيث الحكاية والعبرة والتجربة التي كتبته حوالي 1800 ق.م وجدت في مكتبة الملك آشور ناصر بال، أي أن الحكاية استمرت في التداول والاستنساخ حوالي 1150 سنة !! لا شك أنها كانت تمثل قدراً كبيراً من الأهمية، وأيتانا هو أحد ملوك مدينة كيش بعد الطوفان، عندما نزلت الملوكية من السماء، وهنا أشارة سياسية مهمة، إلى نزول الملكية من السماء وألوهيتها تمثيلاً وتفويضاً ومغزى الحكاية، الصداقة غير المتكافئة التي قامت بين النسر والثعبان. ولكن النسر حدثته نفسه بخيانة الصداقة والتحالف، والغريب هنا أن أحد صغار النسر يحذر أباه من مغبة الخيانة. وان الملك أيتانا قد أرتكب أعمال غير حميدة استحق بسببها غضب الآلهة بعدم منحه طفلاً يرثه، فأوصته الكهنة أن يتعلم حكاية النسر والثعبان، النسر الذي عاد إلى عافيته ليقدم الخدمة للملك تكفيراً عن خيانته. ومع أن خاتمة الحكاية مجهولة، بسبب فقدان الألواح الأخيرة، إلا أننا أدركنا مغزى شعبية هذه الحكاية، وأبعاد العبر السياسية التي تضمنتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش

 

56 . الرميحي، د. محمد: الثقافة العربية،  مقال العربي الكويتية،  نوفمبر/1982

57 . Thorwald, JürgenÖ Das Jahrhundert der Detektive  S.27   BRD 1965

58 . Schmidt, Dieter : Michelanglo  S. 51 Leipzig  1968

59 . بوستغيت، نيكولاس: نفس المصدر،  ص11

60 . باقر، طه: ملحمة كلكامش، ص209

61 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر، ص12

62 . الأحمد، د. سامي سعيد: نفس المصدر،  ص25

63 . باقر، طه: نفس المصدر، ص19

64 . خباز، حنا: مقدمة لكتاب الجمهورية(أفلاطون)،  ص6

65 . أفلاطون: التئيتس  ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة

66 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر  ص147

67 . DUDEN :     Lexikon    S.195

68 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص47

69 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص204

70 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر، ص45

71 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص214

72 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر،  ص360

73 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر،  ص72 ـ 73

74 . الجابري، د. علي حسين: نفس المصدر،  ص28

75 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر، ص86

76 . تيزيني، د. طيب: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ،  ص27

77 . الملائكة، د. جميل: روائع الأعمال الهيدروليكية ، مقال آفاق عربية 1/1979

78 . السواح، فراس: مغامرة العقل الأولى، ص7 ـ 18

79 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر، ص42

80 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر، ص52

81 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر،  ص91

82 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر،  ص146

83 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر،

84 . DUDEN :  Lexekon  S. 427

85 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر،  ص228

86 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر،   ص75 ـ 76

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com