مقالات

العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ.

بيدر ميديا.."

 

العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ

وعملية فالكور

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراسلات :

Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

 

الدكتور/ضرغام الدباغ .

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

العدد : 253

التاريخ :    2021

 

العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ

 

مقدمة

في سن مبكرة جدا، كان والدي قد أشترك في سلسلة ما يصدر عن مكتبة توزع أفضل المطبوعات، ومن تلك سلسلة تاريخ العرب والإسلام لجرجي زيدان وهي مجموعة رائعة وبلغة عربية راقية، ومن تلك أيضاً سلسلة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، حتى أدمنت قراءتها، وجاء فيها ذكر عملية “فالكور” وهي الاسم الكودي لمحاولة اغتيال هتلر التي لم تنجح بصورة تامة، وأعدم القائمون بها.

 

بالطبع لم يكن يدور في خلدي الدراسة في ألمانيا، والعيش فيها والتعرف على مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، والإطلاع بشكل معمق في الأحداث الهامة في التاريخ الألماني، وحين أتيح لي ذلك، وجدت نفسي متعلقاً بسيرة العقيد كلاوس فون شتافنبيرغ (Claus von Stauffenberg: 1907 – 1944 ) هذا الضابط الشجاع الذي بإدراك تام جازف بحياته من أجل محاولة… نعم محاولة إنقاذ بلاده من مصير قاتم، بمحاولة انقلابية يكون فيها اغتيال هتلر الفصل الافتتاحي فيها، ولكنه لم ينجح بصورة تامة، فالقي القبض عليه وعلى مجموعة الضباط والسياسيين القائمين بالحركة واعدم العسكريون منهم رميا بالرصاص في باحة القيادة العامة للقوات المسلحة الألمانية لتبقى حتى اليوم،  موقعاً يكرم فيه الأبطال في ذكراهم السنوية.

 

ثم أني شاهدت فلمين أو ثلاثة عن محاولة الاغتيال هذه وأشهر تلك الأفلام الفلم الأمريكي من بطولة الممثل توم كروز الذي صورت أحداثه في مدينة برلين،  ووضعت كتب عديدة عن هذا البطل، الذي كان بطلاً حتى آخر لحظة من حياته، حين واجه رصاص الموت هاتفاً ” Es lebe das heilige Deutschland ”  ” لتعش ألمانيا المقدسة ” هذه كانت الكلمات الأخيرة للبطل الذي كان واقفا في الساحة الداخلية لمبنى القيادة العامة للقوات المسلحة الألمانية حين أطلقت عليه حظيرة الرشق النار، في هذه اللحظة لم يتمكن مرافقه الملازم الأول (Werner von Haeften) احتمال رؤية قائده يعدم، فهرع إليه ليحتضنه ويحميه من الرصاص المنهمر فيخر كلاهما صريع الوطن والواجب والشرف.

 

قصدت ذات يوم مدينة في الجنوب الألماني، فبلغتها مساء، وحين نهضت في صباح اليوم التالي، مزمعاً القيام بما أتيت من أجله، وخرجت من الفندق، منتظرا سيارة الأجرة (التكسي)، نظرت إلى العلامة التي تحمل أسم الشارع، فإذا به … (Stauffenberger Str.)على أسم البطل كلاوس شتاوفنبيرغ … حقاً الأبطال لا يموتون ……!

 

في هذا التقرير سنقرأ ليس تاريخ العقيد شتاوفنبيرغ ومنها سيرته العسكرية والوطنية / السياسية فحسب، بل ولمحات عن الأحداث المثيرة في التاريخ الألماني، ومنها الفصل الهام المتعلق بالمقاومة الألمانية ضد الحكم النازي التي لعب فيها العقيد شتاوفنبيرغ دوراً أساسيا.ً كما سنطلع على ظروف الضباط الألمان المهنية والسياسية خلال الحرب، والسيرة العسكرية لضباط الجيش الألماني.

 

ضرغام الدباغ

 

 

 

 

الفلم السينمائي عن عملية فالكور (أغتيال هتلر) بطولة توم كروز

 

 

 

العقيد كلاوس شتاوفنبيرغ مع أطفاله

 

العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ

 

الموسوعة الألمانية

ترجمة : ضرغام الدباغ

 

ولد كلاوس شتاوفنبيرغ في بلدة يتنغن (Jettingen) / بافاريا في تشرين الثاني / 1907.  وحين أستلم النازيون الحكم، وأصبح أدولف هتلر زعيم الحزب بالانتخاب مستشارا للبلاد عام 1933، ثم الحاكم الأوحد، كان شتاوفنبيرغ مؤيداً لهتلر على أمل أن تنهض ألمانيا من كبوتها، ولكن تلك الآمال خابت، فأنظم العقيد شتافنبيرغ إلى المعارضة والمقاومة العسكرية.

 

ولد كلاوس شتافنبيرغ في أسرة نبيلة، في قصر جيتنغن بين بلدتي أوغسبورغ وأولم في أسرة كاثوليكية. والده الفريد شتاوفنبيرغ كبير ضباط البلاط الملكي لفيلهام الثاني آخر ملوك فورتمبيرغ، ووالدته سلسلة عائلة نبيلة أيضاً ساهمت في النضال الوطني ضد التوسع النابليوني.

 

التطوع في الجيش الامبراطوري

التحق شتاوفنبيرغ للخدمة العسكرية في الجيش الإمبراطوري، بعد إنهائه الدراسة الثانوية عام 1926 (بعد الحرب العالمية الثانية) وابتدأت خدمته في الوحدات التقليدية، الفوج البافاري السابع عشر في بامبيرغ، حيث قبل كتلميذ بالكلية العسكرية، حيث خدم لمدة عام كامل، قبل أن يلتحق عام 1927 في مدرسة المشاة في مدينة دريسدن (جنوب شرق ألمانيا) حيث كان على جميع المرشحين لرتبة ضابط، قضاء عام تدريبي كامل. وفي بداية آب / 1928 أكمل مستلزمات الخدمة، وفي نهاية عام 1928 ألتحق إلى مدرسة الخيالة في مدينة هانوفر (وسط ألمانيا)، بعدها عاد إلى وحدته في بامبيرغ، وهناك نال في 1 / كانون الثاني / 1930 رتبة الملازم  مع سيف الشرف. ثم أجتاز اختبارات التثبيت كضابط.

 

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، (في بداية التحول للجمهورية)، كان موقف كلاوس شتاوفنبيرغ السياسي حيال الأزمات محافظا توفيقياً كشقيقه بيرتولد، قريبان من الثورة. ولاحقاً الازدراء لتفشي وصعود الحزب النازي.. ومع ذلك كانت هناك نقاط لقاء في التفكير السياسي:

 

فكرة القائد، وهذه بالارتباط مع العمل الاجتماعي العام، فكرة الأساس (القاعدة)، الصالح العام، قبل الصالح الفردي للأشخاص، والكفاح ضد الفساد، ، الكفاح ضد روحانيات المدن الكبرى، الفكر العنصري، وإرادة التحول إلى نظام قانوني جديد بنظام صحي ومستقبل واعد.

 

في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نيسان / 1932، كان موقف شتاوفنبيرغ ضد المحافظ  فون هيندنبورغ، ولصالح أدولف هتلر، مرحباً بتعينه بعد فوزه بأنتخابات 1933 بوظيفة المستشار.  وشارك شتاوفنبيرغ في التدريب العسكري لقوات العاصفة، وشارك في تنظيم انتقال مستودعات الأسلحة إلى الجيش. وفي 1 / أيار / 1933 رقي إلى رتبة الملازم أول.(1)

 

في 16 / أيلول / 1933 تزوج كلاوس شتاوفنبيرغ من نينا فون ليرشنفيلد، وأنجب منها خمسة أطفال: بيرتولد، هايمران، فرانتز، فاليري وكونستانزا. وقد عاشت زوجته حتى نيسان / 2007 وتوفيت عن عمر 92 عاماً.

 

وفي عام 1034 نقل شتاوفنبيرغ كضابط فارس إلى مدرسة الفروسية في مدينة هانوفر، وفي هذه المدرسة جرى تأهيله على دراسة الأسلحة الحديثة،  كالدبابة والإنزال المظلي. وفي وقت لاحق أنتقل دور الفرسان في الفكر العسكري . وفي دراسة وضعت ونشرت عام 1938 ( دراسة حول الفرسان في الجيش)  وأبرزت الدراسة أهمية القابلية الحركية التشغيلية في الحركات العسكرية القتالية، وفي هذا المجال الأهمية الحاسمة لاستخدام الخيالة بجانب استخدام المدرعات: ” سؤال كثيرا ما نسمعه،  الدبابة أو الخيالة ..؟  وهنا يوجد خطأ، السؤال يجب أن يصاغ ويطرح  هكذا :  سلاح الفرسان، أم وحدات الدروع، ولا يمكن تصور حصد إنجازات تكتيكية وعملياتية دون استخدام متزايد للدروع. (2)

 

في 1/ تشرين الأول / 1936 ألتحق شتاوفنبيرغ إلى أكاديمية الحرب لتعليم القادة (مدرسة الأركان) في العاصمة برلين، وفي 1 / كانون الثاني / 1937 أعتبر قائداً في سلاح الفرسان، وفي تموز / 1938أصبح ضابط الركن الثاني في هيئة أركان الفرقة الأولى. التي كانت بقيادة اللواء أيريش هوبنر، وشارك معه في نفس السنة حين اجتاح الجيش الألماني منطقة السوديت / تشيكوسلوفاكيا. (3)

 

ومع بداية الحرب العالمية الثانية، التي وجد فيها شتاوفنبيرغ كجندي محترف، الخلاص، أو حلاً للإشكالات. وزجت عام 1939 الفرقة الأولى (التي تحولت إلى الفرقة المدرعة السادسة) في الجبهة البولونية، ومن الجبهة كتب لزوجته يقول :

” السكان هنا رعاع لا يصدقون، يهود كثيرون، والكثير جداً هم بشر مختلطون، الذين يجدون أنفسهم يشعرون بالعقد. الآلاف من السجناء سوف  يكونون فيدين لنا في الزراعة، في ألمانيا سيكونون بأمان ويستفاد منهم في الاستخدام في الأعمال ” .

 

يشير المؤرخ هاينريش أوغست، ويستشهد بالسطور التي كتبها شتاوفنبيرغ كنص وأقتباس يشير إلى مضمون وفحوى السياسة العنصرية للحزب والدولة النازية. وأعتبر أن موقف شتاوفنبيرغ لا ينطوي على إدانة  للسياسة العنصرية المعادية للسامية.

 

وتقدم بيتر فون فارتنبورغ وهو قريب لشتاوفنبيرغ، وصديق له من النبلاء، برجاء لشتاوفنبيرغ بأن يقبل أن يكون المرافق الشخصي للقائد العام للجيش فالتر فون براوخيتش.لكي يتمكنوا من المشاركة في محاولة انقلابية، ولكن شتافنبيرغ رفض ذلك. وفي كانون الثاني / 1940 تم تعين النقيب شتاوفنبيرغ كضابط ركن في الفرقة المدرعة السادسة في الهجوم الغربي على فرنسا. وحصل على وسام الصليب الحديدي من الدرجة الأولى، نقل بعدها إلى هيئة أركان قسم التنظيم القيادة العليا للجيش. وفي نيسان / 1941 رقي إلى رتبة رائد ثم وعين في كانون الأول / 1941 كضابط ركن في  المقر العام للقيادة العامة للجيش.

 

وبوصفه قائداً للمجموعة الثانية في هيئة ركن التنظيم في القيادة العليا للجيش، كان أحد الضباط الرئيسيين الذي عملوا بوعي على تغيير السياسة في المناطق المحتلة. ولا سيما فيما يتعلق بقيادة العمليات الحربية لمجموعة الجيوش (A) التي كانت تتقدم في منطقة في القوقاز. أهتم بالقضية المطروحة حيال المتطوعين من سكان المنطقة فيما سمي بالفيلق الشرقي، وكان الأمر يتعلق بتجنيد أسرى حرب مفرج عنهم ومنشقين من الجيش السوفيتي (التجأوا إلى الجيش الألماني) للقتال في الجانب الألماني. وبهذا الصدد أصدرت الهيئة التي يقودها بتاريخ 2 / تموز / 1942 المبادئ التوجيهية  مع الجنود الأتراك والقوقازيين ، وأصدرت في آب / 1942 التوجيهات بأستخدامهم في الفيلق الشرقي.

 

حتى أواسط تشرين الثاني / 1942، كانت الفرقة العاشرة المدرعة مستخدمة في المناطق التي لما تزل غير محتلة من فرنسا، وبعد ذلك مباشرة نقلت الفرقة إلى تونس. وفي غضون ذلك نقل شتاوفنبيرغ مؤقتاً إلى الأركان العامة للجيش، وفي 1 / كانون الثاني / 1943 رقي إلى رتبة العقيد.

 

وفي شهر آذار / 1943 تولى منصب ضابط الركن الأول للفرقة المدرعة العاشرة.  التي كان ينبغي أن تغطي انسحاب الفيلدماريشال أرفين رومل، وفي 7 / آذار / 1943 أصيب بجراح خطيرة جراء قصف منخفض من طائرة بريطانية في تونس.

 

وفي مستشفى ميداني بالقرب من صفاقص التونسية، كان يجب إزالة عينه اليسرى بسبب رصاصة دخلت جمجمته واستقرت قرب عينه، كما أن يده اليمنى التي أصيبت برصاص رشاش الطائرة وبتر أصبعه الصغير، وأصبع الخاتم (البنصر). نقل بعدها إلى المستشفى العسكري 950 بالقرب من قرطاج، ومن هنك نقل بالطائرة إلى مستشفى عسكري في ميونيخ / ألمانيا، بعدها تمتع بعدة إجازات علاج ونقاهة، بعدها نقل بالطائرة إلى برلين ليكون تحت رعاية الطبيب الجراح الشهير فيرديناند زوربروخ، وفي 14 / نيسان / 1943 نال وسام الجرحى الذهبي، الذي تقلده رسمياً من يد الجنرال كورت تسايتزلر رئيس أركان الجيش، الذي كان يتولى تقليد الأوسمة لمن يصابون بجراح وإصابات ثقيلة. وفي 1 / أيار / 1943 نال العقيد شتاوفنبيرغ الصليب الألماني الذهبي.

 

بينما كان العميد هيننغ فون تريشكوف الضابط في هيئة الأركان كان في خريف عام 1941 قد أنظم فعلاً إلى مجموعة المقاومة في برلين حول لودفيغ بيك، وكارل فريدريش غوردلر وهانز أوستر، كان شتاوفنبيرغ يشعر مثله كمثل العديد من الضباط أنه يرتبط برباط قسم الولاء والاخلاص للزعيم هتلر.  ولكنه وبعد انتقاله للعمل في برلين خريف عام 1943، حيث سعى لتكوين علاقات مع أعداء هتلر وخاصة المحيطين بالجنرال في المشاة، فريدريش أولبريشت، رئيس مكتب دوائر قيادة الجيش والعميد ريشكوف. وكان على أدراك بأن الجيش هو الأداة الوحيدة القادرة على إحداث انقلاب بسبب بعد الجيش عن نفوذ الشرطة السرية (Gestapo) وجهاز الأمن.

 

وسوية مع شقيقه بيرتولد الذي كان يعمل مع جماعات مدنية معارضة عملا في صياغة أهدافهم وفيما ينبغي فعله  بعد الإطاحة بالنظام النازي وفي مقدمتها : إنهاء الحرب، ووقف اضطهاد اليهود، واستعادة سيادة القانون التي كانت موجودة إلى ما قبل عام 1933 (عام وصول النازي للحكم)، ولكنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على شكل الحكم المقبل. ، ورفضت الشخصيات المنحدرة من أسر محافظة، من البورجوازية، والنبلاء  والعسكريين  أن يكون النظام المقبل (بعد نجاح المؤامرة) ديمقراطياً برلمانياً، بما في ذلك شتاوفنبيرغ نفسه.

 

ومن جهة أخرى،  يبدو أن شتاوفنبيرغ كان متأثراً بجزء من أفكاره بالقيم النخبوية والأبوية الرعايوية، ومتعاطفاً مع الروح الاجتماعية البروسية، وكان بفضل علاقاته العائلية مع الأسر النبيلة قد نجح بتكوين أفكار وأراء في الدولة والمجتمع مع مفكرين من الاشتراكية الديمقراطية، وهذه الأفكار كانت تزيد من قناعته، أن إزاحة النظام النازي هو الحل الأوحد.

 

وبحسب أقوال أحد السياسيين المشتركين بالمؤامرة أن الدائرة المقربة من شتاوفنبيرغ سعت منذ عام 1944 بالاتصال بالشيوعيين الألمان من أجل عمل جماعي لإسقاط النظام النازي، ، يتم بعدها تأسيس نمط جديد للدولة الألمانية. في 22 / حزيران / 1944 تحادث شتاوفنبيرغ مع الاشتراكيين الديمقراطيين (يوليوس ليبر و رودولف رايشفاين)،  ومع الشيوعيين (أنطون زايفكو، وفرانتز ياكوب)، اللذان كانا في قمة تنظيم المقاومة المعادية للنازي في برلين.

 

ثم كانت هناك لقاءات أخرى، والمناقشات كان جادة وبناءة. وكان شتاوفنبيرغ يثق بيوليوس ليبر، الذي كان يقود منظمة فعالة، ولكنها كانت مخترقة من الأمن النازي، لذلك فشلت هذه المساعي في إشراك قوى أخرى في الانقلاب المزمع القيام به.

 

كان شتاوفنبيرغ يعمل وفي إيجاد عناصر متقاربة معه فكرياً، ومن هؤلاء الضابط في الاحتياط فرتز فون شولنبورغ الذي كان يعمل في الدائرة القانونية برئاسة الأركان الذي كان عنصراً في توسيع شبكة المؤامرة. في تموز / 1944 التقت المجموعة الرئيسية للمؤامرة في برلين في منزل بيرتولد، وأقسموا على يمين العمل المشترك لمرحلة ما بعد الانقلاب، أو حتى بعد احتلال ألمانيا. (4)

 

” إننا نعترف بروح وضمير شعبنا وبمنجزاته المتوارثة من خلال أنصهار الأصول الهيلينية والمسيحية في الكيان الجرماني وخلق الكيان الإنساني الغربي. نحن نريد نظاماً جديداً، يجمع كافة الألمان في دولة يضمن لهم الحقوق والعدالة. ولكننا نحتقر كذبة المساواة ونطالب بالرتب التي منحتها الطبيعة. نريد شعباً قد تجذر في أرض الوطن لا يزال قريباً من القوى الطبيعية، يجد سعادته  وكفايته  ويتغلب بفخر بإرادته على كافة العوامل والدوافع المنحطة “.

 

كان الكونت فون ستافنبرغ “وطنياً متحمساً، كقومي ألماني عاطفي” وساند في البداية الجوانب القومية والمراجعة للاشتراكية الوطنية قبل أن ينشئ الشخصية الإجرامية لل الدكتاتورية النازية ووجدت أيضا مقاومة نشطة بسبب اليأس من الوضع العسكري العام للرايخ الألماني بعد ستالينغراد.

 

وبهذه الآراء والرؤى النخبوية المعادية للديمقراطية التي عبر عنها ” القسم ” يقول المؤرخ البريطاني ريتشارد إيفانس عن الأفكار السياسية لشتاوفنبيرغ،  أنه لم يقدم شيئاً مثالياً للأجيال المقبلة.

 

عملية ” فالكور ”

التخطيط

على أعد تقدير، كان مصير الرايخ والنظام النازي قد غدا محسوماً بعد نجاح إنزال الحلفاء في بداية حزيران / 1944 في النورماندي / فرنسا، وأن الهزيمة العسكرية قد غدت واضحة وأنهيار النظام لا مفر منه. ولنفس الأسباب شعر العقيد شتاوفنبيرغ وكذلك الجنرال فون تريشكو بأنهما ملزمان للمضي بالاستعدادات القيام بالانقلاب وإزاحة النظام النازي بالقوة.

 

” لقد حان الوقت للقيام بشيئ ما الآن. ولكن على هؤلاء القادرين على القيام بشيئ أن يدركوا، بأنهم سيمضون كخونة في التاريخ الألماني. ولكنه عليه أن يعلم أنه سيكون خائناً لضميره إذا فشل في عمله. سوف لن يكون بوسعي النظر في عيون النساء والأطفال للذين سقطوا، إن لم أفعل كل ما في وسعي فعله، لمنع وإيقاف التضحيات الإنسانية التي لا معنى لها “.

 

وسوية مع الجنرال فردريش أولبريشت، والعقيد البريشت فون كويرنهايم، وفون تريشكو، خطط فون شتاوفنبيرغ لعملية فالكور (Walküre). وقد كانت الخطة تحتمل قيام أعمال اضطرابات داخلية. فعلى سبيل المثال كأنتفاضات الأعداد الوفيرة للعمال الأجانب،  وأضاف فون شتاوفنبيرغ وتريشكوف بضعة أوامر أخرى، وجعلا من خطة فالكور خطة تنفيذية لأنقلاب. وكانت النية متجهة لإلقاء اللوم في أغتيال هتلر على مجموعة من المسؤولين في الحزب بالتعاون مع جهة أجنبية، وسيكون هذا في نفس الوقت مبرراً لألقاء القبض على قيادات الحزب النازي، وقيادات ال (SS) والأجهزة الأمنية، والغستابو، وفور انطلاق عملية فالكور، سوف تتلقى كافة قيادات الجيش والقوات المسلحة في كافة أرجاء الامبراطورية الألمانية العظمى، الأوامر أن القيادات العسكرية ستتولى السلطة في وزارة الحرب الإمبراطورية، بما في ذلك وزارة الخارجية.

(الصورة: العقيد شتاوفنبيرغ بمواجهة هتلر، وبحضور المشير كايتل رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة)

 

وعين العقيد فون شتاوفنبيرغ رئيساً لأركان الجيش (وهي غير القيادة العامة للقوات المسلحة)، وأتخذ شتاوفنبيرغ مقره حيث كان يواصل اتصالاته، وكان يعمل بإمرة الجنرال أولبرشت، وأقام معه شبكة من خلايا المعارضة العسكرية،  وقام بالتنسيق لخطط الاغتيال مع القيادي في المعارضة كارل فريدريش غويردلر(مدني / قانوني)، والفريق أول متقاعد، لودفيغ بيك، وكانت له صلات وعلاقات مع مدنيين يعملون في المعرضة، كيوليوس ليبر، وفيلهام لويشنر (شخصية نقابية)، وأعضاء مدنيين آخرين . كان الشخصية السياسية المشهورة هيلموت فون مولتكة (سياسي / رجل قانون) من الشخصيات المعارضة، ولكنه كان قد تعرض للأعتقال منذ كانون الثاني / 1944، فأصبح الخلايا التي يقودها بإمرة شتاوفنبيرغ شخصياً.

 

في 1 / تموز أصبح في رئاسة أركان الجيش الاحتياطي بأمرة الفريق فروم. وأصبح جنيا إلى جنب مع الجنرال فريدريش أولريشت والعقيد ميرتز فون كويرنهايم في مقر أركان الجيش،  الذي كان قد غدا مقر المؤامرة التي يجري التخطيط لها ” عملية فالكور ” . وكانت النقطة الرئيسية في المخطط تعتمد على ما سيقوم به العقيد شتاوفنبيرغ، ومتابعة عمله في برلين / العاصمة، في مقر قيادة الجيش.

 

وفي في 11 / تموز في موقع بيرغهوف (إحدى مقرات هتلر)، وفي 25 / تموز في مقر القيادة المتقدم  وكر الذئاب (Wolfsschanze) حاول العقيد شتاوفنبيرغ الشروع بعملية فالكور (بتفجير مقر هتلر واغتياله خلال اجتماع أو مؤتمر عسكري)، كلتا العمليتان تخلى عنهما لأن الاجتماع لم يكن ليحضره هاينريش هملر(وزير الداخلية وقائد قوات ال SS) والماريشال هيرمان غورنغ )قائد سلاح الطيران ونائب هتلر)، وتقرر أن يقوم بالمحاولة الثالثة ولا ينبغي أن تؤجل تحت أي ظرف من الظروف.

 

اغتيال وانقلاب

جاءت الفرصة التالية بنفسها بالصدفة التامة بتاريخ 18 / تموز / 1944، حين أستدعي العقيد شتاوفنبيرغ إلى مقر القيادة في اليوم التالي، حيث سيتم التبليغ عن الأنتشار الجديد للقوات. وكانت مجموعة المقاومة قد

عينت أسماء الحكومة المقبلة، ولم يكن قد تبقى سوى إزاحة هتلر (القضاء عليه). طار العقيد فون شتاوفنبيرغ من مطار قاعدة رانغسدورف (Rangsdorf) بالقرب من برلين، في الساعة 700 من يوم 20/ تموز/1944 إلى وكر الذئاب (Wolfsschanze) بالقرب من مطار راستنبورغ (Rastenburg) في بروسيا الشرقية، ومعه مرافقه الملازم أول فيرن رفون هايفتن.

 

والاجتماع عقد قبل موعده المقرر بنصف ساعة، لبحث الزيارة المرتقبة لحاكم إيطاليا بينتو موسوليني، لم يتمكن من توفير مفك قابض (pliers / بلايرز) (بحجم مناسب بسبب إعاقة في يده اليسرى، 3 أصابع) لذلك لم يضع في حقيبة يده إلا واحدة من العبوتين المتفجرين مع قلم تفجير، ولو كان قد أستخدم العبوة الثانية لكان حجم الأنفجار بلا شك سيكون أكبر.

 

بالإضافة لذلك، فإن الاجتماع لم يكن في قبو خراساني محكم، بل في ثكنات خشبية خفيفة، ولذلك لم تكن قوة الإنفجار بالقوة التي كان يتوقع لها أن تكون. وضع العقيد شتاوفنبيرغ الحقيبة أرضاً تحت الطاولة على بعد مترين من مكان جلوس هتلر، بجوار طاولة خشبية قوية(ربما كان لها تأثيرها على الأنفجار)، وغادر المكان بحجة ضرورة إجراء مكالمة هاتفية ضرورية. وقد انفجرت العبوة الناسفة في الساعة 12,42 ظهراً داخل القاعة الخشبية المكتظة بحضور 24 شخصاً. ونجا هتلر من الإنفجار وكذلك 19 شخصاً من الحضور.

 

(الصورة الغرفة التي وضعت العبوة المتفجرة، الأرقام هي الشخصيات الحاضرة للمؤتمر، طاولة الخرائط، الحقيبة المشار إليها بالأحمر التي وضعت تحت الطاولة التي تسندها وترفعها عارضتان خشبيتان على درجة من القوة. على يسار الغرفة هناك طاولة للكتابة، وعلى يمن الغرفة طاولة مستديرة. الغرفة تضم ثلاث شبابيك لمواجهة هتلر، والباب من خلفه )

العقيد فون شتاوفنبيرغ الذي أسرع وغادر القاعة، وركب عجلته المكشوفة، ومعه مرافقه الملازم الأول فيرن رفون هايفتن، وتخلص من المتفجرة الثانية بأن قذف بها في الغابة في طريقه للمطار، وعاد بالطائرة التي جاء بها عائداً لبرلين.

 

وكان شتاوفنبيرغ على ثقة تامة أن هتلر قد قضى نحبه في الانفجار، ولكنه علم بعد وصوله إلى برلين بنبأ نجاة هتلر من خلال بيان أذاعه وزير الدعاية جوزف غوبلز، حوالي الساعة 1300، وبعد ذلك بوقت قصير أكد العقيد هان (المشترك في مؤامرة الانقلاب) للجنرال تيلي في الأركان، بنداء تلفوني آخر من ثكنة ” وكر الذئاب “، أن هتلر قد نجا من محاولة الاغتيال. وقام الجنرال تيلي بأبلاغ الجنرالات فردريش ألبرشت، وهوبر، عن الأنباء التي بحوزته، وأتفق الضباط بعدم الأستمرار بباقي صفحات خطة الانقلاب .

 

وأيضاً، خلال رحلة طيران العودة لبرلين للعقيد شتاوفنبيرغ، أصدر اللواء / غستابو هاينريش مولر  الأمر بألقاء القبض على العقيد شتافنبيرغ، الذي حال هبطوه في المطار ببرلين، أكد في مكالمة هاتفية مع الجنرال أولبرشت، أنه قد شاهد موت هتلر بنفسه. وتوجه حالاً مقر رئاسة أركان الجيش، وفي الساعة 1630 ، أي بعد مرور 4 ساعات على محاولة الاغتيال وانطلاق عملية فالكور،  بدأ تظهر الأخطاء العديدة في التحضيرات لقيادة حركة الانقلاب.

 

وهكذا فإن إرسال البرقيات من مقر رئاسة أركان الجيش إلى وحدات الجيش، خلال ساعات بعد الساعة 1600 وأن البرقيات المكتوبة الصادرة عن مقر رئاسة أركان الجيش هي غير صالحة. وأغلب الضباط خارج رئاسة أركان الجيش كانوا يلاحظون التناقض في الأوامر والمعلومات، والكثير من أوامر قيادة حركة الانقلاب فالكيري لم تكن سارية المفعول.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(الصورة : قاعة الاجتماع بعد التفجير)

 

 

 

 

 

 

 

وكان بعض الضباط قد حاول السيطرة على وحداتهم، والمضي بوحداتهم نحو برلين،  ولكن الفريق فردريش فروم الذي لعب دورا مزدوجاً القى القبض عليهم، وبناء على الأنباء الواردة لم يكن يرغب بالمضي في العملية، وفي مساء تلك الليلة تحدث هتلر ووجه نداء في الإذاعة الرسمية.(5)

 

نهاية محاولة الأنقلاب

في حوالي الساعة 2230، تم اعتقال مجموعة من الضباط، بينهم: العقيد شتاوفنبيرغ وسائر المشتركين بالمحاولة.  وقام الفريق فروم بأعتماد محكمة ميدانية عقدت حالاً. وفي ذات الأمسية يوم 20 / تموز، أمرت بأعدام الضباط رميا بالرصاص كل من : العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ،  والملازم الأول فيرنر هويفتن، والعقيد البرشت كويرنهايم، والفريق فردريش البرشت، وتم تنفيذ الحكم بالرمي نحو منتصف الليلة ذاتها، أو بعدها بقليل. والتنفيذ جرى في الباحة الداخلية لرئاسة أركان الجيش. وقد تمكن العقيد شتاوفنبيرغ في اللحظات الأخيرة أن يهتف بصوت عال ” لتحيا ألمانيا المقدسة ” .

 

وفي اليوم التالي، دفت جثث المعدومين بملابسهم العسكرية وأوسمتهم في ساحة كنيسة سانت ماتيوس في برلين، وكان هملر وزير الداخلية قد أمر بدفنهم، ثم أمر بحرقهم، ونثر رمادهم في أرجاء متفرقة من برلين.

 

مصير أسر الضباط والمعدومين.

خطط هيملر وزير الداخلية، لأغتيال عائلات المتآمرين، وإطفاء أسماء عائلاتهم، وكانت النية متجهة لأعمال كثيرة ضد عوائلهم، ولكن تفاقم الوضع العسكري واقتراب قوات الحلفاء من ألمانيا، عطل بعض هذه الاجراءات. ومن تلك اعتقلت زوجة العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ، وأودعت إحدى المعتقلات سيئة الصيت (معتقل رافينبروك)، ولكنها وبسبب كونها في الأيام الأخيرة من حملها والولادة الوشيكة، نقلت إلى دار ولادة نازي، في مدينة فرانكفورت أودر، حيث ولدت زوجة شتاوفنبيرغ بطفلهما الخامس مولود أنثى أطلق عليها أسم كونستانزا.، ثم أنتزع من أمه ووضع في منزل خاص بالأطفال حتى نهاية الحرب في شهر أيار / 1945.

 

تخليد ذكرى الانتفاضة (محاولة الانقلاب).

أطلق، وما يزال يطلق أسماء ضحايا النازي ومحاولة الانقلاب وعملية فالكور على معسكرات، وشوارع، وساحات، ومدارس، ومدراس عسكرية، وأقيمت النصب التذكارية والتماثيل، وجرى إنتاج العديد من الأفلام السينمائية والوثائقية عن العملية، وعن حياة أبطالها، ولا سيما العقيد كلاوس فون شتاوفنبيرغ، الذي حضي بالمزيد من هذه التكريمات، وما يزال يقام سنويا أحتفال بمناسبة محاولة الأنقلاب التي تعتبر في التاريخ السياسي الألماني عملاً مجيداً من أعمال مقاومة الحكم النازي. فتقام عرض ورفع علم يحصره قادة البلاد والجيش الألماني.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :

  1. كان موقف غالبية الضباط الألمان من أسر عسكرية / أرستقرطية نبيلة، أعتبروا الحزب النازي أمرً يثير الاستهجان، ولكنهم عادوا فأيدوه بتحفظ، حين سرت الفوضى في البلاد وكادت ألمانيا تعود للتفتت والتجزأة، كما أنهم رأوا في الحزب النازي والزعيم هتلر، القائد القادر على قيادة البلاد وإنقاذها من براثن معاهدة فرساي الظالمة.
  2. الفرسان ــ الدروع ، هذا سؤالاً حاسما في بداية الثلاثينات، والألمان كانوا السباقين في الحكم على نهاية سلاح الفرسان الذي كان منذ ألاف السنين، السلاح الذي يحسم المعارك التاريخية، وبدأوا بالتخلي عن الفرسان، مقابل ازدهار فكرة المدرعات وكان الجنرال هاينز غودريان من أوائل من نشط في مجال ثقافة الدروع.
  3. السوديت : أقليم تقطنه غالبية ألمانية، ضم إلى تشيكوسوفاكيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أعتبرها هتلر إحدى المظالم التي لحقت بالشعب الألمانية وتستحق التصحيح بإعادتها للوطن الأم. وفعلا أجتاحها الجيش الألماني، وسط سكوت أوربا وصمتها.
  4. في تموز / 1944 كان الموقف الحربي : يشير أن الحلفاء يوسعون إنزالهم الناجح في الجبهة الغربية /  فرنسا، وفي الجبهة الشرقية كان الجيش السوفيتي ينهي تحرير أراضيه ويدخل إلى أوربا الشرقية، بهذا المعنى كان وصول الحلفاء إلى برلين وإسقاط الدولة أمرا متوقعاً.

في  آذار / 1945، أعتبر الفريق فروم متخاذلاً أمام العدو، وحوسب على عدم إبلاغه المبكر بمحاولة الأنقلاب وأعتب من أنصارها، وحكم علية بالإعدام

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com