مقالات

خلف الجدار

لودميلا بيتروشيفسكايا

ترجمة : د . تحسين رزاق عزيز

دخل شخص المستشفى، وقد تعافى الآن لكنه يشعر أنَّ صحته لم تتحسن تماماً، خصوصاً في الليل. وزاد آلامه أن احدهم، رجل وامرأة، كان كل ليلة يتحدث خلف الجدار.

وفي معظم الحالات كانت المتحدثة امرأة، صوتها لطيف ورقيق، والرجل نادراً ما يتحدث، ويسعل أحيانا , هذه الأحاديث منعت مريضنا من النوم، وكان أحياناً يخرج من الردهة عند الفجر ويجلس في الممر يقرأ الصحف.

لم يتوقف هذا الحديث الغريب خلف الجدار لا في النهار ولا في الليل وصار صاحبنا المعافى يعتقد انه سيصاب بالجنون، لاسيما، حسب ملاحظاته، ان احد قط لم يخرج من الردهة , وعلى كل حال، الباب المؤدي الى هناك مغلق باستمرار , لم يرغب المريض بسبب الخجل في الشكوى من الضجيج، لكنه قال ان نومه قليل، فأجابه الطبيب المعالج: لا بأس ستتحسن صحتك قريباً، وعندما تعود الى البيت سيكون كل شيء على ما يرام.

جدير بالقول، أن لا أحد في البيت ينتظر هذا المريض، فوالداه توفيا منذ زمان بعيد، وزوجته طلقها، والمخلوق الوحيد في بيته هو القط الذي آواه الآن الجيران , تعافى المريض ببطء، وعاش بأذنيه المسدودتين، ولكن حتى من خلال السدادة كان يسمع الحديث نفسه، الصوت الأنثوي الهادئ وأحياناً سعال رجل وكلمتين او ثلاث جواباً على ذلك الصوت.

وفي الحقيقة ان المريض نفسه اقنع نفسه انه لو أراد النوم فسيغفو في جميع الأحوال , و ان الأمر كله يكمن في أعصابه التي تشاكسه , وذات مرة في المساء شعر مريضنا فجأة ان الحديث خلف الجدار قد توقف , لكن الصمت لم يدم طويلاً.

ثم طرق صوت كعاب الممرضة المألوف لديه، هذه الكعاب كانت تدوس على المكان، بعد ذلك تداعى (سقط) شيء ما بصوت منخفض، ومن ثم تراكض الناس وصخبوا، وتمتموا وصاروا يحركون الكراسي، ماذا يجري – باختصار، أي حلم هذا !.

خرج المريض الى الممر، إذ لم يعد بمقدوره بعد أن يبقى مضطجعاً , وهنا رأى على الفور أنَّ باب الردهة المجاورة، خلافاً للمعتاد، مفتوحاً على مصراعيه، وكان فيها عدد من الأطباء: أحدهم منكب على السرير، حيث يرى على الوسادة وجه شاحب لرجل نائم، وجلس الآخرون بجانب امرأة ملقاة على الأرض، وفي الممر تركض ممرضة تحمل حقنة , بدأ مريضنا (اسمه الكساندر) يمشي جيئة وذهاباً بلا هوادة أمام الأبواب المفتوحة للردهة المجاورة، شيء ما جذبه نحو هذين الشخصين اللذين كأنهما نائمان بهدوء بالطريقة نفسها مع فارق وحيد، هو أنَّ الرجل مستلقِ على السرير والمرأة على الأرض , الوقوف عند الباب غير ملائم، فوقف المريض قرب النافذة البعيدة مراقباً الضجة.

وقد جلب بعضهم الى الردهة نقالة (سدية) فارغة، وها هي تخرج عائدة ببطء الى الممر لكنها الآن بحمل، إذ رقدت عليها تلك المرأة ذاتها, وأومض ثانية هذا الوجه الأنثوي النائم، الهادئ والجميل , يجب القول ان الكساندر كان خبيراً بالجمال الأنثوي , وأكثر من مرّة أشرف على زوجته السابقة أمام المرآة (قبل الذهاب ضيوفاً، على سبيل المثال).

وفي كل مرة يرى فيها ساحرة أخرى (عينين ماسيتين وبرعم وردة مزهر تحت الأنف) يتصور هذا الوجه أمام المرآة على شكل فطيرة زيتية بيضاء فيها ثقب في ذات المكان الذي ستكون فيه الوردة , وثقبان سوداوان في المكان الذي ستوضع فيه فيما بعد الماستين ,لكن هنا في ممر المستشفى كأن احدهم لكمَ الكساندر على قلبه بالذات عندما أومض هذا الوجه الأنثوي الغريب المضطجع على وسادة مسطحة.

هذا الوجه الحزين والشاحب والبسيط والهادئ على نحو بائس سرعان ما غاب وراء ظهر المسعف ثم انفرج باب المصعد وانتهى كل شيء , بعد ذلك ادرك الكساندر ان جسد المرأة التي نقلوها من جانبه المغطى بشرشف، بدا متعرجاً وكبيراً بشكل مخيف وكأنه منفوخ وجوارب رجليها تدلت منفردة بلا حياة وفكّر انه لا توجد في الطبيعة مخلوقات بشرية متكاملة وتأسى من كل قلبه لهذه السيدة السمينة ذات المحيّى الجميل , ثم تكررت عملية النقل ولكن في هذه المرة نقلوا جثمان شخص ما مغطى الرأس.

وهنا أدرك الكساندر ان المتوفى من الردهة المجاورة مريضنا، بطبعه إنسان صامت، لم يسأل الممرضة التي جاءت في الصباح لتقيس درجة حرارته عن أي شيء , تمدد الكساندر وفكّر، ان الآن خلف الجدار هدوء تام، ولكن على كل حال لا يمكن النوم، فقد اعتاد خلال الأسابيع الماضية بطريقة أو أخرى على هذا الحديث الهادئ والطويل لشخصين محبين خلف الجدار، ربما هما زوج وزوجة  ويبدو ممتعاً سماع الصوت الأنثوي الرقيق الشبيه بصوت أمه، عندما كانت تُمَسِّد على رأسه في طفولته بعد بكاء طويل.

ليتهما بقيا يتحدثان معاً طول الوقت، أخذ الكساندر المسكين يفكر، والآن خلف الجدار صمت القبور الذي يصم الأذان , وفي الصباح، بعد جولة الممرضة، سمع في الردهة المجاورة صوتين ضوضائيين حادين، وشيء ما يقعقع ويطرق ويسير.

– هذا ما تستحقينه،  قالت امرأة بحزم.

– لا اعرف شيئاً، – صرخت أخرى، كنت في إجازة، وذهبت لأخي في القرية ! لم يقدموا لي أي شيء لأكله! ومع هذا يسمّى أخ. هالوا علّي البطاطا ولا شيء غيرها!

– هكذا إذن ! زعقت الأولى وهي ترفع شيئاً ما وتضعه في مكانه – خدعك العشّاب هذا، الذي جاء من التبت.

– لا اعرف شيئاً،  – ردت الثانية

– العشاب هذا، الظاهر انه وعدها بالكثير، إذا أعطته كل ما لديهم، – صاحت الأولى من الأسفل، ويبدو انها تسللت تحت السرير. الصوت كان مسموعاً بشكل ممتاز

– هذا كل شيء؟

– تقريباً.

– كيف هذا، كل شيء؟

– يبدو انها باعت حتى الشقة وكل الأغراض، – قالت الأولى بشكل واضح وهي تخرج من تحت السرير.

– حمقاء! – صرخت الثانية.

– لماذا أنا اعرف، لأن الممرضات اشترين منها بعض الأشياء، ثلاجة ومعطف وأشياء كثيرة بسعر رخيص.

– حتى السعر لم تحدده، وكما يقال، اخذ بالمبلغ الذي تعطيه.

– وأنتِ، ماذا اشتريتِ؟

– أنا في ذلك اليوم كنت في المناوبة الليلية، وكانوا قد فككوا كل شيء.

– وأنا أين كنت؟ صرخت الثانية.

– أنتِ كنتِ في الأجازة، تمتعي وتجولي أكثر . .  قالت الأولى بصوت مكتوم , بحيث يعطي انطباعاً بأنها لفّت فمها بخرق، ولكن، يبدو انها تسللت ثانية تحت السرير . . وهذا الطبيب , الساحر هذا , وَعَدَ على ما يبدو بالتحسن . . أي انه قال: « سينتهي كل شيء على ما يرام ». وها هو كل شيء قد انتهى.

– القضية معروفة، – زعقت الثانية بحدة. – أطباءنا على الفور قالوا انه سيعيش أسبوعين وها هي، على ما يبدو، صارت تبحث عن ساحر. أعطته كل شيء، والرجل مات على طول.

وحتى من وراء الجدار كان مفهوماً انها مستاءة بسبب شيء ما.

– ماذا نفعل الآن،-  صرخت بأعلى صوتها، – جميع حاجياتها عند الممرضات، بأي شيء ستلف الطفل؟

– آه، أجابت الأولى بصعوبة، ويبدو من تحت السرير، – هي نفسها على شفا الموت، فاقدة للوعي. ستلد – أو لا تلد، يعيش- أو لا يعيش. وضعوها في الطابق الثالث، في الإنعاش.

– ماذا وجدتِ هناك؟ صرخت الثانية.

– احدهم نثر خردة، – تمتمت الأولى، وهي تخرج من تحت السرير.

– كم؟ سألت الثانية.

لم تجيب الأولى وعبّت في جيبها الخردة كلها. واصلت الثانية كلامها بمرارة في صوتها:

– كان صعباً الذهاب إليهم في الردهة. بقيتُ أفكر طوال الوقت، ما الذي يجعلها فرحة هكذا، هي حامل، وزوجها يحتضر، بينما تبدو كأنها في حفلة عيد ميلاد.

قالت الأولى بلهجة واعظ:

– أعطت كل شيء وتعتقد أن هذا سيساعد. لم تبقِ لنفسها شي. ربما ظنت ان زوجها لو مات، لن تكون بحاجة لشيء.

– يا لها من حمقاء، – تنهدت الثانية، – انه عشّاب أليس كذلك؟ يا له من ساحر.

– اخذ كل شيء وقال انه ذاهب الى التبت للصلاة .

والمدهش أن كل شيء كان مسموعاً بوضوح!

اعتقد الكساندر، ربما، تكلم جيرانه القدامى بصوت منخفض جداً، لأنه لم يستطع فهم كلمة واحدة مما قالوا.

ثم بدأت المنظفتان تناقشان السلوك الشائن لأحدى موزعات الطعام في المطعم (الحصص صغيرة، ولا تريد أن تطعم الممرضين وترتدي شعراً مستعاراً وهي بهذا العمر) وأثارتا ضجة من جديد ثم انصرفتا , لم تتحسن صحة الكساندر بعد واضطرب عمل قلبه. واضطر للبقاء في المستشفى.

بعد أسبوع جاءته اثنتان من الممرضات يحملن علبة فيها نقود وورقة: كانتا تجمعان المال لإحدى النساء كي تشتري الجهاز لأبنها الوليد , كانت الممرضتان ودودتين وحتى أنهنَّ خجلن من فعلهن هذا. ونوّهن له أن هذه المرأة هي جارته السابقة من الردهة المجاورة.

أعطى الكساندر كل ما كان لديه ووقع على الورقة، وابتهج قليلاً: أولاً، لأنه أعطى مبلغاً كبيراً جداً، ثانياً، إذا تلك المرأة ذاتها ولدت، فهذا يعني ان كل شيء انتهى على ما يرام.

لم يسأل عن أي شيء وفقاً لعادته، غير أن حالته تحسنت بشكل كبير.

ما كان الكساندر، من حسن حظه، رجلاً فقيراً لكن المرض أوقفه في الطريق نحو الثروة الكبرى، انه أحبّ النقود ولم يبعثرها على التوافه، والآن أموره تجري بشكل رائع. وحتى وهو في المستشفى، تمكن من الأشراف على موظفيه , أمّا المرض فقد أحس به فجأة، في إحدى الليالي.

مشى على قدميه من المترو وهو في حالة من السكر الخفيف، بعد أن تناول العشاء مع أصدقاءه في مطعم، وبالقرب من المنزل رأى فجأة صبياً قذراً باكياً في سن عشر سنوات، اندفع من وراء سيارة وسأله عن كيفية الوصول الى محطة المترو.

– المترو هناك، لكنه الآن مغلق.

كان الجو في الشارع بارداً نوعاً ما والصبي يرتجف قليلاً.

الكساندر يعرف هذا الصنف من الناس- إنهم يتظاهرون بالجوع والبرد ويدّعون أنهم صغار ولا حامٍ لهم، ثم يتوجب عليك أن تأخذهم معك الى البيت وتنظفهم وتطعمهم وتدعهم ينامون وفي الصباح يختفون بعد أن يسرقوا ما يمكن سرقته، او يبقون يعيشون عندك، وهذا أسوء، وسينضم إليهم في يوم رائع بعض الأقارب المشبوهين، وهنا يكون لزاماً عليك أن تطرد مثل هؤلاء الضيوف، لكن المتشردين لا يعرفون الخجل، لا يخجلون من شيء، ومهما طردتهم سيعودون مرّة أخرى الى الطريق الذي داسوه وسيقرعون الباب ويصرخون ويبكون ويطلبون أن يتدفأوا، وستشعر بعدم الارتياح – إذ لا احد يريد أن يبدو بخيلاً وقاسياً.

باختصار، تعرَّض الكساندر لمثل هذه الحالة في حياته، وباستهزاء اقترح على الصبي أن يوصله الى مركز الشرطة، إذا ما كان ضائعاً ولا يمكنه أن يجد منزله , رفض الولد بشكل قاطع وحتى انه نط الى الخلف قليلاً:

– آها، حتى يعيدوني الى المنزل.

الحقيقة، كان كل شيء واضحاً بالنسبة لهذا الولد، ونصحه الكساندر بالذهاب الى مدخل منزل دافئ لكي لا يتجمد – نصيحة مجانية من شخص بالغ قانع وشبعان الى وغد صغير وبائس.

وافترقا على هذه الحال، الصبي توجه وهو يرتجف الى مكان ما في ليل المدينة، أمّا الكساندر فوصل الى البيت واغتسل وفتح الثلاجة واكل لحماً بارداً وفاكهة وشرب نبيذاً من النوع الجيد وأوى الى فراشه كي ينام وهو في مزاج رائع وبعد ذلك استيقظ بالليل من جراء ألم حاد في القلب واضطر لاستدعاء « سيارة الإسعاف ».

حاول في المستشفى ان يقول للطبيب انه التقى بيسوع المسيح وخانه مرّة ثانية، لكن الطبيب استدعى طبيباً آخراً وسمع المريض وهو في حالة من الذهول، انه بشكل واضح يهذي , ورغم اعتراضه أعطي حقنة وبدأت أيام طويلة في المستشفى , والآن بعد أن أعطى نقوده، شعر بفرح عارم.

وظل طوال الأسابيع الماضية يفكر بلا انقطاع بذلك الرجل الذي نُقل مغطّى بالشرشف والذي توفي شجاعاً من دون ان يسمح للآخرين بالإشفاق عليه , تذكر الكساندر صوته الهادئ المكتوم.

بهذا الصوت يمكن أن يقال: كل شيء على ما يرام، كل شيء حسن، لا تفكر بشيء لا تقلق , وربما انهما لم يتحدثا أبداً عن المرض، بل تحدثا عن أشياء أخرى، وعن المستقبل , وهي أيضاً لم تكن قلقة، حدّثت زوجها بفرح وسعادة، ربما، عن سعادتهما معاً عندما يعودون جميعاً الى المنزل، واي سرير يجب ان يشتروه للطفل، وتحدثت وهي تعلم جيداً انه لم تبق لديهم نقود أبداً.

يبدو انها تعتقد بالقوة الشافية للأعشاب، ولم يقلقها شيء سوى حياة زوجها وليكن ما يكون , ربما كانت تأمل إذا ما توفي زوجها لن تبقى على قيد الحياة بقوة سحرية ما , ولكن من المحتمل انه آن الأوان لكي تبقى على كل حال وحيدة – ليس معروفاً كيف، بلا بيت ولا مال، وبمعيتها طفل , وهناك استطاع الكساندر ان يتدخل في سير الأحداث بماله.

وكان يأمل أن المبلغ سيكفي المرأة المسكينة للسنة الأولى كلها، ستستطيع أن تؤجر شقة وتدبر أمورها الى أن تجد عملاً , لقد حلت على الكساندر سكينة تشعره بالسعادة في أيامه الأخيرة في المستشفى وكأنه عرف تماماً أن كل شيء سيكون على ما يرام.

صار ينام في الليل، وحتى انه يخرج للنزهة في النهار , وحل فصل الربيع الدافئ الجميل، وأخذت تبدو في السماء غيوم صغيرة بيضاء، وتهب رياح دافئة وتفتحت زهور الهندباء في حديقة المستشفى , وعندما خرج الكساندر من المستشفى جاءته سيارة وغادر، وهو يشعر بالرضا، المستشفى برفقة صديقه.

وهنا عند البوابة، وقعت عيناه على حادثة صغيرة : إحدى المعينات من قسمهم قادت بيدها امرأة نحيفة تحمل رضيعاً , كانتا تسيران ببطء، بحيث التفت الكساندر مستغرباً , و رأى أن المعينة، بعد أن عرفته ! إحمرّت خجلاً، وانسلت بسرعة، متمتمة بشيء من قبيل « سأعود، لا يسعني أن استمر أكثر »، وعادت مسرعة.

فوقفت المرأة الحاملة للطفل، رفعت رأسها وفتحت عينيها , لم تحمل في يديها عدا الطفل شيئاً، حتى حقيبة يد , توقف الكساندر ايضاً لبرهة , و رأى ذلك الوجه الشاب الهادئ الرائع ذاته، والحدقتين الضبابيتين قليلاً والرضيع الملفوف بلحاف قطني من ما يستعمل في المستشفى.

انقبض قلب الكساندر، كحاله عندما بدأ يؤلمه، وكحاله عندما تطلع بأثر الصبي المرتجف في الشارع ليلاً , لكنه لم يلتفت الى الألم، انشغل في هذه اللحظة أكثر في كونه أدرك كيف سرقت المعينات المسكينة بدهاء , وفهم انه من الآن وصاعداً سيكرس حياته كلها من اجل هذه المرأة النحيفة الشاحبة، ومن اجل رضيعها الصغير الراقد متجمداً في اللحاف الحكومي الذي أتلفه الغسل، والمختوم في الجانب بختم المستشفى الأرجواني.

ويبدو أن الكساندر قال:

–  أرسلت لأجلكم سيارة من وزارة الصحة. الى اي عنوان يوصلوكم؟ هذا هو السائق، تفضلوا.

فأختنق صديقه.

أجابت متأملةً.

–  يفترض أن تأتي صديقتي لتأخذني، لكنها مرضت بشكل مفاجئ. أو مَرِضَ ابنها، لا اعرف.

وهنا، نكاية بالكساندر، هرعت نحو المرأة والطفل جوقة كاملة من الناس وهم يحملون الزهور وكلهم يتكلمون بصوت عالٍ عن سيارة ما تعطلت وعن سرير اشتروه للرضيع وعن حوض صغير ومن بين الصراخ سمع “يا له من جميل صورة طبق الأصل من والده” و”لنذهب- لنذهب” واختفوا كلهم، وسرعان ما بقي الكساندر وحده واقفاً في فناء المستشفى كالعمود مع صديقه الذي لم يفهم شيئاً مما حصل.

قال الكساندر:

– تعرف، توقعوا لها أنها ينبغي أن تهب كل شيء، فعلت ووهبت كل شيء. إنها حالة نادرة. إذ اننا لا نعطي أبداً كل ما نملك! نبقي لنفسنا شيئاً، ألا توافقني؟ إنها لم تبقِ لنفسها شيئاً. لكن هذا يجب أن ينتهي على خير، أفهمت؟

أومأ صديقه برأسه على كل حال- لا اعتراض على المعافين.

ما هي الإجراءات التي اتخذها الكساندر فيما بعد، وكيف بحث ووجد، وكيف حاول ان لا يرعب، وان لا يصد حبيبته، وكيف وجد طرقاً التفافية, وكيف تعرف على جميع صديقات المرأة التي صارت زوجته، قبل ان يتمكن من كسب ثقتها -هذا كله علم، سيصبح معروفاً لبعض المحبين فقط.

وبعد مضي عدة سنوات استطاع أن يصطحب زوجته وطفلها الى بيته، وسرعان ما جاء القط العجوز الى ربة المنزل الجديدة وصار يداعب رجليها، والطفل ابن الأربع سنوات، في المقابل، يضحك ويمسك به بلا تكلف من بطنه، لكن القط العجوز لم يصدر صوتاً وتعلق به بصبر وأغمض عينيه وهوَّ، وكأنه مستمتعاً بالتعليق، منقسماً الى قسمين، في مثل هذا العمر المديد، بيد ان القطط-  صنف حكيم ويفهمون مع من يتعاملون.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com