مقالات

غزة هاشم ووعي القضية الفلسطينية .

بيدر ميديا.."

أنتَ إن قلت مِتْ، وإن سكت مِتْ، قُلها ومت.
معين بسيسو
1
مصادفة سعيدة جمعتني مع مثل أرمنيّ قديم حين كنتُ أتصفّح نسخة من تقويم “المرآة” عمره مائة عام صادر بإدارة خليل زينية في حارة الشواربي بالقاهرة في مصر عام1924. وتقويم “المرآة” كان كتاباً سنوياً يضمّ بين دفتيه الكثير من المواضيع والأبحاث والفوائد والفكاهات والصور والإعلانات، ممّا يجعله تأريخاً لتلك السنة. يقول المثل الأرمني الذي وجدته في زيل إحدى صفحات التقويم: (يلقي مجنون حجراً في بئر فيعجز أربعون حكيماً عن إخراجه) والحجر الذي ألقاه المجنون في البئر سدّ نبع الماء، فنضبت موارده، ثمّ جفّ. ما العمل والخلق عطشى؟ يقول أحدهم: أربعون حكيماً في البلاد، وهذا أوان حكمتهم. ولكن الُحكماء نفضوا أيدهم من حلّ المشكلة، ثمّ اعترفوا بعجزهم، وناموا ملء جفونهم عن شواردها.
2
نؤكد هُنا بأنّ أحداث الحاضر تختلف عن تلك الأحداث التي صارت تاريخاً؛ في أنّنا لا نعرف النتائج التي ستسفر عنها، بينما الحدث التاريخيّ نستطيع أن نقيّم مغزاه وندرسه ونتتبع آثاره والعواقب التي جلبها، وأيضاً نتعلّم منه ونزداد حكمة ومعرفة. وسيكون الأمر مختلفاً لو أنّنا أُعطينا فرصة أن نعيش ثانية الحدث التاريخيّ ذاته، فكم ستظهر لنا الأمور مختلفة، وكم ستظهر أهمية التغييرات، والتي لا نكاد نلاحظها في حينها. فهل نتصرف بالطريقة عينها لو عشنا الحدث التاريخيّ من جديد؟ يُجيب القائد السياسيّ: نعم بكل تأكيد كنتُ أخطو على الدرب ذاته، وأسير على النهج الذي سلكته سابقاً والتي أثبتت الحياة صحّت السير فيه. بالله عليك يا هذا كيف أثبتت الحياة صحّة نهجك وأنت في الهاوية؟ أليس من الحماقة، التي أعيت من يُداويها، أن نسلك النهج ذاته، ونقع في الحفرة مرتين، بعد أن زودتنا الخبرة التاريخيّة بخارطة معرفيّة أكيدة نستطيع السير على هديها؟ يقول المثل الشعبيّ: (الحمار لا يقع في الحُفرة مرتين). فهل يمكننا القول بأنّنا سنسلك النهج نفسه لو أُتيح لنا وَعْيُ القضيّة الفلسطينيّة من جديد؟ رحم الله الشاعر الكبير عليّ بن العباس، أبو الحسن. المعروف بابن الروميّ القائل: (أمامك فانظر أيّ نهجيك تَنْهجُ/طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ). الظاهر بأنّه من حسن حظّنا، على الأرجح، أنّنا لا نستطيع قطّ أن تكون لنا هذه التجربة التاريخيّة الفذّة. فالبشر يدخلون المستقبل بزاد وفير من التجارب التاريخيّة، ولا يحتاج المرء لأن يكون نبيّاً لكي يكون على وعي بالأخطار المحدقة بقضيّته.
3
في تاريخنا المعاصر وذات مساء خريفيّ حزين من عام 2016 وقبل يوم واحد من رحلتي القسريّة الشّاقة مع أسرتي عن مدينة “إدلب” في الشمال الغربيّ من سورية إلى مدينة “إزمير” التركية على شاطئ بحر إيجة، قلتُ لأبي راشد دحنون الذي كان في السابعة والثمانين من عمره يوم ذاك: أنت بكلّ تأكيد عشت النكبة الفلسطينيّة من أيامها الأولى عام 1948، ودعك من كل ما سبق من نكبات ونكسات وخيبات، وقل لي، ونحن الآن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هل تجد مخرجًا، أما من حلّ يلوح في الأفق؟ قال أبي: أعرف أنك تميل إلى أفكار ما طرحة المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” مع صديقه المفكر الباكستاني “إقبال أحمد” في كتاباتهما وحواراتهما. وقد قرأتَ لي ما قاله المفكر الباكستاني “إقبال أحمد” في أحد حواراته مع الكاتب والصحفي دافيد بارسَميان، ولا أتفق معه: (لقد هزم الفلسطينيون أنفسهم أكثر مما هزمتهم إسرائيل) ومع خبرتي السياسيّة وعملي في الحزب الشيوعيّ السوريّ أيام القائد الأسطوريّ خالد بكداش إلا أنني أترك الحديث في هذه القضيّة إلى يوم آخر. من الواضح أن أبي هرب من الإجابة عن سؤال صعب، مع أنه يُدرك أهمية الجواب، وقد عاش تفاصيل “القضيّة الفلسطينيّة” وهو -حسب ظني- يمتلك وعياً معرفيّاً عالياً، وعنده القدرة على التفكير المستقيم، وبالتالي صياغة جواب معقول، كنتُ أريد أن أعرف منه ما هو البديل الممكن. ولكنه رحل عن الدنيا وأهلها في خريف حزين آخر من عام 2022 ولم نره من سنوات ولم نحضر جنازته في مدينة إدلب ولم أحصل منه على جواب عن سؤال بلبل عقلي، وما يزال.
4
لفت صديقي المُترجم السوري غسّان غنّوم -رحمه الله – نظري إلى مسألة غاية في الأهميّة، أو قُل مصيريّة. وقد طرحت عليه السؤال الذي هرب والدي من الإجابة عليه. قال: هل تُشاهد ما يُبث في “اليوتيوب” من فيديوهات منتشرة على نطاق واسع لأشخاص من عامة الناس من كلّ بقاع الأرض، مهنتهم اصلاح المعطوب من كلّ شيء، كلّ ما يخطر لك على بال من أشياء متهالكة يتم إصلاحها؟ فقط أعط الخباز خبزه فهو أدرى بما يفعل. هؤلاء مهرة في صنعتهم، يمتلكون خبرات واسعة ومهمة ويمكن للمجتمع “المعطوب” الاعتماد على طرائقهم في عملية الإصلاح وهي أنجح من طرائق رئيس الوزراء والوزراء والحكومات برمتها.
5
أعود إلى المثل الأرمنيّ الذي بدأنا به حديثنا (يلقي مجنون حجراً في بئر فيعجز أربعون حكيماً عن إخراجه) هو صحيح من ناحية، ومن ناحية أخرى ربما يكمن الحل في مكان آخر، نعم، المشكلة لها حل، وهو أبسط ممّا نتصور. وتسأل ما هو الحل؟ يا هذا لستُ أحمق أو مجنوناً لألقي حجراً في بئر في بلد يفتقد الحُكماء … والسلام ختام.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com