مجتمع

كانت آخر مرة رأيت فيها أخي.

بيدر ميديا.."

كانت آخر مرة رأيت فيها أخي

هيفاء زنكنة

 

ما هو المشترك بين ليبيا والعراق؟ بين ليبيا وإيران وسوريا وقائمة الدول التي حظيت بمسمى «الشرق الأوسط» بالتحديد؟
هناك الكثير مما يجمع بين شعوب هذه البلدان تاريخا وحضارة فيما بينها إلى حد التداخل في اللغة والأديان. إلا أن خارطة الشعوب الإنسانية هذه، تلوثت بحكومات ذات مصالح لا تجمعها بشعوبها، بل وتفصلها عنها فجوة هوس الاستحواذ على السلطة المؤدلجة وفرضها بالقوة، سواء كانت دينية أو علمانية متمددة في تطرفها بين اليمين واليسار. أدت الهيمنة السلطوية وتوفر أدوات تكريسها والتحالفات الداخلية ـ الخارجية، أي توليفة الاستعمار الجديد في تحالفه مع الحكومات المحلية المستبدة، بحيث صارت الشعوب بمواجهة استعمارين وهي تقاوم على مستويين. الأول هو لمواصلة الحياة اليومية بأدنى ما يمكن الحصول عليه من الحاجات الأساسية وما يتطلب من جهد وانشغالات مستهلكة نفسيا وجسديا والثاني المحافظة على البقية الباقية من روح المقاومة في مرحلة ما بعد التحرر الوطني وتحول من كان وطنيا مقاوما للاستعمار إلى مستبد قامع لشعبه باسم الوطنية والمقاومة.
هذه الصورة، بتفاصيلها المريرة، أدت إلى ما يمكن توصيفه بمصطلح الشيزوفرينيا العامة التي تعيش في ظلها شعوب المنطقة، وتمارسها الأنظمة إلى حد دفع الشعوب، بحثا عن الخلاص، إلى الاستنجاد بذات الدول التي سببت مأساتها. وتتبدى بأكثر تفاصيلها الصادمة في التقارير الحقوقية المحلية والدولية، الموثقة لجرائم الحرب وانتهاكات الحقوق الإنسانية من حق الحياة الى التعذيب.
عن ليبيا، مثلا، أصدرت المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب، بجنيف، تقريرا بعنوان «كانت آخر مرة رأيت فيها أخي»، يوثق مقتل 581 من المواطنين والمهاجرين من قبل قوات حكومية وميليشيات خلال العامين الأخيرين فقط. ويشمل هذا العدد الأشخاص الذين أُعدموا في مراكز الاحتجاز أو تعرضوا للتعذيب حتى الموت وخسائر بشرية في هجمات عشوائية على مناطق سكنية. مع التأكيد في أكثر من مكان في التقرير بأن هذا العدد لا يمثل سوى غيض من فيض. وأن عمليات القتل خارج نطاق القضاء ضد المدنيين العزل غالبا ما تكون مسبوقة بعمليات تعذيب مروعة، والتي أصبحت ظاهرة عادية متوطنة في ليبيا هذه الأيام، حيث تمارس القوات الحكومية والميليشيات المسلحة العنف والتمتع بالإفلات التام من العقاب.
يستند التقرير إلى مقابلات مباشرة مع شهود وناجين، أجريت في جميع أنحاء البلاد من قبل الشبكة الليبية لمناهضة التعذيب، المكونة من منظمات المجتمع المدني. لاقى العمل على إكمال التحقيق الكثير من العراقيل جراء الوضع الأمني الخطر والخوف من الانتقام في بلد تتواجد فيه «حكومتان متنازعتان وعدد لا يحصى من الميليشيات المسلحة التي يمارس أفرادها التعذيب وطلب الفدية والقتل في ظل إفلات تام من العقاب. ما يسمى «حكم الميليشيات» يغرس الخوف في نفوس السكان. بالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن نسبة كبيرة من عمليات القتل نفذت من قبل مجموعات تابعة للدولة تقلل من أي فرص للمحاكمة».

عمليات القتل خارج نطاق القضاء ضد المدنيين العزل غالبا ما تكون مسبوقة بعمليات تعذيب مروعة، والتي أصبحت ظاهرة عادية متوطنة في ليبيا هذه الأيام، حيث تمارس القوات الحكومية والميليشيات المسلحة العنف

يكاد هذا الوضع المأساوي، ينطبق على الوضع العراقي. ومن يقارن التقارير الدولية والمحلية بصدد الجرائم اللاإنسانية المرتكبة بالعراق على مدى العقدين الأخيرين، تقريبا، مع التقرير الأخير في ليبيا (ولا تُستثنى من ذلك حكومات عربية وإقليمية أخرى) سيجد أن بالإمكان استبدال ليبيا بالعراق أو العكس بالعكس عند مراجعة تفاصيلها.
فكما في ليبيا، يسود حكم الميليشيات، زارعة الخوف والإرهاب، في أرجاء البلد بالإضافة إلى القوات الحكومية الأمنية. كلاهما محم من المساءلة القانونية على الرغم من معرفة مرتكبي جرائم القتل والاختطاف والتعذيب. وعى الرغم من توثيق الجرائم من قبل منظمات حقوقية عراقية ودولية كما هو الحال بليبيا. وقد قام المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب بتوثيق عمليات قتل خارج القانون واحتجاز عشرات الآلاف من المعتقلين في ظروف غير إنسانية، بوضعهم في زنازين مكتظة لسنوات بدوافع انتقامية وطائفية. فمنذ بداية 2022 وحتى شهر آب/ أغسطس، وثّق المركز وفاة أكثر من 49 معتقلًا تحت التعذيب والإهمال الطبي، مع وجود حالات وفيات أخرى في السجون الحكومية التابعة لوزارة العدل والداخلية والدفاع، فضلًا عن السجون السرية التابعة للميليشيات. وكانت اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري بمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة قد أعربت عن قلقها إزاء مزاعم وجود حوالي 420 مكانًا للاحتجاز السري في العراق.
أنجزت مجموعة منظمات عراقية ودولية تقريرا مهما نشرته نهاية آب/ أغسطس من العام الحالي، حول تقييم عمل المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق التي تم تأسيسها كجهة مستقلة. بداية لم يجب أعضاء المفوضية على أسئلة المنظمات باستثناء علي أكرم البياتي، مدير مؤسسة الإنقاذ التركمانية، ورئيس المفوضية السامية لحقوق الإنسان، السيد عقيل جاسم علي. والمفارقة أن يتم الغاء تعيين علي البياتي فيما بعد وتهديد حياته لأنه تحدث عن تعرض المعتقلين للتعذيب. وقامت المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب بإصدار بيان إدانة لما يتعرض له والمطالبة بحماية حياته. يناقش التقرير عمل المفوضية والأسس القانونية التي تستند اليها وقدرتها على الاضطلاع بالأنشطة المخولة بها، بالإضافة الى مدى استقلاليتها وكيفية تعيين أعضائها، خاصة، وأن معظمهم ينتمون إلى أحزاب ذات ميليشيات تمارس القتل والتعذيب وإرهاب المواطنين.
ومن الأمثلة التي تناولها التقييم حالات التعذيب والاختفاء القسري، لا سيما بعد احتجاجات أكتوبر / تشرين الأول 2019. ووفقًا للعديد من المنظمات غير الحكومية، لم تقم المفوضية العليا لحقوق الإنسان بمتابعة هذه القضايا، وعلى الرغم من أنها تنشر الآراء والتوصيات والتقارير، إلا أنها تقترب فقط من توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بطريقة شاملة وعامة، دون تحديد السلطات المسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان، على الرغم من حقيقة أن المسؤولين وغالبا ما تكون السلطات والجناة معروفين.
تؤكد هذه الحقيقة المريرة أن التقارير الموثقة لانتهاكات حقوق الإنسان، على أهميتها، لا تشكل ضمانا لتحقيق العدالة للضحايا وذويهم، ولا رادعا لارتكاب المزيد من الجرائم، ما لم يتم تحديد المسؤولية ومقاضاة المجرمين ومعاقبتهم. وهذا لن يتم إلا إذا تم تطبيق القوانين الدولية والوطنية والإنسانية بشكل حقيقي وليس كمكياج لتزويق وجوه الحكومات ذات المصلحة في ديمومة انتهاك كرامة الانسان والسيطرة عليه.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com