منوعات

تايتانيك» غزة لن تغرق … وأطفالها الناجون لن يتوقفوا عن العزف والرقص والغناء.

بيدر ميديا.."

تايتانيك» غزة لن تغرق … وأطفالها الناجون لن يتوقفوا عن العزف والرقص والغناء

مريم مشتاوي

 

نحن شعوب لا تنهزم.. ولا تنكسر ولا تستسلم أبداً.. نحب «الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا». منذ بداية الحرب على غزة، ورغم الموت البشع المتكاثر، ورغم أنف القصف والدمار والدماء المتدفقة فوق الطرقات، فقد حاول الفلسطينيون أن يتمسكوا بالحياة قدر الإمكان. لقد شاهدنا الأطفال يلعبون ومعلمة الموسيقى تعزف لهم وسمعناهم يغنون. وأيضاً رأينا أماً تحتفل بعيد ميلاد صغيرتها مع من تبقى من الأطفال على قيد الحياة. رأينا أطفالاً يتزحلقون فوق الركام ويضحكون وعازف على مسافة قريبة منهم ينشد موسيقاه بجوار بيته المدمر. كان يعزف بثبات وكانت الحجارة من حوله تعرق وتبكي وتتفتت حزناً على أصحابها المستسلمين لنوم عميق، إنه النوم الأخير، ولكن هل الموسيقى تنفخ الحياة فيهم من جديد؟ هل تستحيل الأنغام أنفاسا؟ هل سيستيقظ الدبيكة من موتهم ليشبكوا أياديهم ببعضها البعض ويرقصوا الدبكة على أنغام الطبول؟
تلك المشاهد ذكرتني بحروب عشتها في حياتي، حروب لملمت فيها من ضعفي قوة لأحاول التغلب عليها والتمسك بالحياة. ومن أبرزها الحروب اللبنانية: كيف يمكنني أن أنسى تفاصيل حروب عشتها في صغري؟ هي ملتصقة في الذاكرة لأسباب كثيرة، أهمها أننا شعوب تتأقلم مع الموت وتعتاد عليه وتصادقه، لدرجة أننا استطعنا أن نحول الملجأ الذي كنا نسرع إليه حين يشتد القصف إلى مكان أليف. وقد يكون في أوقات كثيرة مسلياً. كنا نتجمع فيه لنلعب الورق وأحياناً نغني ونضحك. وكانت النسوة يجلسن في شكل دائري لتقطيع البقدونس، فالتبولة كانت من أهم مأكولات الملجأ. وأحياناً كنا نبدأ بالرقص والتصفيق والدوران. وصوت الصواريخ تلعلع فوقنا. إنها ثقافة التحدي. إنها القوة في تجاهل الأوجاع والاعتلاء فوقها.
أما الحرب التي هزمتها وهزمتني، فقد كانت رحلتي وصغيري مع المرض.
حين كان طفلي يحارب السرطان، جاءتني الطبيبة لتخبرني أنه سيرحل خلال العشرة أيام المقبلة. انتحبت بمرارة وبكيت وصرخت وأديت كل طقوس الحزن الموجعة، وبعدها لملمت قوتي وقررت أن أسعده حتى اللحظة الأخيرة. لقد استمرت معلمة الرسم بالمجيء إليه، وكانت تسند يده ليلوّن الرسومات وهو يبتسم. وزينت له شجرة الميلاد، وكنت أعطيه الزينة ليختار منها ما يعجبه ويشير إلى المكان الذي يجب أن أعلقها عليه. وفي عيد الميلاد لبست ثياب «بابا نويل»، وقرأت له قصة «شيب إن جيب» أي «الخرفان في سيارة الجيب»، وراح يضحك ويضحك ويضحك حتى خيّل لي أن تلك الضحكات انتصرت على المرض وأطاحت به أرضاً. ورأيت صغيري ينتفض من سريره ويفرد جناحيه ليحلق مع العصافير الملونة. وأذكر جيداً يوم أخذ جرعة من المسكنات وطلب الخروج من المستشفى فوضعته على كرسي متحرك وذهبنا إلى أقرب محل أيس كريس. لم يستطع أن يأكل البوظة، ولكنه فرح بحمل القرن بين يديه. كان سعيداً بالهواء وبالأضواء الليلية. وفي طريق العودة إلى المستشفى طلب مني أن أغني له:
أنت حبيبي يا حلو السكر.. يا المحبوب.. يا دميتي اللطيفة
أنت فطيرتي الحلوة.. أنت قطعة كعكتي
وهو يكمل الأغنية بصوت متعب:
قطرة العسل حبيبي الغالي.. أنت تفاحة عيني
وأنا احبك كثيراً وأريدك أن تعلم أنني سأكون دائماً هنا..
وأحب أن أغني لك أغاني حلوة لأنك عزيز جداً.

فن تحويل الألم إلى قوة

منذ بداية الحرب على غزة تعهدت أن تكون كل زاوية أكتبها مرآة لأحداثها ونصرة لأهلها وللقضية المقدسة. شعرت أني غزاوية وكنت أتألم مع الأحداث وأعيش تفاصيلها وأتشرّبها حتى الثمالة، فأغرق في أوجاعي. وقد وفيت بوعدي. لم أكتب ولن أكتب سوى عن فلسطين، وعن الأرض التي اغتصبت لأكثر من 75 عاماً. ولكني كأهلها أحاول أن أتمسك بالحياة. أحاول أن أبتسم وأرقص وأتهاوى وأحتفل وأغني، رغم كل انكساراتي اليومية المتلاحقة.
كيف ننسى «التايتانيك»؟ وكيف ننسى عازفيها كانوا ثمانية، وحين بدأت السفينة بالغرق، حملوا آلاتهم وراحوا يعزفون. ولم يتوقفوا عن العزف حتى اللحظة الأخيرة حين ابتلعتهم مياه المحيط. لقد خلدهم التاريخ لأنهم تركوا رسالة خالدة، وهي تختصر بثلاث كلمات: الحياة تغلب الموت.
التشبث بالحياة، رغم الموت هو أقوى المزامير وأقربها إلى السماء، هو فن من فنون الصبر، والتجلد والقوة والشدة!
الآن، وفي وقت يُثير فيه البعض التساؤلات حول مصداقية أحزاننا ومساندتنا لأشقائنا في غزة فقط، لأننا احتفلنا في رأس السنة أو لأننا لبينا فعالية ثقافية أو لأننا نحاول الابتهاج، رغم أنف الأوجاع المتكدسة في أعماقنا، لنؤكد أن الحياة تستحق الاحتفال والابتسامة. إن تحدينا الآلام وتكبرنا عليها لا يعني أننا لا نتألم أو ننكر ألم الآخرين، بل يعني تحويل هذا الألم إلى قوة للمضي قدمًا وقهر المحتل.
لنكن تلك الشعلة الصغيرة، التي تضيء في ظل الظلام المخيم على عالمنا البائس والظالم، ولنعش حياة تحمل في طياتها الألوان الزاهية حتى في أصعب اللحظات علنا نطيح بها.
وهنا يحضر درويش مجدداً في قوله:
رغم حزنك ابتسم
ابتسم رغم كل شيء
ابتسم رغم قساوة الحياة
ابتسم.. ابتسم.. ابتسم

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com