مقالات

رشوة رامسفيلد للسيستاني… أساطير سياسية.

بيدر ميديا.."

رشوة رامسفيلد للسيستاني… أساطير سياسية

 

صادق الطائي

توفي في الثلاثين من حزيران/يونيو وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد عن عمر 88 عاما، واستذكرت الصحف وقنوات التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي الكثير من محطات تاريخ الرجل، الذي وصف بأنه أحد أشرس صقور المحافظين الجدد، ومهندس غزو العراق وأفغانستان في إدارة الرئيس جورج بوش الابن.
ومن ضمن المواضيع التي أثيرت من سيرة رامسفيلد كان إعادة إحياء أحد أخطر الأساطير السياسية، التي ألصقت بوزير الدفاع الأسبق، وأقصد هنا موضوع منح دونالد رامسفيلد المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني مبلغ 200 مليون دولار، مقابل إصدار فتوى تحرم قتال الأمريكيين إبان اجتياحهم للعراق عام 2003، إذا كيف ولدت هذه القصة/الأسطورة؟ ومن يقف وراءها؟ ولماذا تتجدد ويعاد إحياءها بين الحين والآخر؟
تتبع القصة عبر شبكة الإنترنت يُظهر أنها ولدت نهاية عام 2010، تزامنا مع إعلان قرب نشر دونالد رامسفيلد مذكراته في كتاب بعنوان “المعلوم والمجهول”، وادعى من روج القصة إنها موجودة في مذكرات رامسفيلد في فصل بعنوان (علاقتي بالسيستاني)، وإذا قرأنا تفاصيل المقالات التي تناولت الأمر سنجدها اقرب لسيناريو فيلم أكشن هابط، وفحوى القصة/الأسطورة، كما وردت في صحيفة “الاسبوع” المصرية التي يرأس تحريرها الصحافي مصطفى بكري ما يلي، كشف رامسفيلد بقوله “قدمنا هديه لأصدقائنا في العراق، وطبعا على رأسهم السيستاني، وكان المبلغ هو 200 مليون دولار، يليق بالولايات المتحدة الأمريكية وحليفنا السيستاني”. ويصف المقال علاقة رامسفيلد بالسيتساني، ويدعي أنها ممتدة منذ عام 1987 عندما تم تجنيد السيستاني في السعودية، إذ تنبأ الأمريكيون بأنه سيكون خليفة الخوئي في المرجعية العليا في النجف. وتذكر الأسطورة أن الأموال وصلت للسيستاني عن طريق وكيله في الكويت جواد المهري، لذلك أخذت علاقات الأمريكيين مع السيستاني تتسع أكثر فأكثر، وبعد أن علم الرئيس بوش بهذا الخبر قرر فتح مكتب لوكالة المخابرات المركزية لمتابعة الموضوع، وسمي (مكتب العلاقات مع السيستاني)، وكان يرأس المكتب الجنرال المتقاعد في البحرية سايمون يولاندي، لكي يتم الاتصال وتبادل المعلومات. وفعلا تم افتتاح المكتب وعمل بجد ونشاط، وكان من ثمار هذا العمل المتبادل صدور فتوى من السيستاني، بأن يلزم اتباعه الشيعة بعدم التعرض لقوات التحالف التي وصلت للحدود مع الكويت.

أنكر رامسفيلد أنه قال إن السيستاني باع لنا العراق بـ200 مليون دولار، وأنكر أيضا أنه قابل السيستاني من الأساس

وهنا يبدأ الفيلم الهوليوودي بوصف زيارة رامسفيلد المتخيلة للسيستاني، فتذكر بعض الصحف والمواقع الإلكترونية التي روجت الأكذوبة، “قال رامسفيلد اتصل بي الجنرال يولاندي وأخبرني بتهيئة لقاء مع السيستاني هذه الليلة، ولم أكن أتوقع أن يجري اللقاء بهذه السهولة لمعرفتي المسبقة بأن من يتسلم مهام سلطة المرجعية في العراق تكون حركاته وتصرفاته محسوبة، بما يمتلك هذا المقام من روحية لدى عموم الشيعة في العالم والعراق بالخصوص”، وأضاف “المهم كنت في تلك اللحظات أجري لقاء مع شبكه فوكس نيوز من بغداد مباشرة، وبعد لقاء فوكس نيوز توجهنا إلى مدينة النجف بواسطة سرب من المروحيات تابع لقوات التحالف، ووصلنا إلى مدينة النجف في وقت متأخر من الليل”. وتدعي القصة المفبركة أن رامسفيلد روى في مذكراته، كيف كانت مدينة النجف تغط في ظلام دامس وهبطت المروحيات على مبانٍ بالقرب من مرقد الإمام علي، ومن ثم ساروا إلى مكان إقامة السيستاني، حيث كان يقيم في حي مزرٍ جدا ومحاط بالنفايات من كل جانب، حتى قال رامسفيلد “وأتذكر أنني وضعت منديلا على أنفي من أثر الروائح الموجودة في مبنى السيستاني والأماكن المجاورة، وعندما رأيت السيستاني تلقفني بالأحضان، وقبلني أكثر من مرة، على الرغم من إنني لا أستسيغ ظاهرة التقبيل بالنسبة للرجال، وتحاورنا عن أمور كثيرة. كان من الحكمة أن نأخذ رأي أصدقائنا وبالخصوص شخصيات مثل السيستاني”.
انتشرت هذه القصة بشكل كبير وسريع في وسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، التي تقف وراءها جهات سلفية متشددة، ومنصات مدعومة وممولة، بالإضافة إلى مواقع بعثية معروفة بعدائها للتغيير الذي حصل في العراق. ومن أبرز مروجي القصة /الأسطورة جريدة الصحافي المصري مصطفى بكري “الأسبوع” التي أثارت القصة مبكرا في مصر، كما أن الكاتبة البحرينية سميرة رجب المقربة من نظام الحكم في البحرين، شنت حملة مبكرة لترويج هذه القصة في صحف البحرين والسعودية، لكن لم يمر سوى أيام حتى أصدر مكتب دونالد رامسفيلد بيانا كذب فيه هذه الادعاءات، ومن المعلوم أن رامسفيلد كان مطلع عام 2011 خارج كل المناصب الحكومية والرسمية. وزع مكتب دونالد رامسفيلد تصريحا إعلاميا يوم الأربعاء 5 كانون الثاني/يناير 2011 جاء فيه، “إن التقارير التي نشرت في بعض الصحف مؤخرا وزعمت أن وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد يقول في مذكراته إنه قابل السيد علي السيستاني وقدم له رشوة هي معلومات مضحكة وتثير السخرية، إضافة إلى أنها غير دقيقة”. وشدد رامسفيلد في بيان النفي الصحافي على، أنه “لم يلتق السيستاني مطلقا”، و”أكد أن ما نشر غير حقيقي”. وأضاف “أن السيد السيستاني كان ولايزال رجلا شجاعا وصوتا مستقلا تماما في العراق”. فهل انتهت هذه الأسطورة عند هذا التكذيب الصريح للقصة؟ لم تنته القصة/الأسطورة، على الرغم من التكذيب الواضح الصادر من الجهة المعنية بالاتهام، وبالرجوع لكتاب مذكرات دونالد رامسفيلد (المعلوم والمجهول) نجده ببساطة قد ذكر السيد السيستاني مرة واحدة فقط، ففي الفصل السادس، وهو فصل تحدث فيه عن احتلال العراق، في الصفحة 374 يذكر رامسفيلد المرجع السيستاني فيقول، “كان هناك رجل دين آخر كان من نواحٍ عديدة نقيض الصدر، فهو حكيم ومتعلم، متواضع، معتدل، وفوق كل شيء، محافظ. وقد حافظ آية الله العظمى علي السيستاني على مسافة من الأمريكيين، ورفض مقابلة المسؤولين الأمريكيين – عسكريين أو مدنيين. وفي نقاط حرجة، قام بتهدئة المشاعر بين ملايين الشيعة الذين كانوا يبجلونه.. وشجعهم على قبول الفصل بين الدين والدولة في ديمقراطية دستورية، رافضا الشكل الإيراني للحكم الديني. وفي مواجهة الاستفزازات المستمرة من “القاعدة” والجماعات السنية المتمردة ضد الشيعة، والأضرحة، والمساجد، والتمردات التي حث عليها الصدر، نصح السيستاني بالهدوء والصبر. بدونه، ليس لديّ شك في أن وضع العراق كان سيصبح مختلفا جدا إلىوم – وليس للأفضل بالتأكيد. قيادته، إلى جانب العديد من الأشخاص الآخرين الذين أرادوا حقا حياة أفضل لشعبهم، أعطت الأمل، بينما كنا نتحرك نحو منحهم السيادة التي يريدونها في النهاية”. هذا كل ما كتبه رامسفيلد عن السيستاني في كتابه.
حاولت بعض الجهات التي روجت للقصة/الأسطورة أن تلتف أو تلفق مخرجا للموضوع بعد نفي رامسفيلد الصريح للقصة، فجاءت بمعلومات أكثر إضحاكا، مثال ذلك ما كتبته صحيفة خليجية، “الغريب أن رامسفيلد قام بحذف هذا الفصل من كتابه فى طبعته الثانية، لأن عدة مراكز دينية شيعية عراقية وخليجية أصدرت بيانات تستنكر الزج باسم المرجع الأعلى فى مثل تلك المذكرات، واعتبروا أن ذلك يأتى فى محاولة الإساءة إلى قداستها الدينية”.
أما صحيفة “الاهرام” المصرية “الرصينة” فحاولت معالجة الموضوع بشطارة أكثر، عندما ذكرت في إحدى دورات إحياء الاسطورة عام 2014، ونشرت، “هنا كانت أهمية ما قيل عن فتوى السيستاني. ومن تحليل الرسائل لم يكن هناك اختلاف حول صحة التصريح الصادر من داخل دوائر الإدارة الأمريكية، التضارب كان فقط في مصدر هذا التصريح. البعض قال إنه ورد في مذكرات دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وقت احتلال العراق، والبعض قال إنه جاء في مذكرات بول بريمر، الذي عينه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حاكما مدنيا علي العراق، ومشرفا علي إعادة الإعمار، وتفكيك ما تبقي من الجيش العراقي. وعلى أي حال فقد أنكر رامسفيلد أنه قال إن السيستاني باع لنا العراق بـ200 مليون دولار، وأنكر أيضا أنه قابل السيستاني من الأساس. ولم ينكر بريمر ذلك بل أكده وأضاف تفاصيل أخرى مهمة في مذكراته التي نشرها في 2006 تحت عنوان «عام قضيته في العراق». وبالتأكيد لا يحتاج القارئ الفطن إلا جهدا بسيطا ليتأكد من مذكرات بريمر، وما ورد فيها وليكتشف أن أشارة الصحيفة المصرية مجرد أكاذيب.
هذه القصة/الأسطورة، باتت تحظى بما يشبه دورات الحياة، إذ تنفخ فيها الحياة جهات مختلفة في أوقات متتإلىة، مثال ذلك الحملة التي شنتها بعض الجهات إبان زيارة البابا فرنسيس للمرجع السيستاني في شهر آذار/مارس الماضي، وما تم تركيبه من نظريات مؤامرة مضحكة تزامنت مع زيارة البابا، وقد كان لقصة رشوة رامسفيلد حصة الأسد من نظريات المؤامرة حينذاك، وإلىوم مع وفاة بطل القصة دونالد رامسفيلد، يحاول البعض النفخ في القصة من جديد. إنها حقا أسطورة سياسية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com