ثقافة

الملحون: الرقيُّ الشعبي

بيدر ميديا.."

الملحون: الرقيُّ الشعبي

سعيد يقطين

 

من عاش شطرا مهما من طفولته في الستينيات في الحي الشعبي القريب من الساحة العمومية الواسعة التي تقام فيها الفرجة الشعبية، لا يمكنه إلا أن يتعرف على ألوان من الغناء الشعبي لفرق موسيقية وغنائية لا تتعدى عدة أفراد. كانت الأغاني التي تقدم في مثل هذه الفضاءات العمومية ذات أصل بدوي متعدد بتعدد المناطق المغربية وخصوصية كل منها. كان المذياع ينقل إلينا بعض الأغاني والأهازيج بالدارجة العربية والأمازيغية، وهي لا تتعدى ما كنا نراه في مثل هذه الفضاءات الشعبية، وإن كان لمغنين ومطربين من طراز رفيع. لكن ظهور التلفزيون وانتشاره في السبعينيات أتاح لنا فرصة معاينة نوع آخر من الموسيقى والغناء لا يمكن أن تحتضنه الساحة العمومية. إنه طرب الآلة الأندلسية، من جهة، وفن الملحون من جهة ثانية. لقد ارتبط لدينا الطرب الأندلسي بمدينة فاس، والملحون في مراكش. فضاءان تاريخيان ظل كل منهما بالتناوب يتحول إلى عاصمة تاريخية.
تتشكل فرقتا الأندلسي والملحون من عدد كبير من الموسيقيين الذين يعزفون على أدوات متعددة، وهم يلبسون لباسا مغربيا أصيلا موحدا عكس مطربي الساحات العمومية. لغة الطرب الأندلسي «الشمالي» سليلة اللغة العربية الفصحى، وأغلب ما يؤديه من وصلات موسيقية تتصل بالموشحات الأندلسية والمغربية. أما لغة الملحون «الجنوبي» فهي الدارجة المغربية الأصيلة، والعتيقة والمشبعة بمفردات من الشعر العربي القديم.
لم نكن نحن أهل البوادي والأحياء الشعبية نرتاح للطرب الأندلسي في وصلاته الغنائية الطويلة والمملة. كنا نربطه بأهل فاس الذين يتربعون على عرش الغنى والترف. ولعل الأداء الجماعي للأغاني الأندلسية يجعل من الصعوبة بمكان تبين الكلام. أما الملحون فكان لتنوع موضوعاته، ووضوح لغته، لأن ثمة راويا مركزيا يتكلف بسرد القصيدة، والجوقة تكتفي دائما باللازمة، خلال الانتقال بين أجزائها، يتيح لنا فرصة أكبر للتجاوب معه، وفهم مراده.

منذ أن بدأ اهتمامي بالشعر المغربي من خلال المتابعة والدراسة، واطلاعي على متون الملحون مكتوبة ومغناة، تكون لديّ رصيد مهم من معرفة موضوعاته، وأوزانه من خلال كتابات محمد الفاسي وعباس الجراري وغيرهما، خاصة ما كان يقدم من تحليلات في المذياع مع الشيخ أحمد سهوم، تكونت لديّ خلاصة تغمط حق القصيدة المغربية الفصيحة القديمة أو الحديثة، مفاد هذه الخلاصة أن الشعر الحقيقي الذي أبدعه المغاربة، والجدير بهذا النعت هو شعر الملحون وليس الشعر الفصيح. لا تتيح لنا قراءة كتاب «النبوغ» لعبد الله كَنون العثور على عدد كبير من الشعراء المغاربة الكبار الذين يمكننا مقارنتهم بنظرائهم في الأندلس، أو المشرق العربي، لكن مع شعراء الملحون يمكننا أن نجد عددا كبيرا من فحول الشعر الجميل والممتع فنيا وجماليا ودلاليا. يلتقي الملحون مع المواصفات التي كانت تصاحب الشعر العربي القديم، كان دائما ثمة «نظَّام»، وهو مبدع الكلام الشعري، وآخر «راو» (النشَّاد) يحفظ المتون، ويؤديها صحبة جوقة موسيقية محترفة، إنه الشعر المغنى، وليس الغنائي، بامتياز. وهو مختلف عن الشعر الشعبي ذي الأصول البدوية التي يقوم فيها المغني بالإبداع والغناء معا، بل والأداء الموسيقي أيضا.

هذه الخاصيات أعطت للملحون مكانة خاصة في البيئة الحضرية المغربية، خاصة في المدن العتيقة مثل سجلماسة وفاس ومراكش ومكناس وسلا وآسفي وغيرها. لم يعرف هذا الفن الفضاء الشعبي مثل باقي الغناء المغربي، ولكنه كان يقدم في «النزهات» التي كانت تقام، خاصة في فصل الربيع على هامش المدن القديمة، والذي يحضره الحرفيون والصناع التقليديون الذين كانوا ينظمون مجالس للغناء والطعام بعيدا عن العمل المتواصل وأعبائه الدائمة. وتكرست بذلك تقاليد حفظ قصائد الملحون، واحتضان الذاكرة الشعبية لها تماما كما ألفها أصحابها من الشعراء المتميزين بامتلاكهم «السجية» السليمة، و»القريحة» المبدعة التي تجعلهم يتفننون في إبداع «الكلام»، و»الأوزان»، و»النظم» و»العلم الرقيق»، في مختلف الموضوعات التي تبدأ من اليومي في صوره الجادة والهزلية، الواقعية والخيالية، وتنتهي بالمقدس مع العوالم الصوفية والدينية.
ظهر الملحون في العصر الموحدي (القرن الثالث عشر الميلادي) في مدينة سجلماسة ومنطقة تافيلالت في البداية. ثم انتشر بعد ذلك في مراكش وفاس ومكناس وغيرهما من المدن، وصار له شعراؤه وجمهوره، الذي لم يعد يقتصر على الصناع التقليديين، ولكن أيضا على الفقهاء والعلماء وحتى الأمراء والملوك الذين صار بعضهم يسهم في إنتاج قصائد الملحون، وقد عرف هذا النوع الشعري أوجه مع الدولة العلوية، خصوصا في القرن السابع عشر الميلادي، وظل الإبداع في هذا اللون الإبداعي إلى يومنا هذا. هذه الخصوصية ما كانت لتتحقق للملحون لولا مميزاته اللغوية التي نجدها تقدم الدارجة المغربية الأصيلة والراقية، ولولا موضوعاته المتنوعة التي تخوض في كل ما يتصل بالإنسان والوطن. لم يقتصر الأمر على أداء الملحون شفاها، إذ انتقل الكثير من القصائد إلى التدوين. وكان للمجهودات الشخصية والأكاديمية في المملكة المغربية الدور الكبير في طبع الكثير من الدواوين، التي تقدم لنا شعرا مغربيا راقيا، ما يزال يتطلب البحث والدراسة والتنقيب، رغم تزايد الاهتمام به في البحث الجامعي.
الملحون فن راق يجسد الثقافة المغربية الأصيلة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com