منوعات

مايكل والزر… «الحرب العادلة في غزة»!

بيدر ميديا.."

مايكل والزر… «الحرب العادلة في غزة»!

نور الدين ثنيو

 

المفكر الأمريكي مايكل والزر Michael Walzer تطارده العدالة ليس كمؤسسة قضائية، بل كمفهوم. فلم يَكُف، منذ أن بلور مفهوم الحرب العادلة سبعينيات القرن الماضي، من أن يعيد تعريف وتحديد المصطلح في ضوء الوقائع التاريخية خاصة منها الحروب التي تقع في شتى أنحاء العالم وتؤثر بشكل مباشر على العلاقات الدولية.
في حديثه الأخير إلى «مجلة الفلسفة» الفرنسية، أكتوبر / تشرين أول 2023، تناول ما يجري اليوم في غزة والحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين.. لكنه لا يتناول الموضوع كما يتناوله المنصفون والعادلون والإنسانيون والجماهير الواعية والواسعة في شتى أصقاع العالم، بل يواصل نفس التفكير الذي يحرص على الوقوف على ما إذا كانت الحرب عادلة أم لا؟
ما يعرف عن المفكر الأمريكي أنه صاغ وبلور مفهوم الحرب العادلة والحرب غير العادلة من حرب أمريكا على الفيتنام وهي حرب ظالمة بأكثر من معنى لأنها انتهت إلى صالح من كانوا أصحاب الأرض وتاريخ المنطقة وثرواتها، ومن ثم كان يفترض بصاحب نظرية الحرب العادلة وغير العادلة أن يَتَوَقَّف عن وضع معايير التي تميز بين الحروب، لكي يعتبر أن الحرب مهما كانت هي غير عادلة ليس لأن التناقض لا يصح بين العدل والحرب فحسب، بل لأن الحرب في حد ذاتها يجب أن تتوقف لكي تعتبر من جميع الأمم والدول حالة مرفوضة ولم يعد يَقْبل بها الوعي العالمي الجديد، خاصة على مستوى الأمم المتحدة التي اعتبرت مثلا الاستعمار نظاما ظالما وغير شرعي ، كما أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية ونظاما غير شرعي مثلها مثل الأبارتهيد، وأن الحروب التي تشنها إسرائيل على العرب والفلسطينيين أيضا غير شرعية ولا يوجد فيها وجه أو صفة الحرب العادلة إطلاقا، بل هي عدوان وتماد في العدوان لأن إسرائيل لا تلتزم حتى بقرارات الأمم المتحدة التي فاقت المئة.

قد تكون حرب إسرائيل على غزة الحرب الأخيرة التي تشنها قوة ظالمة، كما أنها قد تكون هي الحالة التي تؤكد بطلان نظرية مايكل والزر في الحرب العادلة ومن ثم تحيل الدولة الإسرائيلية إلى وضعية ما بعد التحليل

في حديثة إلى المجلة الفلسفية، يرى المفكر الأمريكي أن «العدالة تقتضي هزيمة حَمَاس وليس الانتقام من الفلسطينيين» وقد اتخذت هذه العبارة عنوانا للحديث، غير أن مضمونه يختلف ويبتعد تماما عن هذا الرأي، لأن صاحبه لا يزال يولي عناية فكرية فائقة لمفهوم الحرب العادلة التي لمّا تزل تسكن وعيه وضميره لأن الأخلاق حيال اليهود وإسرائيل مطلوبة حتى ولو شوّشت على فكرة الحرب ومفهوم السلام. ففي مفهومه للحرب العادلة، التي لم تعد لها مبرر مع وجود هيئة أممية فوق الدول والحكومات والأوطان إلا على إسرائيل، لا يتوانى المفكر الأمريكي من تبرير تصفية حماس من قبل كيان عِبْري يرفض أن يَمْتَثل إلى خصائص الدولة ومؤسساتها حتى تكتسب ولو نوعا من الشرعية. فنظرية الحرب العادلة لا تستقيم إطلاقا في الحالة الإسرائيلية وأن من تحاربه إسرائيل هو صَنِيعها ومَنْتَجها وفي مواجهتها إن في الداخل أوفي الخارج. الحرب، إن كانت هناك فعلا حرب فهي بين دول وليس بين تنظيم يسعى إلى رفع الظلم عنه ومواجهة كيان قائم على الظلم والعنصرية وأشكال عتيقة من أنواع الحكم البغيض جدّا الذي آل إلى التاريخ دونما رجعة.
ومجمل ما جاء في عنوان حديث مايكل والزر يوضحه ويشرحه على النحو التالي : « إن مدونة سلوك الجيش الإسرائيلي تقتضي بذل كل الجهود الممكنة من أجل تقليل ثمن ما يصيب المدنيين. وما دام هذا الأمر قد تم، فلا أخال إطلاقا بأن إسرائيل تتحمل أي مسؤولية عن قتل المدنيين الفلسطنيين». وواضح من هذا الحديث هو تقديم تبرير الحرب العادلة لإسرائيل من الإنزال وواقعة يوم 7 أكتوبر / تشرين أول الماضي، لكن وجه الغرابة هو افتراض التناسب والتساوق بين القوة الفلسطينية والقوة الإسرائيلية وكأن الحرب تجري فعلا بين دولتين حقيقيتين، وليس بين كيان استكباري منذ النشأة الأولى وبين حركة مقاومة لهذا الكيان الظالم على ما يعرف وتعترف الجميع.
إن الحروب العادلة التي كانت موضوع دراسة ومعالجة عند المفكر الأمريكي ومنها استخلص نظريته حول «الحرب العادلة والحرب غير العادلة» ، هي تلك الحروب التي انتهت لصالح البلدان المظلُومة والمستعمَرة والمستضعَفة والمستغَلة، مثل حرب الجزائر وحرب الفيتنام وإليها تنسب الحرب وليس للمعتدى والظالم والمستعْمِر ولهذا السبب الوجيه جدّا استَعْصى على إسرائيل ومن ينظَّر لها إضفاء صفة الحرب العادلة على مواجهاتها وسياساتها طوال تواجدها في منطقة غير التي يجب أن تكون فيها، وأن التمادي والإصرار على الوجود هوما يضفي الشرعية على كافة أفعال المقاومة لغياب الحرب الشرعية لصالح الكيان الصهيوني وإحلال محله مسوغ «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس».. ولم يكلف المفكر الأمريكي نفسه ليعالج ويحلل هذه المقولة لأن كل دول العالم توردها في دساتيرها وتأخذ بها في علاقاتها الدولية.. لكن لماذا تأخذ عند إسرائيل كل هذا التوكيد والتمادي فيه لحد يصبح الحق في شن العدوان على الفلسطينيين والتعامل معهم كخصم وعدو يفترض شن الحرب ضدهم.
الواقع الذي يجب أن ينتهي إليه المفكر الأمريكي هو الواقع الذي انطلق منه، عندما راح ينظر لحرب الفيتنام على أساس أنها حرب غير عادلة لأن الذي شنها عليها هو أمريكا في هجوم عدواني واضح وبيّن لا غبار عليه إلا في الأداة السياسة التي تستخدمها الولايات المتحدة في مجلس الأمن والمعروف بحق الفيتو، أي الاعتراض على القرارات التي لا ترضاها مثل القرارات التي تتخذ حيال الكيان العبري ربيبة ومحمية القوى الغربية في المنطقة العربية. قد يبدو هذا الكلام من معهود كل العالم إلا في أمريكا وإسرائيل لكن أن يصل الأمر إلى مفكر صرف عمره كله في تعريف وإعادة تعريف الحرب العادلة ويشهد على وجودها في العدوان الكبير على غزة، السجن الكبير الذي صنعته إسرائيل للشعب الفلسطيني، معنى ذلك أن عمر المفكر الكبير قد ضاع سدىً لأن أغلبية الشعوب والأمم والدول والثقافات والحضارات في عالمنا المعاصر الذي يعيش الحين واللحظة الفورية صار يدرك أن الحرب من بقايا الاستعمار وأن من يشنها لا يزال مشدودا إلى عصور بغيضة من الإمبريالية والعنصرية والأنظمة الشمولية والحكم الكُلِّياني السافر على ما هي وضعية إسرائيل التي تظهر في صراعها الأخير كمن يجترح مسار الوداع الأخير لأنها تأبى السلام ..
قد تكون حرب إسرائيل على غزة الحرب الأخيرة التي تشنها قوة ظالمة، كما أنها قد تكون هي الحالة التي تؤكد بطلان نظرية مايكل والزر في الحرب العادلة ومن ثم تحيل الدولة الإسرائيلية إلى وضعية ما بعد التحليل لأنها استنفدت كافة التحليلات وولجت منطق العبث الصريح الذي يجب أن يحرك كافة أهل الأرض لتحرير الفلسطينيين لأنهم لا يمثلون دولة حائزة على الشرعية الوطنية والدولية ولأن دولة اليهود تجربة لوجود دولة بالوكالة عن الغرب خابت وبَهَتَت ولم تعد من العصر الفائق.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com