ثقافة

رسالة نزار قباني إلى ( حارقة قصائدي )

هذه المقالة تسلط الضوء على جوانب مجهولة من سيرة حياة “نزار قباني” ، المقالة هي رسالة غير معروفة ارسلها نزار قباني للأديبة الفلسطينية “سميره عزام” ، و لم يسبق ان نشرها نزار ضمن اعماله .

اشتهر في تاريخنا الأدبي الحديث عدد من الأدباء والشعراء برسائلهم الأدبية في الحب و الود والهيام، وقد تكون هذه الرسائل الأدبية من أهم فنون الإنشاء لأنها ترجمان الوجدان ورباط الوداد . . ( جبران خليل جبران ) كان من أهم الأدباء الذين اغنوا الأدب العربي بهذا الفن الجميل الرائع ، وترك لنا من رسائل الحب ما لفتت نظر الباحثين وأثارت فضولهم، وكانت الرسائل المتبادلة بين جبران و مي زيادة قمة في الإبداع و الهيام الذي لا مثيل له في تاريخ الأدب، أو في سير العشاق، لقد دامت تلك العاطفة بين جبران و مي  , زهاء عشرين عاماً، دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال .

وكانت أيضاً الرسائل المتبادلة بين الأديبة غادة السمان و غسان كنفاني وعندما آن أوان الاحتفال بذكرى غسان كنفاني، احتفلت غادة السمان على طريقتها، فقد نشرت رسائل الحب التي سطرها لها غسان، ولكن هذه الرسائل أثارت على الساحة الأدبية عاصفة لم تهدأ.

و الآن نتساءل هل ترك لنا الشاعر نزار قباني رسائل أدبية في الحب والود والهيام ؟ كل ما نعرف عن ذلك فقط ما صرحت به الأديبة “كوليت خوري” أكثر من مرة : ( تحتفظ كوليت خوري في أدراجها، بثلاثين رسالة من نزار قباني، كان قد أرسلها إليها بعد فراقهما، إثر قصة حب عاصفة جمعتهما في خمسينيات القرن الماضي , كادت هذه العلاقة تتكلّل بالزواج لولا المزاج المتقلب للشاعر الراحل , وكانت الروائية السورية أعلنت أكثر من مرة نيّتها نشر هذه الرسائل النادرة في كتاب، لكنها كانت فجأة تتراجع عن وعدها وتذهب إلى مشاريع أخرى ).

ولكن هنالك جانباً مجهولاً في سيرة حياة نزار قباني، وهنالك رسائل متبادلة بين نزار و الأديبة الفلسطينية “سميرة عزام” . . ! ففي الخمسينات من القرن الماضي تبادل نزار و سميرة العديد من هذه الرسائل الأدبية، لم نستطع الحصول سوى على رسالة واحدة أرسلها نزار إليها تحت عنوان : « قصيدة لحارقة قصائدي ».

من هي “سميرة عزام” :  هي كاتبة وصحفية فلسطينية ولدت في أيلول سنة 1927 في مدينة عكا بفلسطين وهي صاحبة لقب رائدة القصة القصيرة في فلسطين، وتلقت دراستها في عكا وحيفا، ثم هاجرت مع عائلتها إلى لبنان بعد نكبة 1948م لفترة قصيرة ثم سافرت إلى العراق وعملت في مجال التدريس، عادت بعدها إلى لبنان وباشرت بالكتابة لبعض المجلات.

وفي عام 1952 عملت بمحطة « الشرق الأدنى » للإذاعة العربية كمذيعة ومحررة، واستمرت في هذا العمل حتى عام 1956 , و تزوجت من الأديب يوسف الحسن في بيروت عام 1957 عادت معه إلى بغداد، وعملت هناك في إذاعتي بغداد والكويت، كما شاركت في تحرير جريدة « الشعب » مع بدر شاكر السياب، وفي عام 1959 أُبعدت مع زوجها إلى لبنان وتعاقدت مع شركة للترجمة والنشر وقامت بترجمة طائفة من الأعمال الأدبية عن اللغة الإنكليزية.

توفيت في الثامن من آب 1967 إثر نوبة قلبية مفاجئة , تركت العديد من الأعمال القصصية، والأعمال المترجمة , قصيدة لحارقة قصائدي . . يقول نزار قباني في رده على رسالة الأديبة سميرة :

( سلمت أصابعك يا صديقة , رسالتك أرخم سحبة صوت مرت بذاكرة وتر . . أصفى من لثغة العصفور الدوري . . لكن قولي , كيف سمحوا لك في المعسكر الذي يصنع المصير أن تخبئي في جيبك الضنين مادة محرمة , شعر . . شعري أنا , كيف سمحوا لك أن تحتفظي بإحدى رسائلي . . بإحدى حرائقي . . وفيها شيء مني . . من نهار عيوني , ماذا ؟ هل أصبحت رسائلي محرمة على أناملك المبرية من رغوة الثلج ؟ هل أصبحت قصائدي . . كل قصائدي في جواريرك كالطيور البحرية الميتة في الموانئ المهجورة . . لم يبق منها سوى مزق الريش وحطام الحناجر الصافية ؟ أنا رجل يشتغل بالشعر يا صديقتي . . بتكوير الصلصال الساخن . . بتدوير حروف تشتعل على الورق كرؤوس البراكين الصغيرة . . باختراع مليون نجمة في ثانية . . بمحوها في أقل من ثانية . . بتفصيل خف لقدميك الصغيرتين تتوالد منه زهرات البانسية . . و تنقر أطرافه العصافير . . إنني أشتغل بالشعر يا صديقتي . . أشتغل بك . . بمجد عينيك . .

ولأنني أشتغل بمجد عينيك , بجرار العسل والنبيذ فيهما . . طاردني الناس يا صديقتي وخسرت نصف أصدقائي , إنهم لا يحتملون الحرائق الكبيرة في العيون الكبيرة . . إنهم لا يفهمون قضيتي وقضية الليل في عينيك . .  أنني فتحت الستائر عن عينيك الواسعتين . . لأنني تجرأت ووضعت في جيبك نصف قمر . . إن الناس لا يتسامحون معي , رسائلي مضطهدة . . و أشعاري كالخطيئات الطاهرة يعانقها الناس ويشتمونها . . مشكلتي أنني لا أستطيع أن أسكت , لا أستطيع أن أقاوم أمطار الكريستال في العيون الصافية , لا أستطيع أن أهرب من الشعر . . إنه أمامي . . و رائي , في ردائي . . في خلاياي . . في أصابعي . . إنه بعضي , إنه كلون عيوني لا حيلة لي في اختياره . . إنه قدري . . هل أبكتك رسالتي حقا ؟ إني سعيد لبكائك , ما كل يوم يتساقط الكريستال السائل بمثل هذه الغزارة . . ما كل يوم يبكي تشرين بمثل هذه الروعة يا صديقتي . . إن رسالتك ناعمة . . لكنها ظالمة , ظلمتني حين مسحت بضربة ريشة كل تاريخي معك , كل هذا الكون الذي عمرته لك من نحاتة الأقمار . . و مغازل الصحو . . وأعناق الشحارير . .

حتى أنت تقولين هذا يا صديقتي , يا من صنعتها من رغوة الضوء في خلجان بلادي . . يا من فصلت لها من صدفات البحر قميصا لم يحلم به غازل . . يا من تركت على شفتها السفلى ألف شتلة كرز . . يا من حملت إلى عينيها العسليتين جميع غابات الكستناء . . وكل ما أملك من تبغ و نبيذ . . أبضربة ريشة واحدة يا صديقتي تمسحين مجد حروفي . . و أنت تعلمين جيداً أنها المرايا التي هدت إليك الدنيا . . و إنك لولاها , أغنية لا تجد من يسمعها . . لوحة لا تجد من يتذوقها . . هل أنكرني الكرز يا صديقتي ؟ هل أتعبتك المشاوير التي لم نمشها بعد ؟ هل ضقت ( بطوق الياسمين ) الذي لملمت حباته من جزر لم يهتد إليها شراع ؟ هل أتعبتك أراجيحي المنسوجة من ضوء القمر . . هل نشف العبق الأصفر في الثوب الأصفر ؟ إنني لا أصدق ذلك . . ! شفتاك الكرزيتان ستموتان من دون شعر . . من دون أغنية تسقيهما . . فلا تحطمي في لحظة حماس قصائدي , الأواني التي عبأت فيها جمالك . . فإنك بعدها لن تجدي ما تتعطرين به . . ما تعطرين به غرورك . . في رسالتك الأخيرة طلبت إلي أن أحبك في حقيقتك الجديدة , في شكلك الجديد ,

لا تسأليني هذا فإنني أخشى لو فعلت ما تطلبين أن تموتي بين يدي . . إياك أن تتجمدي في معنى واحد , في حقيقة واحدة مهما كانت خيرة و مهما كانت نبيلة . . إن حبي لحقيقتك الجديدة لا يمنعني أن أحب حقيقتك القديمة , حقيقتك كأنثى . . لا فرق أن يكون لهذه الأنثى شكل الأرنب الأبيض . . أو القطة المُسلِّمة أو اللبوة المتحفزة . . بألف شكل استطيع أن أحبك يا صديقتي . . بألف شكل , فلا تصلبي جمالك على خشبة الحقيقة الواحدة . . لأن الفن لا يلتفت أبدا إلى الجمال المصلوب . . إلى الأيدي المثبتة بالمسامير . . هل أنا إله مغرور حقاً . . و هل كنت بين يدي سوى حيوان جميل مثير ؟ ثقي أنني لست ذلك الإله الذي تتصورين !

و لا أريد أن أكونه . . أنا من هذه الأرض . . من حرارتها . . من اختلاف رياحها . . من تقلب فصولها . . من تشقق قشرتها . . وسلام أماسيها و زقزقة شحاريرها , أنا من التراب الذي ينبت الصلوات و الخطيئات في حقل واحد , فإذا شممت في شعري رائحة الصلاة مرة . . و رائحة الخطيئة مرات . . فلا تنكري ذلك لأنني جمعت أزهاري من هذه الأرض التي أمشي عليها أنا . . و تمشين عليها أنت , و لا بد لاكتمال حسن الإناء من تنوع أزهاره , الزهرة السوداء لا يستغنى عنها عند تنسيق الآنية . . لأن زهرة العقل والحكمة هي كالزهرة الاصطناعية لا رائحة لها . .

حاشية : لا تحتفظي بهذه الرسالة في جيبك , أخشى أن تصادر . . لأن فيها مادة محرمة . . شعر . . شعري أنا . . و لأني عند أهل مدينتي رجل مجنون مهنته أن يضرم الحرائق الكبيرة في العيون الكبيرة . . مهنته . . أن يحبك يا سيدتي . . ).

نزار قباني

 

بقلم الكاتب

شمس الدين العجلاني

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com