مقالات

بصري بين الجبال ٤من ١٢ .

هيئة التحرير .

لعل الحل في الكويت
تنازعت صاحبنا في وقت واحد أكثر من فكرة وحل، منها: العمل الوظيفي بشهادته الجامعية، من أجل إلاّ يذهب تعب العمر هباءً، ويبني من جهة أخرى حياته الخاصة. هذا حقه الكامل دون أية شائبة، وفق طبيعة وحال العمل الإنصاري القائم في ذلك الوقت. تصاعدت عنده فكرة جدوى بناء التنظيم المحلي في البصرة مثلاً. وكان للجانب الصحي بعض الوجود الظاهر عند الرفيق. وليس مجرد غطاء لعودته الى الشام.

لا شك بوجود بعض الخلل في توجهات منظمات الخارج، خلال التعامل مع إرسال المناضلين الى العمل المسلح. ينبغي أن يأتي الطلب الصارم من الرفيق نفسه. دون ممارسة أي نوع من الضغوط، المباشرة منها أو غير المباشرة، بما فيها حالة خلق جو نفسي ضاغط. إن سياسة الحزب كما فهمتها، وكما جاءت على لسان أبرز ممثلينا. تفيد بأن الحزب يريد حماية نفسه وحماية رفاقه من الإبادة، من خلال العمل الأنصاري حسب. وفي الظروف الملموسة لا يمكن إسقاط النظام الدكتاتوري من كردستان. أما إرسال المناضلين الى الوطن، فهو يأتي من رفاق هم نذروا أنفسهم بالمطلق لخدمة نضال الحزب، وبقناعة ودراية تامتين. مثل هذا التوجه لا ينبغي أن يكون جماهيرياً، وليس تحت إدارة اللجنة المركزية للحزب أو مكتبها السياسي. إنما من قلب الحزب المحمي جيداً فقط، أي من قبل عدد محدود جداً من الرفاق المجربين والمخولين بمثل تلك المهمات. هؤلاء هم فقط يطلعون على تفاصيل هذا الشأن. ينتهي دور البقية عند حدود معرفة الخطوط العامة للعمل وإقراره. قد يتوقف أو يجهض مثل هذا التوجه عند أصلب الرفاق، إذا بلغهم أن شخصاً لا يحظى بثقتهم قد عرف بالأمر. بديهي أن عملاً تنظيمياً من هذا النوع تمليه طبيعة السلطات الحاكمة، والروح الإستبدادية والدموية السائدة في البلاد.

يكون الجسم الأكبر للحزب عادة في الداخل، هذا في الأوضاع الطبيعية. ولكن تاريخ الحزب مَرَّ غير مرة بمحاولات التصفية، بحكم أهمية العراق كبلد، وأهمية الحزب كحزب ضارب جذوره بالمجتمع العراقي. حصلت أكبر الهجمات على الحزب مرتين عام 1963 وبين عامي 1978 ـ 1979 على يد البعث نفسه. بعد الهجمتين لعب الخارج دوراً حاسماً في إعادة بناء الحزب من جديد. حظى في الهجمة الأولى على تضامن واسع من الأحزاب الشقيقة. ولكن في الثانية بأحسن الأحوال يمكن وصف التضامن بين بين. في الضربة الأولى كانت الخسارة في القيادة المجربة بالدرجة الأولى، بما فيهم سكرتير الحزب. وفي الثانية خُطِطَت الضربة للنيل من قاعدة الحزب بصفة خاصة. أظهر الحزب في كل الحالات، وبعد كل الضربات قدرة على إعادة بناء نفسه. بما فيها تلك التي أصابته في بداياته نشأته الأولى. أعني إعدام قائد الحزب ومؤسسه الرفيق فهد ورفاقه.

من المعلوم في بناء الجماعات والأحزاب، أن يجرى تقويم السلوك السياسي للحزب أو الجماعة الإجتماعية بعد كل خسارة فادحة. أو بعد إنكشاف خلل فادح في الخط السياسي أو التنظيمي. عَرَفَ تاريخُ الحزب العديدَ من التقويمات الجريئة. ولكن لم تسود ذاتُ الجرأة في الممارسة أثناء المعالجات اللاحقة. إن الإعتراف بوجود خلل في إستثمار نتائج التقويمات، وضعف إستخلاص العبر على النطاق السياسي والفكري والتنظيمي، وعدم إستلهامها بشكل يناسب الخسائر يترك تأثيرات ضارة للغاية. نجد ترددات كل ما تقدم بدرجات متفاوتة في حياتنا اليومية، وفي التعامل مع الأشخاص والهيئات.

ربما من المفيد حين ندرس تجربة حزبية فردية، معقدة كانت أم بسيطة. أن نضع أمامنا كأفراد أو جماعات أو هيئات خلاصات تلك التجارب الماضية. ومن المناسب حين تطرح قضية رفيق فرد أن يؤخذ كمسيرة كاملة بكل نبضها. وإلاّ نقع بأخطاء ضارة إتجاه الفرد أو جماعة. وفي المحصلة يكون الضرر على الجميع. رأيت أن أتتبع مسيرة صاحب “تجربتي” بخطواتها البسيطة، وما هو أبعد من ذلك على صعيد الفكر والتنظيم. دون موقف مسبق فيما خلال موقفي الفكري العام كوسيلة للبحث والتقصي.

عَبَرَّ صاحبنا الحدود العراقیة ـ التركیة بدایة تشرين الأول/ إكتوبر 1981 متوجهاً الى سوريا. أرى أن الحل القاضي بإرساله الى الشام كان سليماً. إذا جاء من إدارة العمل، فذلك فيه إدراك صحيح لطبيعة العمل المسلح. وإذا من الرفيق فقد إمتلك قدرة إتخاذ القرار. ولا نتعجل إطلاقَ الأحكام قبل أن يتكامل بناؤها. ذلك من خلال النظر الى مجمل السيرة الذاتية للنصير العائد من كردستان.

يصف ويسرد تفاصيل ذكریات طريق عودته الى دمشق. يبدو أن الطريق يشجعه على إستعادة الذكريات: التجارب النضالية، نواقص الجبهة مع البعث، العمل في القوات المسلحة. تذكر بصدد العمل بالقوات المسلحة العراقية طلب الرفيق الراحل عامر عبدالله في لقاءآت الجبهة إعفاء الشيوعيين من الخدمة على الطريقة التي إتُبِعَت مع اليهود. وهنا مر أيضاً طيف خدمته العسكرية ومواصلة عمله الحزبي خلالها. وهو یعلم أن عقوبة ھذا العمل قد تصل الى (الإعدام). تذكر إستشھاد رفيقه صباح شیاع من قضاء القرنة، ضمن الحملة الظالمة عام 1979. داهمته أيضاً ذكريات دراسته في الجامعة، وزميله في السكن الطلابي الجامعي نائل الشمري صاحب قصیدة (زغیرة وما تعرف تحب). والبصرة المعطاءة حاضرة دائماً.

يعود الى الملامة كصاحب موقف معارض لخط الحزب السياسي المعلن، مستخدماً المثل الصیني القائل: أنت تعزف على نغمة واحدة فقط، وعلیك العثور على غیرھا، حتى تتمكن من تعلم كیف تستخدم الثقوب الأخرى في مزمارك. يرى بأن سياسة الحزب تقوم على سياسة النغمة الواحدة. يقول عن تلك السياسة بأن الحزب وعموم الشعب والوطن قد دَفَعَ ثمنها غالیاً. يعتبر تلك السياسة كانت معتمدة منذ عام 1958 مروراً بـ 8/شباط/1963. ويرى بأن تلك الفلسفة تقوم على إنتظار الإعتقال أو الإستشھاد فقط، وكأنها أمر واقع لا بد منه. كان ينبغي أن يبرر هذه القراءة ببعض الشواهد، خاصة قبل إنقلاب شباط.

ظَهَرَ مَشروعٌ آخر عند النصير محمد الحجاج في دمشق. الى جانب المشروع الأول، الذي يهتم بالبحث عن إمكانية للسفر الى الكويت، ومن ثم الدخول الى الوطن. هذا المشروع هو السبب الرئيس لعودته الى الشام. وقد أقره الرفاق المعنيون في كردستان. يتمحور المشروع الثاني الجديد حول كیفیة السفر الى موسكو أو الى لینینغراد لإستلام وثیقة التخرج.

يبدو أن الرفاق في سوريا إستجابوا لطلبه الأول. إلتقي به الرفیق ناصر عبود (أبو خالد)، المرشح للجنة الحزب المركزیة سابقاً. كان مقیماً في الكویت. سلم الرفيق عبود رسالة خطیة للنصير العائد تساعده في المهمة، ومبلغاً من المال. يضيف حول لقاء أخر مقرر سابقاً مع الرفيق باقر إبراهيم، ما يلي: “وأخبرت في حينها عضو المكتب السياسي باقر ابراهيم كما أوصيت به من كردستان، ولاحظت أثناء مقابلتي له في مكتب يعود الى أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري قرب ساحة المرجة بدمشق، بأنه ليس متحمساً لهذا الأمر، وتفوه بنغمة مناطقية لا تريح النفس.”. (تجربتي ص 70). تبدو العبارة غائمة وغير واضحة المقاصد على وجه الدقة.

يشير الى لقاء آخر مع النصير أبي حازم. عاش أبو حازم قصة محزنة خلال خدمته الأنصارية، حيث بتر قدمه دون تخدير. كان هذا العلاج الوحيد المتيسر في الموقع. تمثل قصته صورة دقيقة عن نقص الخدمات الطبية والظروف القاهرة التي تحيط بالأنصار الأبطال حقاً. كان ذلك اللقاء سبباً لإطلاق عنان الذكريات المشتركة. تحمل تلك الذكريات دلالات كثيرة ومعاناة عميقة في الوطن وخارجه. يسرد كيف أن تلك الضحكات التي إستثارتها الذكريات المشتركة مع أبي حازم، أدت الى تعرضهما للضرب والتوقيف من قبل الأجهزة الأمنية السورية. وبعد أيام نقل الى مقر القیادة القومیة لحزب البعث السوري. وجد الدكتور عبدالحسین شعبان بإنتظاره للوساطة لإطلاق سرحه. ترك الفندق وذھبت الى أحد المقرات التابعة للحزب. یقع المقر ضمن مقر الجبھة الدیمقراطیة لتحریر فلسطین في دمشق. هناك إلتقى صدفة السید نایف حواتمة. دار الحدیث معه عن ظروف إعتقاله. أبدى حواتمة إمتعاضه من تلك التصرفات.

تراكمت أسباب عديدة تدفعه للذھاب الى الإتحاد السوفیتي. يقف في مقدمها معرفة مصیر شھادة تخرجه. ولضيق ذات اليد فكر بالسفر عبر المجامیع السیاحیة السوریة. ذھب الى القنصلیة السوفيتية بدمشق لإستحصال تأشيرة سفر. شارح وضعه لقنصل السفارة. تعاطف الأخير معه. أخبره بأن عضو م. س الرفيق كریم أحمد موجود الآن في السفارة، يمكن الإستعانة به. بعد قليل تَصادَفَ مرورُ الرفيق كريم أمامه. تصافحا بحرارة. سأله الرفيق عن سبب وجوده في القنصلیة. ثم ساعده في الحصول على التأشیرة. إن المساعدة التي قدمها الرفيق تشير الى أن التنظيم لم يتبى موقفاً ضده، خاصة وإن الأخير يهتم بالتفاصيل. لم تكن مهمة صاحبنا في موسكو سهلة، فعليه البدء بعملية التصديق بكل مراحلها وجهاتها المطلوبة. لكنه في نهاية المطاف أنجز المعاملة.

عاد الى دمشق من موسكو يحتضن شهادته العليا. بقيّ فيها نحو أربعة أشھر أخرى. وصف تلك الفترة بالإمتحان الآخر. يتقاذفه خلالها ضنك العيش وفشل المحاولات التي بذلها من أجل الدخول الى الكویت، ومن ثم الى البصرة، كما كان متفق عليه. هذا إضافة الى الأسئلة السياسية والفكرية التي يرزح تحت ضغوطها. برز في تلك الدوامة إحتمال آخر هو العمل في الجزائر أو غيرها بشهادته، التي تضمن له عيشاً مرموقاً، وتلبي إهتماماته العلمية. مرت اللحظات عسيرة. إتخاذ قرار لیس سھلاً. حسب تفسيره هو یعني التخلي عن الفكرة التي آمَنَ بھا، أي ضرورة مواصلة النضال بكل عزم، وتأجیل الأمور الشخصیة الى وقت لاحق.

كان القرار صعباً عليه، على الرغم من معاناته الحرمان، ومن وضع معاشي صعب. توحي لي عبارته التي تشير الى أنه يُھَدَدُ بین فترة وأخرى، بقطع المساعدات المالیة عنه. أن التنظيم بدأ يطالبه بتنفيذ الوجهة المقررة سابقاً في كردستان. هنا بدأ يطرح المقارنات، يقول: “والتي كانت (أي المساعدة الحزبية) تحسب بخمسة عشرة ليرة سورية في اليوم، بينما كان الآخرون أصحاب الشهادات العليا (الدكتوراه والماجستير)، الذين سمح لهم بالعمل في دول أخرى ينعمون بالراحة ووفرة المال، وكنت أشاهد وأحس ذلك عبر الكثير من معارفي الذين كانوا يعملون في الجزائر واليمن والآتون للسياحة والترفيه الى دمشق وهم معززون مكرمون أفضل منا نحن الحفاة الكادحون. (تجربتي ص 79 ـ 80).
يتبع …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com