مقالات

ناظم كزار بين الأسطورة والواقع.

بيدر ميديا .."

ناظم كزار بين الأسطورة والواقع

صادق الطائي

 

يعد ناظم كزار من بين أكثر شخصيات تاريخ العراق المعاصر التي حظيت بقدر كبير من الأسطرة، فالمعلومات التاريخية الدقيقة عن الرجل، أو أرشيفه المهني يكاد يكون معدوما، ومع ذلك فإن ما نشر عنه وما يتم تناقله من أخباره المرعبة، أمر كبير جدا، وهنا يأتي السؤال المفصلي؛ لماذا أحيط هذا الرجل بكل هذه الأخبار المرعبة حتى غدا أسطورة الرعب الأشهر في تاريخ العراق المعاصر؟ وما هي الجهة التي وقفت خلف عملية إطلاق كل هذه الأساطير عنه، ولماذا؟ ولمن لا يعرفه يمكننا القول إن ناظم كزار هو أعتى مسؤول أمني عرفه تاريخ العراق المعاصر، على الرغم من قصر المدة التي كان فيها في الخدمة التي لم تستغرق سوى أربعة اعوام (1969-1973).

وتشير بعض الكتابات المدققة إلى نتف من سيرة حياته العائلية والمهنية، يمكننا أن نقتطف منها ما يخدم التعريف بالشخصية، فقد ولد ناظم كزار لازم العيساوي عام 1940، وهو أحد أفراد أسرة مكونة من عشرة أخوة من الصبيان والبنات، وهو ينحدر من أسرة تعود أصولها لعشائر الجنوب في مدينة العمارة، وقد ولد في مدينة المقدادية في محافظة ديالى، التي كانت عائلته تعيش فيها نتيجة عمل والده فيها، فهو عريف في صنف الخيالة في الجيش العراقي، وكان مقر عمله في خان بني سعد.

تم إطلاق يد ناظم كزار والأجهزة الأمنية للتصرف بقسوة ووحشية مع الخصوم السياسيين، وتحول قصر الرحاب، أحد القصور الملكية إلى مسلخ بشري سيئ السمعة

ناظم عربي، مسلم، شيعي، انتقلت عائلته إلى بغداد فعاش طفولته وشبابه في مناطق الكسرة، ثم الشيخ عمر، ثم السبع ابكار. درس الابتدائية في المدرسة المأمونية، والمتوسطة في مدرسة الغربية المتوسطة، والإعدادية في الثانوية المركزية، ثم تحول في آخر سنة إلى الدراسة المسائية لعمله صباحا في معمل سكائر عبود لمساعدة والده في إعالة عائلته، وكانت نتيجته في الدراسة الثانوية ممتازة، فقبل في كلية الطب جامعة بغداد عام 1958. وفي ذلك العام انخرط بشكل رسمي في النشاط الحزبي عندما انتمى إلى حزب البعث، ودخل معترك صراع الأحزاب المحتدم في الشارع العراقي. وبسبب نشاطه الحزبي تم اعتقاله وانقطع عن الكلية، ما تسبب في ترقين قيده، لذلك تحول عام 1959 إلى كلية الهندسة في جامعة بغداد، وللأسباب نفسها لم يستطع إتمام دراسته فيها وتم فصله، اعتقل عام 1961 وبقي يتعرض للاعتقال لفترات متقطعة حتى انقلاب شباط/فبراير 1963 حيث أفرج عنه في حكومة البعث الأولى وعمل في الهيئة التحقيقية بمعية الملازم عمار علوش، في أحد مراكز التحقيق وكان بمرتبة حزبية بسيطة، ولم يكن صاحب نفوذ أو قرار، في تلك الفترة. بعد انقلاب عبد السلام عارف في تشرين الأول/أكتوبر 1963 وإطاحته بحكومة البعث، تم اعتقال ناظم مرة أخرى وتمت محاكمته، ونتيجة تهجمه على رئيس المحكمة، تم تشديد عقوبة السجن عليه من خمس سنوات إلى عشر سنوات، الأمر الذي منعه من إتمام دراسته في قسم الهندسة الكهربائية في المعهد الصناعي العالي (الذي تحول إلى الجامعة التكنولوجية لاحقا)، إذ تخرج منه بعد تموز/يوليو عام 1968 . وقد تنقل في عدد من السجون بين بغداد والسليمانية والموصل، ولم يفرج عنه الا في شهر فبراير 1968 قبيل انقلاب البعث الثاني في يوليو 1968. وقد رد في الكتب التي تناولت سيرة كزار، والتي صدرت مؤخرا أنه كان كتوما، قليل الكلام، متجهما لم يره أحد مبتسما، غير اجتماعي، قليل العلاقات ويكاد يكون بلا أصدقاء، لم يتزوج وظل أعزب حتى وفاته، ولم يعرف عنه أي علاقات نسائية، ولم يشرب الكحول ولم يدخن، زاهدا بسيط المعيشة، لم يستغل منصبه للحصول على ثروة أو أموال، وتوزعت حياته على أمرين لا ثالث لهما، عمله الأمني وعمله الحزبي، إذ قفز حزبيا بسرعة الصاروخ وأصبح مسؤول فرع بغداد في التنظيم العسكري، كما وضع على رأس أهم جهاز أمني في البلد وهو مديرية الأمن العامة وهو في التاسعة والعشرين من عمره، نتيجة إصرار صدام حسين الممسك بالملفات الأمنية حينذاك، الذي أقنع قيادة الحزب والدولة أن ناظم أكفأ رجل يمكن أن يدير أمن البلد في تلك الأيام العاصفة، فمنح رتبة لواء وتم تعيينه مديرا عاما لمديرية الأمن العامة بقرار من مجلس قيادة الثورة. هنا يجب أن نشير إلى أن تلك الفترة من حياة حكومة البعث الثانية كانت عاصفة وتموج بالصراعات، وكان هناك شبح يطارد البعثييين ألا وهو إطاحة حكومة البعث الثانية كما جرى في أكتوبر 1963، وكان خصوم البعثيين يتوزعون على عدة جهات أبرزها الحزب الشيوعي (تنظيم القيادة المركزية) الذي خاض صراعا مسلحا في مناطق الأهوار النائية للإطاحة بحكومة عبد الرحمن عارف، ومن ثم حكومة البعث. كذلك كان هناك التمرد الكردي الشرس الذي يقوده الملا مصطفى البارزاني في كردستان العراق والمدعوم غربيا وإيرانيا، وفي الداخل كان هناك عدد كبير من الضباط القوميين الطموحين الذي ينتظرون الفرصة المناسبة للقيام بحركة انقلابية جديدة ضمن سلسلة الانقلابات التي شهدها عقد الستينيات.
ونتيجة كل هذه الأجواء الملبدة تم إطلاق يد ناظم كزار والأجهزة الأمنية للتصرف بقسوة ووحشية مع الخصوم السياسيين، وتحول قصر الرحاب، وهو أحد القصور الملكية إلى مسلخ بشري سيئ السمعة، بعد أن أصبح مقرا للهيئة التحقيقية في فبراير 1963، وعندما أمسك كزار بمديرية الأمن، أعاد سيرة الرعب إلى ذلك المكان الذي أصبح يعرف بـ(قصر النهاية) كناية عن نهاية المعتقل السياسي الذي يدخله. نجح كزار وفي مدة قصيرة نسبيا من القضاء على خصوم أساسيين لحكومة البعث وهما تنظيم القيادة المركزية، والقوميون من حكومة العهد العارفي، والبعثيون من جناح سوريا، بعد أن شن سلسلة اعتقالات ومداهمات واغتيالات نفذتها قوى الأمن والمخابرات، وتم تفكيك تنظيم القيادة المركزية بعد أن تمكن كزار من اعتقال قائد التنظيم الشيوعي العتيد عزيز الحاج، وتم نشر اعترافاته بلقاء تلفزيوني شهير، ما تسبب في انهيار التنظيم. كما قيل ونشر الكثير عن الإجراءات القمعية والتعسفية مع رجال العهد العارفي من قيادات الجيش والوزراء والسياسيين في معتقل قصر النهاية على يد جلاوزة قصر النهاية، وقد قيل حينها إن الدافع وراء هذا السلوك كان شهوة الانتقام لدى الرئيس أحمد حسن البكر ممن انقلبوا على حكومته عام 1963، كل هذه الوقائع رفعت من مكانة ناظم كزار وهو في الثلاثين من عمره ليصبح الرجل الصعب في معادلة حكم البعث مطلع السبعينيات. وهنا انطلقت موجة أسطرة صبغت تلك الفترة، أطلقها رفاق وخصوم كزار على حد سواء، وبدوافع متنوعة، إذ قيل عنه إنه كان يستمتع وبطريقة سادية بتعذيب خصومه السياسيين بيده حتى الموت في قصر النهاية، وإنه أول من جلب أحواض الأسيد (التيزاب) إلى مبنى قصر النهاية لإذابة أجساد المعتقلين، وهو أول من استورد آلات تقطيع الأطراف من ألمانيا الشرقية. كما كان يستخدم أساليب تعذيب لم تعرفها معتقلات العهد الملكي والجمهوري حتى ذلك الحين. وأنا أعتقد أن الجهات التي أطلقت هذه الأسطورة، متعددة، ففي البدء كان البعثيون هم من يطلقون هذه المعلومات المرعبة التي تجعل المعتقل السياسي مرعوبا عندما يتم اعتقاله، وهو يتخيل ما سيجري عليه من صنوف التعذيب، والسبب واضح، وهو نوع من الحرب النفسية التي تصور كزار بصورة مصاص دماء لن يفلت منه خصم سياسي، أما لاحقا فإن خصوم البعث ممن تعرضوا للتعذيب والمطاردة هم من روجوا ونقلوا وضخموا أسطورة ناظم كزار، ربما لتغطية حالات الانكسار والانهيار التي شهدتها معتقلات البعث. كما تجدر الإشارة إلى أن الكثير من أسطورة ناظم كزار قد كشف عنها بعد أن قام بمحاولته الانقلابية الفاشلة في يوليو 1973، والتي أعدم على أثرها، وقد كان نظام (صدام/البكر) في تموز 1973 يسعى لفتح صفحة تعاون مع الحزب الشيوعي العراقي بقيادة عزيز محمد، وكان تاريخ العنف الدموي الذي جرى في عهدي البعث الأول والثاني تقف عائقا أمام أي اتفاق، أو جبهة وطنية بين الشيوعيين والبعثيين، وبالتالي قام النظام باستعمال كزار شماعة تم تعليق كل الانتهاكات الدموية التي جرت عليها، ليتم تنصل صدام والمجموعة المحيطة به من ارتكاب تلك الجرائم، وهذا ما تم فعلا. وتبقى قضية وتفاصيل وأسرار المحاولة الانقلابية التي نفذها ناظم كزار جزءا من أسطورة هذا الرجل، التي تحتاج إلى صفحة جديدة للكتابة عنها بتأن وموضوعية.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com