متفرقاتمقالات

عن الكم والكيف في التأليف: كم كتاباً ألَّفَ العالمان طه باقر وجواد علي؟

بيدر ميديا.."

عن الكم والكيف في التأليف: كم كتاباً ألَّفَ العالمان طه باقر وجواد علي؟

علاء اللامي*

أعتقد أن الكتب تحسب وتُقيَّم من حيث تأثيرها وفعاليتها وتداعياتها في المجتمعات والميادين التي ألفت فيها، وليس بعددها. وعلى الرغم من تراجع منزلة وانتشار الكتاب الورقي تراجعا خطيرا في أيامنا، واقتصار توزيعه خلال المعارض الدولية تقريبا، فإن القاعدة الذهبية والمجربة تبقى كما كانت من قبل وهي أن الكِتاب الأكثر تأثيرا والأطول بقاء هو الذي تمليه على كاتبه شبكة عوامل وظروف دافعة ومتداخلة في مقدمتها ذلك المزيج العبقري من الجدة والإبداع والتطوير وربما يأتي الدافع النرجسي والوجاهي في أخيرها وقد لا يأتي.

لنأخذ – كمثال أول – شاعرا معروفا كالفرنسي آرثر رامبو؛ لقد هزَّ هذا الشاعر قصير العمر ونادر المنتوج الشعر الفرنسي – والغربي- القديم والحديث وخضه خضاً، أو بعبارة الروائي والناقد الأميركي هنري ميلر – إن لم تخني الذاكرة – “أمسك بالشعر الفرنسي والأوروبي من أذنه وطرحه أرضاً ثم قَلَبَهُ رأساً على عقب”، واعتُبِرَ مؤسس الحداثة الشعرية في الغرب، هذا الشاعر لم يترك خلفه إلا كتابين صغيرين أو دفترين اثنين هما “إشراقات” و”فصل في الجحيم” وست قصائد أشهرها “المركب السكران” والتي ترجمت عدة ترجمات الى اللغة العربية، ثم طلَّق الشعر بالثلاث وهَجَرَ عالم الأدب نهائياً وهو شاب ثم تحول الى تاجر سلاح مغامر جوّال حتى موته وهو في الثلاثينات من عمره بعد حياة قصيرة صاخبة ومنفلتة ومضطربة. لست أقارن أحداً بأحد أو حالة بحالة محددة بل أذكر أمثلة لتعضيد الفكرة.  

أما في عالم الرواية فكثيرون هم أولئك الذين هزّوا عالم الأدب والرواية بكتاب واحد ثم سكتوا حتى الموت؛ منهم مثلا: بوريس باسترناك في روايته اليتيمة والشهيرة «دكتور زيفاجو» التي فاز عنها بجائزة نوبل للآداب سنة 1958 ولكنه رفض استلام الجائزة أو كما قيل في الإعلام الغربي أجبر على رفض استلامها من قبل السلطات الستالينية في الاتحاد السوفيتي، وسيلفيا بلاث في «الناقوس الزجاجي»، وإميلي برونتي في «مرتفعات وذرنج» وآنا سويل في «الجمال الأسود» ومارجريت ميتشل صاحبة «ذهب مع الريح» التي تحولت إلى أيقونة سينمائية لاحقا. ونلاحظ أن أغلب هؤلاء المبدعين ذوي العمل الواحد من النساء (أربعة من خمسة أسماء)، ربما لأنهن أكثر شجاعة واستخفافاً بنشر إبداعهن الأدبي من الرجال. أما في مجال الأبحاث العلمية فالأمثلة أكثر من أن تختصر عن أصحاب العمل الواحد والعملين!

ولكن دعونا نأتي بمثالين عراقيين؛ لعل الباحث والعلامة العراقي الكبير جواد علي خير مثال على المُقلِّين الذين لم يبلغ عدد كتبهم أصابع اليدين، ولكنه أيضاً صاحب الموسوعة التاريخية الأشهر والأكفأ والأوسع والأوثق في اللغة العربية والتي تحمل عنوان “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” في عشرة أجزاء، وطبعت لاحقاً من طرف دور نشر لصوصية داخل وخارج العراق (أقول لصوصية لأتها لم تراع حقوق المؤلف العلمية أو حقوق ورثته) بعشرين مجلدا، وهو متوفر على الانترنيت بنسخ رقمية “بي دي أف” مجانية، وصار هذا الكتاب مرجعاً لكل من كتب عن تاريخ العرب قبل الإسلام. وحتى كتب المؤلف اللاحقة فقد كانت اشتقاقات وتنوعيات وتفصيلات على موسعته “المفصل” ككتبه “أصنام العرب” و “تاريخ الصلاة في الإسلام” و “التاريخ العام” إضافة إلى أطروحته لشهادة الدكتوراة التي قدمها في جامعة هامبورغ الألمانية سنة 1938 وهي بعنوان “المهدي وسفراؤه الأربعة”، ويقال إن له كتباً أخرى لم تنشر في حياته.

أما زميله ومجايله العلامة طه باقر فلا يكاد يُعرف له إلا عدد مقارب من الكتب قد لا يتجاوز الستة كتب، منها كتابه المهم “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة” بجزأين، الأول عن العراق القديم، والثاني عن مصر (وشمل فيه حضارات بلاد الشام والجزيرة العربية وبعض الحضارات القديمة في بلدان فارس والإغريق والرومان)، وهو كتاب مرجعي مهم يَعْدِلُ مكتبة كاملة. وكتابه الثاني “المرشد في الآثار” وهو في ستة أجزاء وبحر تخصصي في بابه، والثالث “مقدمة في الأدب العراقي القديم” والرابع “موجز في تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة والإسلامية”، والخامس كتاب شبه مفقود عن “بابل وبورسبا” صدر سنة 1959، وأخيرا وسادساً كتابه “من تراثنا اللغوي القديم” ويقول تعريف الكتاب “هذا الكتاب، يرد فيه طه باقر على عجز المعجميين العرب عندما تعوزهم الحيلة في إثبات أصل أو جذر بعض الكلمات والمصطلحات فيردوها نتيجة لهذا العجز إلى الدخالة أو العجمة. لقد أثبت طه باقر أصول هذه الكلمات والمصطلحات السومرية والآكادية، وبعضها شائع في اللهجة العامية العراقية لا سيما في الجنوب العراقي”. وكنت قد قلدته وسرتُ على خطاه من دون أن أعلم أو أطلع على كتابه هذا، في تأليفي لكتابي “الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام” ولعلني أكتب لكم ذات يوم شيئا عن هذا الكتاب الثمين الذي حصلت على نسخة منه متأخراً.

إضافة إلى ما سبق أنجز الراحل طه باقر بعض الترجمات المهمة وفي مقدمتها ترجمته الرائدة لملحمة كلكامش، وتحتوي أيضا على فصول بحثية مهمة بقلمه. كما ترجم كتاب “دراسة للتاريخ” للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وكتاب “ألواح سومر” لصموئيل نوح كريمر، وكتاب “الرافدان”، وكتاب “الإنسان في فجر حياته” لدوروتي إيفرسن، ترجمه بالاشتراك مع زميله الباحث فؤاد سفر، كما ترجم فصولا من كتاب “تاريخ العلم” لجورج سارتون. وهناك من يعتقد أن مؤلفاته أكثر مما ذكرنا، ولا أظنها تتجاوز ما ذكرنا ولكنه نشر العديد من الدراسات والمقالات في المجلة الفصلية التي أسسها سنة 1945 وحملت اسم “سومر”، وكانت أرقى مجلة آثارية وتأريخية صدرت باللغة العربية في زمنها، وماتزال مرجعا مهما حتى اليوم وهي منشورة بكافة أعدادها على الانترنيت.

أعتقد لو أن مؤلفات الراحل طه باقر الشهيرة الستة أنجزها باحث معاصر في أيامنا لتحولت الى ثلاثين أو أربعين كتاباً، فتأملْ وأنت تتذكر أمثال هؤلاء الكبار عطاءً وإبداعاً على قلة عناوين كتبهم!

Svara
Svara alla
Vidarebefordra
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com