أبحاث

من مسارات الحـروف وكواليس الكـتابة .الحلقة ٢٥.

بيدر ميديا.."

من مسارات الحـروف وكواليس الكـتابة .
د.خيرالله سعيد.

التطورات الثقافية في بغـداد وتطوّر صناعة الورق . ح 25

2- الجـزء الثـاني : حمل عـنوان : صناعة الورق وأدوات الكتـابة : اشتملت موضوعاته على العناوين التالية:
* فهـرست الموضوعـات :
آ- البـاب الأول : أدوات الكتابـة .
1- الفصل الأول : الأقـــــــــــلام .
2- الفصل الثاني: السكـين .
3- الفصل الثالث: ما قيل في الأقـلام .
4- الفصل الرابع: الـــــدواة .
5- الفصل الخامس: الحِـبر .
6- الفصل السادس: ألغـاز في أدوات الكتابة .
7- مُـلحق ( نظم لآلئ السمط في حُسنِ تقـويم الخط ) .
ب – البـاب الثـاني : صناعـة الورق في بغـــداد .
1- الفصل الأول : تمهـيد تاريخي .
2- الفصل الثاني: الـرقـوق والجلـود .
3- الفصل الثالث: القـراطيس .
4- الفصل الرابع: الكـاغـد أو الورق .
5- الفصل الخامس: صناعة الورق .
6- الفصل السادس : مقاطع ومقاسات الورق وأنـواعـه .
* قائمة المصادر والمراجع :
* لما صارت الكتابة مهنة يُعتاش منها تطلب الأمر أن تكون هناك سوقاً خاصة لأهل هذه الصناعة يوفر لهم ما يحتاجونه من الأدوات التي تساعدهم على إتمام عملية الكتابة، لذلك أنشئ سوق الورّاقين في ربض وضّاح وفيه أكثر من مائة حانوت كما يقول اليعقوبي . وبهذا السوق يجد الكاتب ما يحتاج إليه من أدوات الكتابة والتي هي: الأقلام والحبر والدواة والسكاكين لقط الأقلام وغيرها من الأمور الثانوية، إضافة إلى مواد الكتابة والتي يُشكل الورق مادتها الأساسية ، وقـد استطعنا أن نحصي ونعـدد أسماء تلك الأدوات التي نافت على 42 أداة كانت مستخدمة في مسألة الكتابة والإبـداع .

3- الجـزء الثالث : أخـذ عـنوان : أدبـاء بغـــداد في العصر العباسي . وفيه جرى التركيز على أهمية هـؤلاء الأدباء، باعتبار أن الثقافة لأي شعب من الشعوب، هي المقياس الحضاري الذي يميز – كمّاً ونوعاً – هذا الشعب عن ذاك وهذا البلد عن سواه، وتعد صناعة الكتاب والمدونات الأخرى من أبرز تلك العلامات للمفاضلة، للموشور الحضاري .فمن المعلوم أن صناعة الكتابة والكتاب تعد من أهم وأنفع الصناعات البشرية، عبر مختلف العصور،
وقد وجدت هذه الخصوصية انعكاساتها الكبيرة في “المرحلة العبّاسية” وهذه المرحلة هي ليست فقط وريثة الخلافة الراشدية والأموية، بل وكل تراث المنطقة الفارسي ، الهندي ، اليوناني ، السرياني… الخ.
إنَّ نشوء هذه الفئة من الأدباء، يعكس في آن واحد متطلبات الثقافة وإعادة إنتاجها، إذ أنه حدد بدوره قيمتها التاريخية والعلمية من جهة، وأهميتها الأدبية والروحية والجمالية من جهة أخرى. لذلك اشتملت موضوعات هـذا الجزء من الموسوعة على العـناوين التالية :
* المقـدمة :
آ- البــــــاب الأول : تمهيدات تاريخية لبغـداد النشأة والتكوين .
1- الفصل الأول : ازدهـار بغـداد .
2- الفصل الثاني : تنامي المعرفة في بغـداد .
ب – الباب الثاني : الحـالة الثقافية في بغـداد .
1- الفصل الأول : تطوّر صناعة الكتابة في بغـداد وظهور الكتّـاب .
2- الفصل الثاني : مقـوّمات الكُـتّـاب .
ج – تـراجم لأهـم أعـلام الأدب في بغـداد .( وقد ترجمنا فيه لعشرة ادباء معروفين ) .
د- مصادر البحث .
4- الجـزء الـرابع والجزء الخامس : أخـذا عنـوان ( شعراء بغـداد في العصر العباسي ) حيث في الرابع، تطرّقنا الى ( واجهـة الشعراء في العصر العباسي ) فيما كان الجزء الخامس مخصّصاً لشعراء بغـداد . وفيهما جرت معالجة مظاهر الشعر العباسي وأهم اتجاهاته واغراضه وأهم شعرائه . واستخدمنا ( منهجية خاصة ) بهـذين الجزأين ، على النحو التالي :
كان الشعــر ، ومازال، الثابت الأرأس في ثقافة العرب عامة وبلاد الرافدين خاصة ، فهو الرئــة التي يتنفسون منها الإبداع ، ليعبـّروا بـه عما يجول بأنفسهم من خواطر ، إضافة إلى أنــّــه كان أوثق وثيقة لتاريخ الأقوام التي تعايشت في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهـرين ، فــــأولــى الاكتشافات الآركيولوجية كانت قد عثرت على الألــواح الســومريـة ، ومن بينها كانت” ملحـمـــة گلگامــش” وبالخط المسماري ، وقـد صيغت شعراً ، وهي تبحث عن سـرّ الخلــود للإنســـــــــــان.
وحـينما جاء الاســلام ، وقـويت شوكتـه، ولاسيما في المرحـلة المدنيـة، كان الشعر قد تصدّى للخصـوم – شـعريـّاً- بالذود عن الرسالة المحمـديـّة ، وقـد كان شعراء الرسول ، يمثلون هذا الجانب وعرف منهم ” عــبدالله بن رواحـة – ت 8 هـ /629 م ، و ” حسـان بن ثـابت – ت 55 هـ/674 م” وهـؤلاء الشعراء أثبـتوا قــوّة الشعر وفعاليته ، الأمر الذي استثنـاه النص القـرآني في بعض آيــاتـه وليس ذلك فحسب ، بل أننا نلمس إضـفاء البعـد الجمـالي على بعض نصوص الخطــــــاب القـرآني، كســورة الرحمـن ، مثلاً، والآيات والسور القصــيرة ذات الفواصل المتناسقة . وقد تجسـّد هذا الشكل الجمالي في كتابةٍ فاجـأت العرب ، بحــيث أجمعــوا على أنهــــا فريـدة ، لم يـروا مثلهـا وعلى أنهـا لا تضاهى ، ولم يعرفوا كيف يحـددونها استناداً إلى المعايـير التي يعرفونها ، فقــــالوا : إنهـا نثـر، لكنها ليست كمثل النثـر ، وإنهـا شعـر لكنها ليست كمثل الشعر … وقالوا: إنهــا نـوع من النظـم في تركيب جــديد .
ومن هنا ندرك القـوة المؤثرة للشعر في الوعي العربي ، وتـأثـّـر النصوص المقدسة فيه ؛ لأنـــه ثـابت قوي الحضور ، ليس في الثقافة الاسـلامية وحـدها ،بل وفي النصــرانيــة أيضــا.
وعليـه يصحّ القول : إنّ الشعر قد أثــّر فعلاً في الثقافة الدينية التي حلت في وسط الجزيرة العربية . وعلى الرغم من سطوة النص الديني/ النصراني والاسـلامي/ على الشعوب العربيـة كانت نصــوص الشعر لهـا الأسبقية على النص الديني ، في الحفظ والتداول والشيوع والانتشار؛ لأنــه تــــوأم الفطرة في وعي العرب .

وحـيــنما خطت الخلافـــــة العـبــاســية ( 132 – 656 هـ/ 750 – 1258 م ) في أولـــــــى خطــواتهـا الحضارية لتفعيل الفكر العربي – الاسلامي في المجـــالات كافة ، كان للشعر الحضور الأبرز في هذا النهـوض ، إذ كان أغلب بني العباس- ولاسيما الأوائل منهم- ممــّن يتعاطون الشعر والثقافة والأدب والتاريخ والأنساب ،وللشعر في نفوسهم القـدح المعـلـّى ، على بقية الفنـــون. ومن ثم صاحـب الشعر فـن آخــر ، يعتمـد على الشعر في وجــوده هـــــو فــــن الغــــــــــناء، حتى أصبحت بغــداد – حاضرة الخـلافـة العبـاســية – من أكثر الأمصـار الإسـلاميـة شهرة في الأدب والغنــاء والشعر والموسيقى وبقيــة فـــنـون الأدب والمعارف الأخرى .
وقـد غـالى خـلفــاء بني العــباس في احتضان الشعراء والأدباء والمغـنين ، حتى أنـّك تستغرب هذا الكم الهــائل من الشعراء والأدبــاء في ذلك الأوان، وقــد رصــد هـذه الظــاهـرة الثـقـــــافيـة أبـو الفــرج الأصفـــــهاني- ت 356 هـ/ 967 م ” بكتــابـه الـهام ” الأغـــــــــــاني”
وقد بدأت ” حركــة التجــديد الشعري” في هذا العصر تحــديداً ، إذ ان الوعي الثقافي لهذه المرحلة كان ناهضاً بكل مناحي الحياة ، الإبداعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ولا أعتقــد أن هناك عصراً قد تجاوز العصر العباسي بعلومه وفنونه وآدابـه، إذ ظهر فيه النسخ والتأليف والفلسفة والرياضيات ، والترجمة والعلوم والموسيقى ، حتى عـدّ هذا العصر بالعصـــر الـذهــبي للثقـافة العربيــة والاســلامية بلا منـــازع .
والشعر، كان قد سبق بقيــة الفنــون في مجــال التجــديد ، إذ قامت المخيــلة الشعريــة بفعلها في تفجير طاقات الإبداع . وقد ظهـر هذا التجــديد في شعر أبي نــؤاس” 757 – 814 م ” وعـنـــد البحـــتري ” 820 – 897 م ” وفي شعر أبي تمــّام “788 – 845 م ” فيما كانــــت الســــطوة الشعرية للمتــنبي ” 915 – 965 م ” تقـلـق كل الفحــول من الشعراء كي يجـاروه في منحــاه وأسلوبـه .
وعلى الرغم من ظهــور فلـسـفـة التصــوف وأدبها العـالي ، لم تستطع مجـاوزة الشعر، رغم موازاته بحـدّة ، حيث أن الشعر راح يـؤثــّـر بكل فئـات المجتمع ، بل سحب إليه أقـواماً أخرى ، مـن غـــير العـرب ، للتعـاطي به والنهـل من منبعــه، حتى ظهــر اللحـن في لغـة هــؤلاء الغــربــاء ” الأعـاجـم” واسـتعـذب منهـم في الشعر، حتى قال أحد الشعراء ” وأعذب الشعر ما كان لحـــــنا” وهـنا نلاحظ سعة انتشار إيقـاعـات الشعر ومساحاته ، وراح الغـــناء ، أيضـا يطالب بالجـديد منـه بغية الرقي فيه والتماثـل مع قامته الباسقة ، إذ ان الغــناء لا غــناء له عن الشعر مطلقـا .
إنّ سطوة الشعر العراقي في العصر العباسي ،على بقية فنـون الأدب ، جعلت منه ميـدان تنافـــس ثقـافي – سياسي ،تجلـّى ذلك في نتاج الخلافتين الفـاطــميـة في مصـر والأمـوية في الأنـــدلـس، في العصــور الوسطى ،إذ ان الخلافـات السياسيــة مع الدولـة العــباسية ، كان الأدب يظهــرهــا بشكل جلي ، وقـد نحـا شعراء الأنــدلس منحـى تنـافسـيـّاً مع شعراء العـراق ، في صنعة الشعــــر تحــديداً ، وقبلـوا النــزال الثقـافي ،فـأبــدع الأنـدلســيون شــعر المـوشــحات ، كفـارق ثقــافـــي وحضاري، يملي قـانونيـّـتـه الإبداعية على كامل الثقـافة العربيـة – الإســلامية ، ويـؤثــّر في ثقـافة أوربـــا – فيما بعـد- من خـلال إبـداع أهـل إســبانيا شعراً جــديداً اسمه ” شعر التربادور” مما حدا بالأنــدلسيين في هـذا المجال الشعري الجديد على ابتــكاره ، جعل من بقية شعراء العالم العربي دائمي القـلق والتفكير لإيجــاد” معــادل ثقــافي شعري” يوازي تلك الموشحات الشعرية ، في مجال الإبداع ، ولكن لم يـوفقــوا الى ذلك، وظلـّت الموشحات إبداعاً أنـدلسـياً خـالصـــاً .
قـد تـحفــّز الغـيرة التنافسـية في الإبداع الجميع لخلق أنماط جديدة في مناحي الثقـافة كافة، فبعـد حـوالي سـتة قـرون من ابتـداع الموشحات الأنـدلسية، أوجــد شعراء العــراق ، في مرحلة الخــلافـة العــثـمانيــة ” 1281 – 1923 م” نمطـاً جـديداً من الشعر اسـمـه ” شـعـر البــــنــد ” هـو أقـرب إلى السـجع وبشـطر واحــد ، وكان الشاعر عــبد الغـفــّار الأخــرس” 1805 -1873 م ” واحداً من المبـرزين فيـه، وهــذا الأمــر يشير إلى العقـليـة الخـلاقـة عنـد شعراء العـراق، بوصفهم حـاملي منـارة الشعر بامـتـــياز .
* إن هذه المقدمة التاريخية لحالة الشعر العراقي، ضمن تجلياته التاريخية هي التي دعتنا الى أن نتوقّـف مع ( شعراء بغداد في العصر العباسي ) كنقطة مفصلية في تاريخ الشعر العربي برمّـته، أسّست الى تطوّر مفاهيم واساليب جديدة في الشعر ، جعلته الميدان الأخصب في عموم الظاهرة الثقافية ، بمعنى أن دراسة حالة الشعر والشعراء في العصر العباسي تستلزم التوقّف في الحاضنة الأرأس لهذا الشعر ( بغـداد ) بوصفها عاصمة الخلافة العباسية، وبالتالي يكون تأثيرها هو الأقوى من بقية الأمصار الإسلامية، ومن هذا المنطلق يكون النظر الى شعراء بغـداد ضمن المدى الأبعد المتجاوز للحيّـز الجغرافي، حيث امتداد الظاهرة الثقافية الشعرية الى ما وراء حدود بغداد ، بل وخارج حدود العراق نفسه، ومن هنا كانت ( إشكاليتنا في البحث والتراجم للشعراء ) تصطدم بالحاجز الجغرافي ( بغـداد ) الأمر الذي دعانا الى فك أسـر قيود البحث حول الشعراء بتجاوز المكان الجغرافي ، لأن منهجية البحث فرضت علينا هذا التجاوز ، وبالتالي أصبح من الممكن أن نستعرض شعراء العراق في العصر العباسي، من كافة مدنه، مع شعراء بغـداد ، لأن الغالبية العظمى من الشعراء جاؤوا من خارج بغـداد واستقرّوا فيها، أو عرفوا بها وغادروها، ولذلك قسمنا العمل في البحث الى ( واجهة الشعراء العباسيين في بغـداد ) كجزء أوّل، حددنا فيه أهم الشعراء وتأثيرهم على الشعر العربي برمّـته وليس فقط على الشعر العراقي، ثم أوجدنا ( الجزء الثاني – للشعراء العباسيين وتأثير بغداد عليهم ) أي من حيث التفاعل الثقافي والاجتماعي، إذ أن الكثير منهم بين استقرار فيها ومغادرة منها، بين الحين والآخر . وهؤلاء هم الظاهرة الأكثر عـدداً والأوسع انتشاراً في العصر العباسي، ثم وجدنا (باباً ثالثاً ) وخصصناه الى ( شعراء التصوّف في بغـداد ) حيث أن هـؤلاء الشعراء لهم إيقاعهم الخاص وأسلوبيتهم المتميّزة وقاموسهم الثقافي في نسج شعرهم ، ولذا فرض علينا ( منهج البحث ) فرد هذا الباب لهم بشكل مستقل . ثم صادفتنا ظاهرة متميّـزة في الشعر العباسي، ألا وهي ( النساء الشاعرات ) اللاّتي أثبتن كفاءة عالية وحضوراً متميّزاً، جلب انتباه المؤرخين والنقّـاد مما فرض عليناً إفراد جزأً خاصاً بهـنَّ ، أطلقنا عليه ( شاعرات العراق في العصر العباسي ) أخـذ التسلسل رقم 6 في هـذه الموسوعة، وهنا أصبح العمل كبيراً جداً ( تجاوز ألف صفحة ) مما دعانا لأن نقسّـمه الى أربعـة أجزاء ، كل باب في جزء ، لكنه يخضع الى منهجية واحدة في البحث الأكاديمي، ضمن سياقاته الأكاديمية التي التزمنا بها .
* الاقتباسات الشعرية في البحث:
في كتابه ( الصناعتين ) أشار أبو هلال العسكري قائلاً: ( ولما كانت أغراض الشعراء كثيرة، ومعانيهم متشعبة جمة، لا يبلغها الإحصاء، كان من الوجهة أن نذكر ما هو أكثر استعمالاً، وأطول مدارسة له، وهو: المدح والهجاء والوصف والنسيب والمراثي ) . وهذه الأغراض هي التي كان الشعراء يتناولونها بشعرهم ، وشكّلت مصدر الهامٍ لهم ، على اعتبار أن الشعر تأسياً للوجود البشري ، وتكثيفاً لمعنى وجود الإنسان على الأرض، وهو كينونة الكائن نفسه وعلاقتهِ بالأشياء المحيطة به، كما يقول صلاح بو سريف . ولذلك حاولنا إثبات هذه المقولة في وعي شعراء العصر العباسي ، من خلال نتاجهم الشعري المتعدد الأغراض، ، ولذا أردنا من هذه ( الاقتباسات الشعرية ) أن نوقف القارئ على ( نوعية الثقافة التي كانت سائدة وقتذاك) ، مع ملاحظة أن بعض القصائد تكون في بيتين أو أكثر ، والبعض الآخر تكون القصائد طويلة جداً تتجاوز المئات من الأبيات الشعرية ، لا سيما قصائد المديح والرثاء . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، أردنا التـدليل بالشاهد الشعري على خصوصية الشاعر المعروف بها، بمعنى إعطاء ( المثال التطبيقي ) لهذه الخصوصية الشعرية من خلال الشعر ذاته الذي انتجه الشاعر ، دون أن نلتفت الى ( شكل الشعر ومضمونه) حيث هناك ( قصائد المجون وقصائد الخمر) وغيرها ، على اعتبار أننا ندرس ظاهرة كاملة الأركان اسمها ( الشعراء العباسيين ) ، وبالتالي نحن ندرس هذه الظاهرة ونحكم عليها ، وليس من حقّ أي دارس أو باحث بإلغائها وشطبها من المنتج الثقافي لذلك العصر، لأنها ليست ملكاً لأحد منّـا في هذا العصر، وليس اعتباطاً أن تدوّن في كتب التراث العربي الإسلامي ، وتبقى شاهدٍ حيٍّ على تلك الفترة ، دون أن تثير نزاعاً بين مختلف التيارات الفكرية والدينية، وقد كان المؤرخون القدماء أمناء بنقلها، كما هي ، لأن الأمانة العلمية اقتضت ذلك ، وهي واحدة من شروط العمل الأكاديمي التي نلتزم بها في كل أعمالنا التراثية
* الخمرة والمجون في قصائد العصر العباسي :
تواجه الدارس والقارئ على حدٍّ سواء ، ظاهرتين قويتين جداً في الشعر العباسي ، أولها الخمرة وثانيتهما المجون ، وكلتاهما انوجدت عند الغالبية العظمى من الشعراء العباسيين، حتى أن البعض من هـؤلاء الشعراء عرف بها دون سواها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، عرف الشاعران ( ابن سكّـرة وابن حجاج ) أكثر من سواهما بشعر المجون والعبث ، رغم أن قصائدهم رصينة من حيث السبك والنظم وحلاوة المعنى ورشاقة الأسلوب في التوصيف الشعري، ولذلك أُهملت دواوينهم الكثيرة، واستخيرَ منها القليل، وحتى الباحثين المعاصرين يترددون في ذكر ذلك أو الإقدام على تحقيق مخطوطات هذين الشاعرين، مع العِلم أن الشريف الرضي اختار مجموع أشعار ابن حجّـاج ، شملت ديوانين من شعره، وأسقط الباقي ، وعن ابن حجاج وشعره يقول الذهبي: ( شاعر العصر وسفيه الأدب وأمير الفحش، كان أمة وحده في نظم القبائح وخفة الروح). فيما لم يُجمع من شعر ابن سكّرة سوى اربعة مجلدات يربو على خمسين ألف بيت وأهملت أكثر بقية قصائده الماجنة , وفيه يقول الثعالبي : (جار في ميدان المجون والسخف ما أراد ) .
* أمّـا فيما يخص الخمرة ، فحدّث ولا حرج ، ومهما حاول الباحث أو الدارس مُـلافاة هذه القضية فانه سيصطدم بها عند الزهاد حتى ، فإنها ذات حضور مشهود ، في المنقول والشفاهي، وتأتي توصيفاتها في ثنايا أرصن القصائد العباسية ، وعند مختلف طبقات الشعراء، وعادة ما تنظم في مقطوعاتٍ قصيرة، ويدار حديثها في أروقة القصور العباسية بشكل ملحوظ ودون ستر أو تردد ، وقد جلبت انتباه مؤرخي ذلك العصر ومفكريه وزُهّـاده ، حتى أن حنين ين اسحاق يشير في كتابه ( الكـَرم ) تأثيرات تـذوّق الخمرة في قوة أعضاء الجسم ، وينسب اليها 62 صفة إيجابية. وقد لفت انتباه أبو الفرج الأصفهاني أن هناك شعراء اختصّوا بجعل أشعارهم مخصصة للخمرة فقط منهم ( الشاعر أبو هـند الرياحي – ت 750 م) وهو من أهل خُراسان ، حيث أن قصائده كانت تدور على ( الخمر وطقوسه ) وقد وصفهُ أبو الفرج بأنه ( شاعر الخمرة الأول في الإسلام) واليه تنسب الأبيات التالية :
إذا حانت وفاتي فادفنوني بكرم واجعلوا زقاً وسادي
وأبريقاً إلى جنبي وطاساً يروي هامتي ويكون زادي
* ثم يبرز اليك أبو نؤاس في ( خمريّاته ) وما جرّ عليها من ايقاعات شعرية ( أصبحت مذهباً ) يحتذي به الشعراء في نظمهم ، فهو القائل :
شمولاً تَخَطَّتها المنون فقد أتتْ سنون لها في دَنّها، وســنونُ
تراثُ أناس عـن أناس تُخِرِّموا توارثـها بعــد البنين بنونُ
وينسلك في مجراه الشاعر الكوفي بكر بن خارجه إذ يقول :
غسلوني إن مت في ماء كرم إن روحي تحيا بماء الكــروم
حنطوني بتربها ثم رشّــــــوا كـفني من رحيقها المختـوم
وادفنـوني بحانـة عنــــد دنٍ بفــنا عسكر الدنـان مقـيــــم

* وانسحبت مسألة ( الخمرة ) على أدب التصوف الإسلامي بشكل واضح، مع الاختلاف في المعنى والتوظيف من حيث المحمول الديني، وبغض النظر من الاجتهاد في هذه المسألة فأن ( اسم الخمرة ) أصبح طاغياً في توظيفات الأدب بشكل عام ، والشعر على أكثر خصوصية ، فلقد عُرفت ( خمريات بن الفارض ) بشكل يجلب الانتباه ، بحيث أصبحت تنشد قصائده في المحافل الدينية ، لا سيما ( ميميّتـه ) المعروفة التي يقول فيها :
ولو نضَحوا منها ثرى قــبرٍ مَيِّتٍ لعادَتْ إليه الرّوحُ وانتعش الجِســمُ
ولو طرحوا في فيء حائط كرمِها عــليلاً وقـــد أشفى لفارقَهُ السُّقـــم
ولو قرَّبوا من حانها مُقْعـداً مشى وتنطـــقُ من ذكرى مذاقتها البُــكــم
ولو عَبِقَتْ في الشرقِ أنفاسُ طيها وفي الغـــرب مَزْكوم لعـــادَ لهُ الشَّــمُّ
ولو جُــلبَتْ سِرّاً على أكْمَــةٍ غــدا بصيراً ومن راووقـها تسَمُع الصُّــمّ
ولو أنّ ركبــاً يَمَّموا تُرْب أرضهــا وفي الركـبِ مَلْسوعٌ لما ضَرَّه السُّمّ
ولو رسم الرّاقي حروف اسمهاعلى جـبين مصــابٍ جُـنَّ أَبـرأه الرَّســــم

* لذلك كانت اختياراتنا لمختلف النماذج الشعرية تستجيب وشاعرية الشاعر لكل اغراض الشعر المذكورة أعلاه، بغية تحقيق الوحدة الموضوعية بين الشاعر وشعره في الاقتباس والتضمين ، دون الإخلال بمنهج البحث الذي سرنا عليه . وهكذا نقلنا حياة الناس من خلال الشعر، وكيف صوّرها الشعراء لنا بكل تفاصيلها، وكشف لنا عن خبايا ما يدور في أفئدتهم وأخيلتهم، والشعر أصدق من أي عبارةٍ منمّـقة أو مؤدلجة تحاول انكار حقيقة وواقع المجتمع العباسي الذي كان الناس فيه أحراراً في أفكارهم . والشعر وليد الحياة، وعلينا أن نتقبّـله بكل ألوانه وموضوعاته وشكل التعبيرات فيه، ولا يصح عندي أن نأخذ منه الجـاد ونترك الهازل، أو نميل الى شعر الحكمة ونتجاوز شعر التطرّح والخمريات في الديارات وأماكن اللّـهو ، لأن الشعر وحدة متكاملة، يتم التعبير فيه عن كل حالة يمر بها الإنسان الشاعر أو غيره، وعلينا أن نحترم تلك الحالة الشعرية المولودة في لحظتها، حتى وان اختلفنا معها من حيث المضمون والمحتوى، لأن الناس – وقتذاك- قـد تقبّـلت كل هذه الأصناف الشعرية، ومن كافة الطبقات الاجتماعية ، ولا يصح بنا أن نرفض ما قالوه أولئك الأوائل الذين سبقونا ، ويحدونا في ذلك قول سيد الكتابة العربية الجاحظ حينما يقول : ( شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنّـه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله ) ونحن كدارسين، لا يصح بنا اخفاء الحقائق عن الناس وان كانت مرّة، لأن أهل الصناعة والكار لم يخفوا ذلك عن معاصريهم أو سلاطينهم، وتركوا إرثهم ورحلوا، وعلينا حفظ الأمانة التاريخية، وتقديم ما وجدناه كما هو، دون أن نغيّـر من محتواه أو مضمونه أو بتر نصوصه، لأن ذلك يخدع عقل القارئ ويحرف بوصلة البحث، وكم كان محقّـاً وموضوعياً الأستاذ صلاح الدين المنجّـد، وهو يبعث برسالته الى المحقق العراقي الكبير گـورگـيس عواد ، ويحضّـه فيها الى ( عدم طي ما ورد من أدبٍ مكشوف في كتاب ( الديارات ) الذي حقّـقه كّـوركَـيس عواد ونشره في عام 1951م . ونحن قد أخذنا تلك ( الرسالة ) على محمل الجد في أغلب دراساتنا التراثية في العصر العباسي، الذي يبدو الشعر فيه مرآة عاكسة لحياة الناس في تلك الفترة التي عاشوها، بكل تناقضاتها، ولكل فئة عُـمرية مدلولاتها الواضحة فيه، والمتتبّـع يستطيع أن يلحظ ذلك بوضوح من خلال الشعر ذاته، والكل متوافقون عليها دوا أن يحطّ ذلك من كرامة الشاعر وانسانيته، فهذا زنديق وذاك مؤمن، وآخر سكير ورابع متصوف، وخامس ماجن وسادس زاهـد، وهذا وضيع وذاك أمير، لكن الكل يمشي في جادة الحياة باطمئنانٍ وسلام، رغم الوضوح في الخلافات السياسية التي يكشفها الشعر بشكلٍ واضح، الأمر الذي يُـيَـسّـِر للباحث الحكم الدقيق على الظواهر الاجتماعية المتناقضة والمتعايشة في آنٍ معاً ، باعتبار أن الشعر كان وثيقة هـامة من وثائق ذلك العصر الجميل .
* تراجـم الشعراء :
إن ظاهرة الشعر والشعراء في العصر العباسي ملفتة للانتباه بشكل واضح جداً، ويمكن القول بأن ثقافة العصر العباسي ثقافة شعرية بامتياز، فهي ظاهرة تغري بالمتابعة والدراسة والتحقيق ، فلقد كانت هذه الظاهرة من السعة والانتشار بشكل حاد وقوي، فقد أنتجت هذه الظاهرة ما يحقق وجودها الشعري الفاعل على مدى قرون متوالية، وما زالت تلقي بظلالها على ما تركته من أثر ثقافي بالغ ، فلم تعد هناك مدينة أو قرية من قرى العراق في ظل الخلافة العباسية إلاّ وفيها أثنان أو ثلاث من الشعراء، ناهيك عن العاصمة بغداد فهي مرتع الشعر والشعراء، وليس من المبالغة عندما يتحدث الباحث الكبير د. إبراهيم النجار بأنه ( ترجم لأكثر من 600 شاعر من الشعراء المنسيين في العصر العباسي ) في موسوعة هامة جداً أسماها ( شعراء عباسيون منسيون ) في 7 أجزاء، واستطاع د. مصطفى الشگـعة من أن يترجم لـ ( 350 شاعر ) في كتابه ( الشعر والشعراء في العصر العباسي ) فيما تجاوزت ترجماتي لشعراء العراق فقط في العصر العباسي لأكثر من 300 شاعر وشاعرة، وهنا معنى أن يكون الشعر في العراق ظاهرة متجذرة فيه منذ أيام سومر .
لقد نهجت في ترجماتي للشعراء اسلوب ياقوت الحموي في ( معجم الأدباء ) ولكن بشكل موجز ، مبتعداً عن التفاصيل ، ومرجّـحاً سيادة الشعر على النثر، بمعنى أعطيت الشعر المكانة الكبيرة والواسعة في الترجمة، على اعتبار أننا نؤرّخ لظاهرة الشعر والشعراء، ولكن الباب الأول أخذت ترجمات الشعراء فيه شيئاً من التوسّـع وإبراز الحالة النقدية للشعراء ، على اعتبار أن هذه الفئة كانت مؤثرة جداً في سطوتها الشعرية والإبداعية ، مما يتوجب التوقّـف معها بشيء من التفصيل ، أما ترجمات البقية من الشعراء فأخذت الجانب السردي المعتاد في الترجمات ، مع اننا توقفنا في تلك الترجمات مع المحطات المؤثرة والإيجابية وذات الطابع الدرامي في حياة الشاعر المترجم له ، عسى أن نكون قد حققنا المرجو من دراسة هذه الظاهرة الشعرية في العراق ، ولا أدّعي الكمال في عملي هذا، ولكنه يبقى اجتهادي الشخصي في مثل هذا العمل .
* * * يتبع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com