أبحاث

مسارت الحروف وكواليس الكتابة .الحلقة الثانية.

بيدرميديا.."

مسارت الحروف وكواليس الكتابة . الحلقة الثانية

د.خيرالله سعيد

* روح المراهـقة وتقاطعـات الوجـود
إن روح المراهـقة تـدفعـنا إلى أن نُـظهـر ما عِـندنا من ثقـافةٍ، بشكلٍ أو بـآخر، ويظهر هذا في سلوكنا نحن المراهقين، وكانت مقهـى جـواد بن العـلوية، هي الملتقى الأرحب لنا، في تلك الفترة، وكان دور المهـتمين بالقـراءة ، يظهر بيننا ، بشكلٍ أو بـآخر، فقـد كان الصديق الراحل ” عبد الزهـرة محسن ” وهـو حامي هـدف لفريق شباب الملعب لكرة القدم، وهـو من سكنة قطاع 37 في الـﭽـوادر، وكون هذه المقهى ، هي المقـر لفريق شباب الملعب، لذلك كان تواجد غالبية الشباب والمراهقين في هـذه المقهـى . كـان عبد الزهـرة، مغرمـاً بقراءة الروايات العالمية، وذات مرة أعارني رواية فيـكتور هيجـو ” البؤساء ” وحين أكملت قراءتهـا ، أعارني رواية أخرى، لنفس المؤلف ” رواية أحـدب نـوتـردام ” ، ثم قرأت ” رواية لمـن تقـرع الأجراس- للكاتب المشهـور آرنست هـمنغـواي” و ” رواية كـوخ العم تـوم – أو حياة المعذبين على الأرض ” لهـارييت بيتشر ستاو ، وهي كاتبة أمريكية معروفة، ثم أعارني رواية مكسيم غـوركي ” الأُم ” . وصرنا نتبادل هذه الأعمال الروائية العالمية . وبين رواية وأخرى، كنتُ أقرأ ديوانـاً شعريـاً، للرصافي أو للزهـاوي ، أو لعبد المحسن الكاظمي، ثم قرأت دواوين أدباء المهجر مثل ” ديوان إيليا أبي ماضي، ونسيب عريضة والأخطل الصغير بشارة الخوري، وغيرهـم .
* كـان من بين الشباب الناضجين فكريـّـاً وثقافيـاً، وأكبر سِـنّـاً منّـا، هـو الصديق “الأستاذ محسن كـاظم، صاحب مكـوى التحـرير ” في قطاع 39 ، في الـﭽـوادر، وكان ميّـالاً لقراءة ” الروايات البوليسية، وتاريخ الحرب العالمية الثانية، ويكتب الشعر الشعبي، فكان محلّـه ” شبه نـدوة ثقافية ” يجتمع فيهـا كل المهـتمين بالثقافة والأدب، وكنتُ واحداً من هـؤلاء، بل وأصغرهم سِـنّـاً، وكان من بين الحضور الـدائم الشاب الوسيم ” صبيح حسين ” أو ” صبيح ابن خـاﭽــيّـة ” وهي أمّـه ، وصاحبة ” دكان عطارة ” في قطاع 39 . كان هذا الفتى مغرمـاً بقراءة الشاعر اللبناني المهـجري ” جبران خليل جبران ” وقـد أعارني أغلب أعماله ودواوينه الشعرية، ومنها ” النبي – الأجنحة المتكسّـرة – وغيرهـا ” فيما كان أخوه الأصغر ” جميل حسين ” مولعـاً بكتابات المفكّـر الفرنسي ” جـان بول سارتـر ” وغيره من الكُـتّـاب أصحاب النزعـة الوجـودية، رغـم سِـنّه المبكِّـر .
فيما كان صديقنا ” عبد الزهـرة ﮔــــوزي ” مُـنشغلاً بالسيّـاب وبالشعر الحُـر،، وقـد سبقنا جميعـاً بنشرِ نتـاجه الشعري في الصُحف والمجلات العراقية . فيما كان صديقنـا الراحل ” منذر معـن سلطان التميمي ” فقد كان منشغلاً ” بالروايات التاريخية ” .
* أمّـا أصدقائنا من قطاع 37 ، فكان هـناك عائلة بيت ” حطـاب جـونة وإخوته – هاشم جونه ورضا جـونة وسعيد جـونة ” كان أغلبهـم من الشعراء الشعبييّـن، ومن ذوي النزعـة العروبية، وهم ينتمون إلى ” تيّـار المناضل النقابي هاشم علي محسن .
وكانت ” حديقة بيتـهم ” على الشارع الفاصل بين قطاعي 37 و 39 ، كانت ” منتدىً ثقافيّـاً ” بكل معنى الكلمة، فهـناك تسمع حديث السياسة والفكر والأدب والتاريخ النضالي ، وغيره من الأمور الفكرية – الثقافية .
وكنتُ ، في كل هذه الأماكن الثقافية، مُـستمعاً جيّـداً، ومركِّـزاً كل طاقتي لإستيعاب مـاهو جديد بالنسبةِ لفكري البسيط، وكانت تـداخلاتي، أغلبهـا عبارة عـن ” أسئلة ” كنتُ أطرحـهـا، كي أستفهـم ما استُعصي عليّ فهمه و على عقليتي البسيطة، لكني كنتُ سريع الحفظ والإفهـام، وأعي السؤال والجواب، وعـندما أعود إلى البيت، كنتُ أتـأَمّـل ما دار بتلك الحوارات والأسئلة، وأُدوّن بعضهـا في ” دفاتري البسيطة الخاصة ” وخصوصاص القصائد الشعرية الشعبية، والتي كنتُ أحبُّ سماعها، وأُمنّـي النفس بأن أكتب مثلهـا في يومٍ مـا .
* عــــام 1967 وانقـــــــلاب الرؤى !
في هذا العام كنت قد دخلت المرحلة المتوسطة في الدراسة، وأنـا في ذروة المراهـقة، فـقـد قُـبلت أوراقي في ” متوسِّـطة القناة للبنين ” الكائنة في منطقة شارع فلسطين، شرقي القناة، وفي هذه المتوسطة بـدأت أهـتم بالرسمِ والخط وكرة القدم وألعاب القـوى، حيث اشتركت ” برماية الرُمح ورمي الكرة الحديدية ” الـﮕـلة ” واشتركت ضمن فريق المدرسة لمجمل هذه الألعـاب الرياضية، وللمرة الأولى أحضر السباقات الرياضية في ” سـاحـة الكشّـافة ” .
* ثمة حـادثٍ تاريخي – سياسي ، قلب كيان الأمـة العربية، ألا وهـو ” إنتكاسة 5 حزيران 1967″ حيث هُـزمت القوات العربية لخمسِ دولٍ عربية أمام القوات الإسرائلية، وهذا الحدث عُـرف ، فيما بعـد ، بـإسم ” نكسة حـزيران ”
لم تكن آرائنا السياسية قـد نضجت بعـد، لكن وعينا الوطني والقومي، أخـذ يُـعلّـم بوجوده في عقولنا، ويحرّك نفوسنا، وصرنا نعرف بعض الأمور عـن القضية الفلسطينية ، وقد تحرّكت الجماهير في العراق، وعلت أصوات الناس في المظاهـرات، وانساقت وراءهـا جماهير الطلبة، في كافة أنحاء العراق، ودفعتني الأقـدار لأن أكون ضمن طـلائع هذه الحركات الطلابية المستعرة، فكنت أصوغ بعض الشعارات السياسية ، وبعض ( الردّات الشعبية ) لأُلهـب حماس الطلبة، دون وضوح آيديولوجي، سوى الرؤية الوطنية والدفاع عـن فلسطين، خارج كل الأطر السياسية في العراق، وكانت حكومة عبد الرحمن عـارف ، ضعيفة في ذلك الوقت، وعلى العموم، إستطعنا ، نحنُ الطلبة ، أن نُـخرج اغلب طلبة المدارس المتوسطة والثانوية في قطّـاع الرصافة من بغـداد، ونشركهـا في تلك المظاهـرات، وكنّـا نُـهـدد إدارات المدارس بشعار ” لـو اطّـلعونهم ، لو انكسّـر الجام ” وقد كسرنا أكثر من نافذة زُجاجية في المدارس، واستمرّت مظاهراتنا لمدة 3 أيّـام وأكثر، حتى أن الدولة فتحت ” باب التطوّع ” للدفاع عن فلسطين، ولكن هذه الدعـوات ، من لدن الحكومة كانت لـذرِّ الرماد في العيون، وتنفيس حالة الإحتقان الجماهيري .
* بـدأ الطلاّب يعرفونني بهيئتي وصوتي، والشعارات التي كنت أطلقهـا بصوتٍ جهـوري، ويُـردّدها بعدي الطلبة، حتى وقعت في ” حبائل الأحزاب السياسية” دون أن أدري، فقـد تحرّك نحوي بعض الطلاّب من ” إتحـاد الطلبة العـام في الجمهـورية العراقية ” دون أن أعلم مَـن هُـم، ولكن شعاراتهم التي كانوا يوصلونها لي، كي أُردِّدُهـا في الهـتافات، كانت قريبة من روحي، وما أن هـدأت هذه المظاهـرات، حتى لم أعـد أراهُـم، لأنهـم كانوا من خارج مدرستنا، أي ليسوا من طلاّبنا، لكنّ هذه المظاهرات كشفتني أمام زملائي الطلبة والمدرّسين في متوسطة القناة للبنين ، وكانت صفة ” الطـالب الـوطني ” كانت تُطلق عليّ ، وارتحتُ لهذا النعـت الذي يطلقونه علي .
* بـدأ الغليان الثوري يتصاعـد في روحي، بعـد هذه المظاهـرات ، ورحتُ أبحث عـن سبيلٍ يوصلني إلى فلسطين ، فاتصلت بالصديق ” عبد الزهـرة محسن ” وطرحت عليه فكرة ” الذهاب إلى السفارة الفلسطينية في شارع النضال في بغـداد / الرصافة، فاستحسن الفكرة، وفي اليوم التالي توجهـنا إلى سفارة فلسطين، ودخلنا على السفير مباشرة، وأخبرناه بأننـا نريد ” التطوّع في العمل الفدائي” ، فرحّـب بنـا ، وطلب منـّـا أن نُـقـدّم طلباً رسميـاً، فطلبنا منه أوراق رسمية بـذلك، وفق صيغـة مكتوبة عـندهم ، ووقعنـاهـا بإسمائنا ، وكان هـناك فقرة ختامية تقول ” وهذه الوثيقة مختومـة بـدمي ” بينما نحن وقّـعنا بقلم الحبر، فأشار إليهـا السفير ، ونبهـنا إلى ذلك، فما كان منّـا إلاّ أن قام كلّ منا بلكم أنفـه ، فسال الدم ووقعنا على العريضة أو الطلب أمامه ، فاستغرب السفير من ذلك الإقـدام وعلى هذه الجرأة ، ثم طلب منّـا ” الهـويات الشخصية ” فقدمتُ أنا ” هـوية الطالب ” وفيها تاريخ تولدي ، والذي فيه يظهر أني لم ابلغ الثامنة عشر من عمري حيث كنت 14 سنة، وكذلك صديقي عبد الزهـرة ، فكان هـو في 16 سنة، ثم طلب السفير ” موافقة خطية من الأهـل أو موافقة ولي الأمر” لأننا قُـصّـر ، من الناحية القانونية، ثم رأى الحيرة في وجـوهـنا، عندما قلنا له ، أن أهلنا لا يوافقوا مطلقاً ، عانقنا بشوق وحميمية وقال : يشرفنـا هذا الموقف منكم، فأنتم ” أبناء فلسطين ” وإنشاء الله سوف تكون فلسطين في قلوبكم، ولم تخذلوهـا ، وكفاكم فخراً في هـذا الموقف .
* كُـنّـا في هذه المرحلة الدراسية ” المتوسطة ” نـدرسُ كتاباً ، مُـقرّراً علينا من وزارة التربية، إسمهُ ” النصوص الأدبية ” وهو كتابٌ مدرسي أدبي ، مُـلحق بدروس اللّـغـة العربية ، كان يحتوي على نصوصٍ ودراسات تعريفية قصيرة، عـن تلك النصوص، يتوجّـب حفظهـا من قبلنا . وفي هذا الكتاب، تعرّفت على ” نصوص لشعراء الأرض المحتلّـة ” وهـم كلٍّ مـن : تـوفيق زيّـاد ومحمود درويش وسميح القاسم ، وللمرة الأولى أحفظ قصيدة محمود درويش ” سـجّل أنـا عربي ” أو ” بطاقة هـوية ” وشدّتني إليها هذه القصيدة بشكلٍ لافت ، وحفظتها سريعـاً، مع مقطوعاتٍ شعرية أخرى لـتوفيق زيّـاد وسميح القـاسم ، وصار هـؤلاء الشعراء الثلاث، بوصلةً ثقافية أطمح بأن أكون مثلهـم، أو أن ألتقـيهـم في حياتي، وقـد إلتقيتهـم بعـد سنواتٍ طويلة، في بلغاريا، حيث التقيت توفيق زيّـاد وسميح القاسم، فيما تعرفت على محمود درويش في دمشق، عقب خروجنا من بيروت عام 1982 .
* في كتاب ” النصوص الأدبية ” تعرّفنا على ” التيارات والمدارس الثقافية” وعلى روّادهـا وأسماء شعرائهـا، كما اطلعنا على بعض الإشارات للآداب العالمية، وخصوصاً كان هـناك ” نصّـاً قصيراً ” عـن شعر الإليـاذة ” لهـوميروس اليونـاني ، والشاهـنامة للفردوسي الفارسي وغيرهـم ، الأمر الذي ألهـبَ خيالاتنا الشعرية، وصرنا نحلم بكتابة نصوصٍ شعرية أو نثرية، تُـحـاكي هـذه ” المطولات الشعـرية ” عند اليونان أو سِـواهـم من بقية الشعوب .
وظلّـت إليـاذة هـوميروس، تُـداعب مخيلتي حتى عـام 2019 ، حينما انـدلعت ” إنتفاضة تشرين العراقية المجيدة، فكتبت ” الإليـاذة السومرية – أو الموّال السومـري ” وهي قصيدة طويلة تقع في ” 4444 ” بيتـاً من الشعر، إعتمدتُ فيهـا النظم الشعري الذي ينظم بـه ” المـوال الزهيري ” فكانت أطـول قصيدة شعبية عراقية تكتب في الشعر الشعبي العراقي ، وقـد أخذت مني سنتين في الكتابة، وسيـأتي الحديث عنهـا في مكانٍ آخر من هـذا الكتاب .
* كُـنّـا- في الصف الثاني المتوسط ، ندرس في ” علم الرياضيّـات ” النظريات الهـندسية ” مثل نظرية فيثـاغورس وغيرهـا من النظريات، وكان مُـدرّس هذه المـادة العلمية ، هـو الأستاذ فـاهـم قـاسم الصحّـاف ، ذو الميول اليسارية، وكان قـديراً بتدريس تلك المـادة، وذات مـرّة، بعـد أن أنهينا دراسة ” النظريات الهـندسية ” قال : الأسبوع القادم، سيكون لدينا إمتحاناً شهريّـاً، وتحديداً في : النظريات الهـندسية ” والذي يحصل على درجة 100% ، سـأهديه كتاب ” سلامة موسى – هـؤلاء علّـموني ” ليزيد من حماسنا في دراسة المـادة الرياضية، وكان يُـركّـز بنظراتهِ علينا ، نحنُ أبناء مدينة الثورة، وفي الأسبوع التالي أدّينا ذلك الإمتحان، وقد بذلت قصارى جُـهدي أن أحصل على الدرجة الكاملة، بغية الحصول على كتاب سلامة موسى أعـلاه، وعند تصليح أوراق الإمتحان كانت درجتي 97% ، فـدقّـقـتها جيداً وعرفت أن الأستاذ ” فاهم الصحّـاف ” قـد اختلط عليه الأمر فيما يخص ” إشارتي // و = ” فعرضتها عليه، وأقـرَّ بهـا، وصحح الدرجة إلى 100% ، وشكرني على ذلك التنبيه أولاً ، وثانيـاً على عـدم السكوت على الحق، وبعـد ذلك قلتُ لـه : عليك أن تفي بوعـدك نحوي ! قال : بماذا وعـدتُك ؟ قلت : كتاب سلامة موسى ” هـؤلاء علّـموني ” قال : غـداً سـأجلبه لك، وفعـلاً جاءني بـهِ ، وهـذا الكـتاب، وضعَ حَـدّاً لي في اختيار إهـتماماتي وتوجهـاتي الفكرية، فقـد فتح عقليتي على أشياء لم أكن أدركـهـا من قبل، حتى أني أنهيت قراءة الكتاب في يومي الخميس والجمعـة، وصارت كتابات سلامة موسى نبراسـأً تُضئ الطريق لي في تلك المرحلة القـلِـقة في حياتي وفي مُـراهقتي، فقـد وضعني هـذا الكتاب في الطريق الصحيح لتوجهـاتي الفكرية ، وقـد قـرأت واقتنيت كُـلّ مؤلفات سـلامة موسى، ولا أنكرُ أنّـه كـان قـد دفعني نحـو اليسـار بشكلٍ واضحٍ ، ومعه بـدأت مرحلة ” الشعور بالحريّـة ” تجتاح كياني، وأخذتُ أُدقّـق بأفعـالي وأقـوالي وممارساتي، وبـدأت أتخلّـص من سيطرة ” العـلاقـات البيطريركية – الأبوية ” فلم أسمح لأحـد من إخـوتي الكبار أن يرفع صوتـَهُ عليّ، أو يوجّـه الإهـانة لي، داخل البيت أو خـارجـه، وجعلتُ هـذا ” شـرطـاً ” في عـلاقاتي مع أهـلي وإخوتي ، وهـم أناسٌ أُمـيّـون ، لا يعرفون ذلك، بحكم تجربتهم الفلاحية وتربيتهم عليهـا، ولكني فرضتهـا فرضاً عليهـم * في شهـر أيلـول من عـام 1968 ، إنطلقت ” حركة يسارية ثورية ” مُـنشـقّـةٌ من الحزب الشيوعي العراقي، سُـمّـيت ” القـيادة المركزية ” وأعلنت ” الثـورة ” من أهـوار جنوب العراق، وكان لهـا صداهـا الثوري والإبـداعي على الحالة السياسية والفكرية في البلد، لا سيما وأن ” البعـث ” عـاد إلى السلطة، بشكل ” إنقـلاب عسكري” على حكومة عبد الرحمن عـارف، في 17 / تمـوز / 1968 م ، ولذلك إرتـأت هذه الحركة السياسية اليسارية، أن تنهـض بالواقع الثوري العراقي، متـأثِّـرةً بأفكار الثورة الكوبية، وأفكار اليسار في أمريكا اللاّتينية، وكسر حالة الخمول في الواقع اليساري العراقي، لا سيما وأن الحزب الشيوعي العراقي، بلجنته الركزية، قـد سادت بين أوساطهِ ” حـالة من الإنتهـازية واليمينية” ظهرت جليّـةً فيما يُـعرف بـ ” خـط آب التصفوي” في نهاية عـام 1964 ، ولذلك انشطر اليسار العراقي برُمّـتهِ إلى إنشطارٍ عـموديٍّ، وأغلبية الشباب الثوري في الحزب الشيوعي العراقي، مـالوا إلى هذه الإنتفـاضة في أهـوار العراق الجنوبية، وقـد التحق بهـا الثوريّـون من الشعراء والأدباء والعُـمّال والفـلاحين، وكان الشاعر ” مظفر النـواب” أحـد الملتحقين في هـذه الحركة، إضافة إلى اعضاء من اللجنة المركزية والمكتب السياسي من الحزب الشيوعي، وكان على رأسهم الشيوعي البـارز ” عـزيز الحـاج ” عضو المكتب السياسي للحزب، والعـائدِ تـوّاً من ” بـراغ ” لذلك انساق الكثير من أعضاء الحزب الشباب ، والتحقـوا بهذه الحركة الثورية . وقـد تعرّضت هذه الحركة إلى محاصرات قـويّـة من قبل اجهـزة القمع الفاشية في سلطة البعث، والعـائد إلى السلطة من جـديد، وقد حـدثت ” مجزرة الغـموﮔـة ” بتاريخ 1969 ، راح ضحيتـهـا لكثير من هـؤلاء الثوريين. وقـد إستطاع الكاتب السوري ” حيدر حيدر ” من أن يُـسطّـر أحداث هـذه المعركة، في عملٍ روائي مُـمـيّـز إسمه ” وليمـة لأعشاب البحر ” فيما سـطَّـر الشاعر العراقي المعروف ” مظفّـر النـواب ” تراجيديا هذا الحدث بقصيدة طويلة وملحمية إسمهـا ” حـﭽـام البريّـس ” وأصدرهـا بـديوانٍ خـاص ،وطبعت في بيروت عام 1970 . * 2 .
وقـد خلقت هذه القصيدة ردود فعلٍ إيجابية في الوسط الثقافي والسياسي بشكلٍ كبير ، وكُـنّـا نحنُ المراهقين الثورييّن الشباب، نسعى للحصول على هذه القصيدة، بكُـلِّ السُـبل، حتى وصلت إليـنا ” منسوخة باليـد، على أوراق الكاربون، وكُـنّـا نتسابق إلى حفظهـا، رغم طولهـا البالغ ( 160 بيتـاً من الشعر) .
*2 – عن هذه القصيدة راجع كتابنا ” مظفر النوّاب ” ذروة الإبداع في الشعر الشعبي العراقي .
وقد فتحت هذه القصيدة الشعبية، الآفاق الرحبة لنا، لنطّـلع على ” بـدايات الشعر الملحمي – الشعبي ” في العراق ، الأمر الذي سوف يـؤثّـر على الكثير من الشعراء الشعبيّين لأن ينحوا هذا المنحى، وكنتُ واحـداً منهـم،، حيث كتبت في سنوات المنفى الطويلة، قصيدة ملحمية حملت عـنوان ” جـــبت كــل العراق وجــــــــيت ” والتي تــقع في ( 1584 بيتـاً ) وسوف يـاتي الحديث عـنهـا فيما بعـد ، في هــذا الكِـتاب .
* كما ظهـرت قصيدة شعبية أخرى، جسّـدت هـذا الحدث، بشكلٍ رائع ، إسمهـا ” رمـدة الشمس ” وكان شاعرهـا الأستاذ جـودت التمـيمي ، حيث اجتاحت الوسط الثقافي والسياسي العراقي، بشكلٍ رهيب، ونُـسخت بخـط اليـد، وعلى أوراق الكـاربون، بآلاف النُـسخ، ووصلت إلينا في مدينة الثورة، كـون شاعرهـا من أبناء المدينة ، رغم أنـه لم يذكر إسمهُ عليهـا، وقـد إعتقـد الكثير من الشعراء والمتابعين بأن القصيدة تعـود إلى الشاعر مظفر النـوّاب ، نظراً لتقارب الأسلوب الشعري ورواية الأحـداث والتوجّـه الفكري ، كان مطلعـهـا يقول :
” رمـدة الشمس ومعصبات اعيـونـها بغـيم الكِـدر
رد للسَـلف ، خبُّـر زلمـــنا الماوصل منهـم خبـــر
هيمة ومساحي امعــﮕـطه ، مـﭼــتول من عـدهم بُـصر ” إلخ .
وقـد عكست هـاتين القصيدتين ” لمظفر النواب وجـودت التميمي ” التـأثير الواضح على شعراء نهاية الستينات وبـداية السبعينات من القرن المنصرم ، ووضعت ” الشعر الثوري ” العراقي، في مرتبة متقـدّمة، من باقي أبواب الشعر الشعبي في العراق .
* وتـداعيـاً لهـذه المعركة ” معركـة الغـموﮔـة ” والتي راح ضحيتـها المئات من الثوريين العراقيين، واعتقل منهم الكثير، لا سيما قيادات هذه الإنتفاضة الثورية، حيث تـم اعتقـال ” عـزيز الحـاج ” وتعرّض لأنواع التعذيب النفسي والجسدي ، على يـد المجرم ” نـاظم اكـزار ” مدير الأمن العـام، فـانهـار عزيز الحـاج، وفرض عليه أن يظهـر أمام عدسات التليفزيون العراقي، ويدلي بتصريحاتٍ مشينة ، أضرّت بالحركة الثورية تلك، فـانبرى لهذا السقوط ، الشاعر العراقي المعروف ” مجيد جـاسم الخيّـون ” وكتب قصيدةً عصماء سُمّيت بعنوانٍ لافــتٍ ” ـﭼــذاب الصدﮒ ـﭼــذاب ” وكانت واحدة من عيون الشعر الشعبي في العراق، وصارت وثيقة دامغـة ضد كل سياسي انتهـازي في العراق، وتـندرج هـذه القصيدة مع قصيدة مظفر النـوّاب ” الـبراءة ” .
وهذه القصائد السياسية، خلقت لـدينا وعيـاً سياسيّـاً وثقافيّـاً، أكثر من المؤلّـفات السياسية، لأنهـا ” تخاطب الناس على قـدرِ عقولـهـم ” وبِـلُـغتهم الشعبية البسيطة، فتحرّك سواكنهم، وتـداعب أخيلتهـم الثورية . وأصبح هذا الأدب الشعبي الملتزم، هـو الرافعـة السياسية والثقافية أكثر من الأدب الرسمي، ولـه تأثير أوسع، وهـذا الأمرُ إنعكسَ عليَّ بشكلٍ أكثر إيجابية، وبـدأ يُشكّـل ” الخزين الأول : لذاكرتي الثقافية والسياسية أيضاً ، والجميل في الأمر، أن هـذه القصائد الثورية، تجـد لهـا مكانـاً متميِّـزاً في روحي النازعـة نحـو التـمـرُّد .
* في هذه الفترة الممتدة من عام 1967 – 1970 ، كنت قـد أنهيت المرحلة المتوسطة ، وانتقلت إلى ” المدارس المسائية ” وسجلت إسمي في ” الثـانوية الجعفرية المسائية ” في مدينة الثورة، ومن ثم سُـمّيت ” ثانوية البُـحتري المسائية ” بغية كسب العيش في النهـار، ومواصلة الدراسة في المساء .
* في هـذه الثانوية الجعفرية ، الدراسة تكون مقابل ” مبلغ مـالي ” يدفع سـنويّـاً بحـدود ” 10 دنانير ” أو أكثر، قـد تقسّـط إلى قسطين في السنة، الأول في بداية الدوام ، والثاني في بداية النصف الثاني من العام الدراسي، وهذا يعني كل فصل بخمسة دنانير، فدفعت القسـط الأول، للسنة الدراسية 1969- 1970 ، ولم أستطع أن أدفع القسط الثاني ( 5 دنانير ) وكنت من الطلبة المتفوقين، فطلبت ” المساعـدة من إخوتي الكبار، فـاعتذروا عـن ذلك وقالو : ليس لدينا الإمكانية لإعـالة عـوائلنـا، فما كـان منّـي إلاّ أن أقـطع الدراسة مباشرة، وتوجهـت إلى ” آمرية قـوة الشرطة السيارة” والتي أعلنت عبر الصحف المحلية عـن حاجتهـا لمتطوعين للخدمة في شمال العراق، مقابل راتبٍ شهري يصل إلى ( 24 دينار عراقي ) فقدمت أوراقي في ربيع عام 1969م، وقبلت مباشرة أنـا و 1500 شخص آخر، وجمعونا في ” كلية الشرطة ببغـداد ” منطقة خلف السدة، وبعـد 3 أيام جمعونا في ” قـطـار خـاص ” وأرسلونـا إلى محافظة كركوك، حيث تتجـحـفل قوات لـواء الشرطة الثاني هـناك، لحماية الحـدود والمنشـآت النفطية، وكانت ” مدرسة قـتال الفرقة الثانية ” هي المركز التـدريبي للإعـداد الأولي في التدريبات العسكرية، ودام هذا المعسكر لـدة 4 أشهـر، تعلمنا فيهـا ” الضبط والربط العسكري ” واطلعنا على القوانين العسكرية، واستخدام السلاح نصف الآلي ” بندقية سيمنوف 7،62 ملم” وكان عـالم الحياة العسكرية، عـالماً جـديداً علينـا، بالنسبة لـنا نحن الشباب في تلك المرحلة، حيث بـدأنـا نعيش كل 10 أفراد في خيمة واحدة، وننـام على الأرض، وبدون أسرّة، سوى بطانية عسكرية واحـدة نفرشهـا وننـام عليهـا، كان هـذا العـالم العسكري تجربة قـوية لسقل الشخصية وتحمّـل الصعِـاب، واكتشاف ذوات الآخرين، من ضبّـاطٍ وأفـراد وغيرهـم ومن ثقافاتٍ مختلفة من جميع أنحاء العراق .
* كـركـوك ،مدينة متعـددة الأعراق والإثنيّـات، السيادة القومية فيهـا للتـركمان، ويليهـم الأكراد ثم العرب، وكانت سلطة البعث الفاشية، حين جاءت للسلطة عام 1968، كانت في توجهـاتهـا السياسية ” تعريب مـدينة كركوك ” وجعل السيادة السكانية فيهـا للعرب، ومن هـذا المنطلق، كانت دفعـتنا المذكورة للتـطوع في أفراد القوات المسلحة، الشرطة والجيش، وهي واحدة من هـذا التوجّـه، وقد شرعت الدولة العراقية بـإنشاء المُـدن الصغيرة على أطراف مدينة كركوك، وتوطين الجنود وأفراد الشرطة في هـذه المُـدن ، وإعـطائهم بعض الإمتيازات، منهـا : تـوزيع الـدور بالمجان، ورفع رواتبهـم ودرجاتهم العسكرية، وغيرهـا من الإمتيازات .
* حين تـوجهـت إلى كـركوك، لم أخبر أحداً من أفراد العائلة، سوى الوالـدة، وقلت لهـا بأني مسافر إلى البصرة لأبحث عـن عمـل، عندما رأتني أضع ” بعض غيارات الملابس الداخلية والكتب وأدوات الحلاقة وأشاء أخرى لا أتذكرهـا، وقـد تـواعـدتُ مع صديقٍ لي هـو ” عـدوان كـاظم الكناني ” وكان صديق المراهقة وحياة الشباب، وهـو الوحيد الذي اخبرتـه بأني ذاهب إلى العسكرية، فرافقني إلى مقر كليّـة الشرطة، وأوصيته أن يخبر أُمّـي بالحقيقة، بعـد ثلاثـة أيّـام ، ففعـل ذلك .
* في أوّل إسبوع، ونحن في مركز تـدريب مدرسة قتال الفرقة 2 ،كتبت رسالة إلى صديقي عـدوان كاظم، بواسطة أقلام حبر خـاص بالخـط العربي، وهي مجموعـة ” سِـلاّيات لقلم الحبر ” كان صديقي عـدوان ، قـد أهـداهـا لي، بعـد أن إشتراهـا من ” مخزن أورزدي باك ” في شارع الرشيد، حيث كان عـدوان من الخطّـاطين الرائعين الذين بـدؤا مرحلة الخـط معي، وقـد تميّـز بكتابة ” خــط النسخ ” فيما أتقنت أنـا ثلاثة خطـوط رئيسية في الخط العربي هي : خـط الرقعـة وخـط الثلث والخـط الديواني ” . بـدأت كتابة ” البسملة ” في تلك الرسالة، بـخـط الثِـلـث، ثم كتبت النص بخط الرقعـة، وكان يجلس إلى جنـبي مجموعـة من الأفـراد، وهـم يلاحظـون كيف أخـط تلك الرسالة بأسلوب فـنّي رائع، والوقت كان ربيعـاً، والشمس آيلة نحـو الغروب، وفي هـذه الأثـناء، كان رئيس عرفاء الوحدة يقوم بجولة تفقـدية على كل خيام المعسكر، فتـوقّـف عـندي، وهـو يشاهـد ما أكتب في تلك الرسالة بخطٍ جميل، ثم جلس إلى قربي، وأخذ يشاهـد بعينيه كيف أخـطُّ الكلمات، فقـال : مـا إسمُـك!؟ قـلت فـلان بن فـلان ، قـال : غـداً صباحـاً تـأتي معي، وهـذه الرسالة معـك، لأقـدّمك إلى آمر الفـوج، بغية أن يرى خـطّـك، ويُـعيّـنك كاتبـاً للـفـوج، وفعـلاً في اليوم التالي، ذهبنا إلى آمر الفـوج، وكان برتبة مقـدم ، وهـو من أهل الموصل ، أعتقد أن إسمه كان ” محمد صالح ” وعندما رأى خـطّـي، أثنى عليّ بشكلٍ جيّـد، وأصدر أمـراً إداريّـاً بتعيّـيني كاتبـاً للفـوج، وصدر ذلك الأمر في ” أوامر القسم الثـاني ” وتـم رفع إسمي من الواجبات اللّـيلية ، وصرت أداوم في مقر اللّـواء الثاني، والكائن في ” منطقة التسعين ” وكنت أذهب إلى مقر اللّـواء بعـد الساعتين الأولى من التـدريب الصباحي، وأذهب إلى هـناك لغرض التدريب على الشؤون الإدارية وأساليب الكتابة، وأمور الصادرة والواردة ، وقد كان نائب العريف ” إدريس محمد” من أهـل الموصل، وهـو كاتب في مقر اللّـواء، كان يشرف على تعليمي الأمور الإدارية والكتابية، بمختلف أشكالهـا، وقـد إستطعت أن أدرك كل هذه الأمور بشهـرٍ واحـدٍ، وبعـد ذلك طلبت من آمر الفـوج أن أبـدأ بتشكيل ” قـلم الفـوج ” والذي سميَ فيما بعـد ” ف11 ، ل2 شرطـة ” فوافق على ذلك ، واخترت 6 أشخاص من فوجنا، من ذوي النباهـة والخط الحسن، وبـدأت أعلّـمهم ” أسلوب الصادر والوارد، والحفظ وتنسيق الأوراق وفق أصولهـا وأوّلياتـها، حتى انتهـينا من فترة التدريب بمدة 3 أشهـر، ثم إنتقلنا إلى مقر الفـوج في ” منطقـة هـنجيرة ” لحراسة بئـر النفـط المعروف بإسم ” بـابـا ﮔــرﮔــر” ، والمكان منطقة جبلية تقع ما بين مركز مدينة كركوك ومنطقة ” الـدبس ” وهـناك بـدأت حياتـنا العسكرية ، بـإيقـاعٍ مختلف وجـديد، لم نـألفـه من قبل .
* عـند المساءات ، في هـذا المكان، كانت ” شُـعـلة الغـاز المحترق، والتي تبعـد عـن مقر الفـوج بحـدود 2 كم، تضئ سماء المكان،، وتُضفي عليه شئ من الشاعرية، لا سيما وقت الصيف، حيث كان الأفـراد يفرشون بطّـانيـاتهم بشكلٍ متقابل، ليجلسوا عليهـا، ويتنادمون فيما بينهـم بشعر الـدارمي ، وهـو الطاغي في تلك المجالس، كـون الأغلبية من المجنّـدين من أبناء الجنوب والفرات الأوسط من العراق، وكنت أقترب منهـم وأجالسهـم، وبدأت أُسجِّـل منهم أبيـات الـدارمي، والأبوذيّـات والمواويل، وأحفظ ذلك في ” دفـاتر خـاصة ” وحفظت الكثير منهـا على الغيب، ومن هـناك بـدأت رحلتي مع ” الـدارمي ” وفي الكتابة الشعرية، بـدأً من عـام 1970 م . ومنذ ذلك التأريخ وأنا أُركّـز على النواحي الشعرية، وأشكالِ نظهـا ، وجماليات صورهـا، ثم رحتُ أقتني دواوين الشعر والكتابا النقدية، وأُتـابع المجلات الدورية، مثل مجلة ” التراث الشعبي ” العراقية، ومجلة المـورد الفصلية، ومجلة العربي الكويتية، وفي إجـازاتي الدورية كل شهـر، كنت ألتقي بالشعراء والأدباء والمثقفين في مدينة الثورة ، وأتابع النشاطات الثقافية في بغـداد وفي مدينة الثورة، والتي كانت – وقتذاك – هي الشلعة التي لاتنطفي من وهـج الشعراء الشعبييّن، وقـد كان ” مـكوى التحرير ” هـو نقطة الجذب عـند أغلب شعراء المدينة، فتعرفت على الشاعر هـاشم مجلي، وعريان السيد خلف، وجمعة الحلفي، وكاظم إسماعيل الـﮔـاطع، ورياض النعماني وكريم العراقي، ثم تعرفت فيما بعـد على الشاعر شاكر السماوي عـن طريق صديقنا الشاعر رضا جـونـة.
* * * يتبع .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com