مجتمع

رحيل: مظفر النواب (1934 ـ 2022):

بيدر ميديا.."

رحيل: مظفر النواب (1934 ـ 2022):

 

بين مطاردات الأجهزة الأمنية داخل العراق وخارجه، وسجون نقرة السلمان والحلة والقضبان المختلفة، وحفر الأنفاق للخروج من المعتقل إلى الحرية، كانت حياة الشاعر العراقي مظفر النواب ترتسم باضطراد على خطوط التمرد الدائم والاحتجاج الصارخ وأحكام الإعدام والغربة والمنفى والتشرد، وكانت قصيدته تنهل من شجن اللغة العامية العراقية تارة، ومن الفصحى الملتهبة العاصفة والتحريضية تارة أخرى، في عواصم شتى لا تبدأ من بغداد ودمشق وبيروت ولا تنتهي في القاهرة وبنغازي وطهران وأثينا. وضمن مزيج كان استثنائياً من حيث العلاقة مع الملاين في طول العالم العربي، كانت قصيدته العاطفية والغزلية الرقيقة تمتزج مع قصيدته السياسية التفضيحية ذات المفردات المكشوفة والمقذعة أحياناً.
وقد تكون تجربة لجوء النواب إلى الأهوار، ضمن مجموعة شيوعية منشقة اختارت الكفاح المسلح، هي المعين الأخصب الذي شحذ مخيلته ولغته ومجازاته وأغراضه الشعرية، وعنها يقول: «التقيت هناك بمغنّين هم غرير وجويسم وسيد فالح، وقد ذهلت فعلاً بغنائهم. وتكشف لي عالم مهمل، لكنه مليء بالجمال ويمكن ان يسدّ حاجة كبيرة في إمكانيات الخلق لدي، كما لو وجدت طينة معجونة جيداً ومخمّرة جيداً لتصنع منها تمثالاً، عالم مختمر، بما فيه من الطين والماء والقصب، كنت أمام عجينة حية تماماً تنتظر احداً ممن لديه فهم للمعاصرة الشعرية الحديثة ليتنبه إليها وليشتغل على المادة الخام الهائلة التي لا تنضب منابعها». وفي سنة 1959 صدر قرار حكومي بإرجاع بعض الإقطاعيين إلى أملاكهم، وقُتل خلال الثورة فلاح ثائر يدعى صويحب، فكتب النواب قصيدته الشهيرة «مضايف هيل»، وفيها يقول: «مَيلن.. لا تنكَطن كحل فوكَ الدم/ مَيلن وردة الخزّامة تنكَط سم/ جرح صويحب بعطّابه ما يلتم/ لا تفرح ابدمنه لا يلگطاعي/ صويحب من يموت المنجل يداعي».
حياة النواب المضطرمة ومنافيه وإقاماته في كنف هذا النظام أو ذاك اقتضت سلسلة من المفارقات الناجمة عن تقلبات الموقف السياسي بصفة خاصة، لعلّ أكثرها مأساوية أنه رحل في مستشفى بالشارقة، الإمارات العربية المتحدة، هو الذي كتب مراراً يهجو حكامها ويطلق عليهم أشنع الصفات. مفارقات أخرى اتصلت بمواقفه من الغزو الأمريكي للعراق، أو مديح الخميني وحافظ الأسد؛ بل ذهب أحياناً إلى مضامين جلبت عليه شكوك الطائفية والانحياز الشيعي، كما في قصيدته «وتريات ليلية» حيث تسير إحدى فقراتها هكذا:
«ما زالت عورة عمرو بن العاص معاصرة/ وتقبّح وجه التاريخ/ مازال كتاب الله يُعلّق بالرمح العربية/ مازال أبو سفيان بلحيته الصفراء/ يؤلّب باسم اللاة/ ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها».
جان – لوك غودار (1930ـ 2022):

لا يجادل كثيرون في أنّ المخرج الفرنسي – السويسري جان – لوك غودار هو الرائد الأبرز في الحركة السينمائية الفرنسية النوعية التي انطلقت عند نهاية خمسينيات القرن الماضي وتواصلت ضمن صياغات مختلفة حتى نهايات الستينيات، وارتبطت عموماً بعدد من السينمائيين الفرنسيين الشباب أمثال فرنسوا تروفو وإريك رومر وجاك ريفيت وكلود شابرول، ممّن عزفوا عن التقاليد الكلاسيكية التي سادت أفلام فرنسا وهوليود، وذلك رغم تأثر بعض هؤلاء بالمدرسة الواقعية في السينما الإيطالية. كذلك اتسمت الموجة بانخراط واسع في الحركات السياسية والراديكالية ذات الطابع الاجتماعي والفكري الاحتجاجي، على غرار انتفاضة 1968 التي هزّت فرنسا.
أسلوبيات غودار المتفردة عديدة ومتنوعة، وقد تكون أبرزها إصراره على كاميرا متنقلة وقلقة ودائمة التحوّل، وكذلك تفتيت السردية الواحدة إلى شذرات تجعل سيناريو الفيلم يتقطع بدوره ضمن إيقاعات متسارعة، هذا فضلاً عن الرسائل السياسية التي احتشدت بها أفلامه وتضاعفت وتكثفت طبقاً لما تشهده فرنسا والعالم بأسره من وقائع ومتغيرات. وكان شريطه الروائي الأول «على آخر نَفَس»، 1960، بمثابة نذير مبكر وصارخ على ما ستصنعه مجموعة السينمائيين العاملين في إطار مجلة «دفاتر السينما»، التي سوف تحمل تسمية «الموجة الجديدة» وكان شابرول قد بشّر بها أيضاً في فيلمه «سيرج الجميل»، وكذلك فعل تروفو في «400 ضربة». وقد رأى الناقد السينمائي ريشارد برودي أنه بعد فيلم غودار الأول «بات كل شيء ممكناً في السينما، فالفيلم يتحرّك بسرعة الذهن فيبدو، لا كما يشبه أيّ شريط سابق عليه، تسجيلاً حياً لشخص واحد يفكّر في زمن فعلي». ولم يكن غريباً أن يترك الفيلم تأثيراً عميقاً على عشرات المخرجين، وبينهم كبار أمثال مارتن سكورسيزي.
بين أفلام غودار الشهيرة هنالك «إزدراء»، 1963، بطولة بريجيت باردو؛ و«عصابة غرباء»، 1964، بطولة سامي فراي؛ و«ألفافيل»، الذي كان رائداً في مقاربة الخيال العلمي لدى الموجة الجديدة، ولعب فيه إدي كونستانتين دور محقق أمريكي؛ و«بييرو المجنون»، السنة ذاتها، وضمن إطار استكمال التعاون مع الممثل الفرنسي جان – بيير بلموندو. وتجدر الإشارة إلى أنّ غودار أنجز، من العاصمة الأردنية عمّان مطلع السبعينيات، شريطه «حتى النصر»، الذي سيصبح عنوانه «هنا وهناك»، حول الفدائيين الفلسطينيين؛ كما أشرك محمود درويش في شريطه «موسيقانا»، 2004، صحبة الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي بيير بيرغونيو وممثلين عن أقوام أمريكا الأصليين، وكانت مدينة سراييفو بمثابة مسرح لإعادة تدقيق التاريخ في مراحل ثلاث تستلهم دانتي: الجحيم، المطهر، والفردوس.
إرين باباس (1929 ـ 2022):

حين لعبت دور هند بنت عتبة في النسخة الإنكليزية من شريط مصطفى العقاد «الرسالة»، 1976؛ ودور مبروكة في شريطه الثاني «أسد الصحراء»، 1981؛ كانت الممثلة اليونانية إرين باباس تتابع تقليداً راسخاً في أداء أدوار رفيعة لنساء فريدات، خاصة حين يريدها مخرجو السينما أن تجسّد الشخصيات الأبرز والأعقد تمثيلاً في التراجيديات الإغريقية: «أنتيغون»، 1961؛ «إلكترا»، 1962؛ «فيدرا»، 1967؛ «إفغينيا»، 1977، «الطرواديات»، 1971؛ إلى جانب الليدي مكبث، كي لا يغيب مسرح شكسبير عن لائحة أعمالها، أو والدة أنجيلا في «وقائع موت معلن» كي يحضر غابرييل غارسيا ماركيز. لكنّ باباس، التي يتردد أنّ المخرج الأمريكي إيليا كازان اكتشفها خلال رحلة قامت بها إلى الولايات المتحدة سنة 1954، سوف تستقطب سينما هوليود لتلمع بقوّة في فيلم «مدافع نافارون»، 1961، حيث ستلعب دور المقاتلة اليونانية ماريا التي لن تتردد في إعدام امرأة متعاملة مع النازية، إزاء ترّد رجال أشداء (غريغوري بيك ودافيد نيفن وأنتوني كوين) في تنفيذ الأمر.
أدوار خالدة أخرى تجسدت في شريط مايكل كاكويانيس «زوربا اليوناني» حيث لعبت باباس دور أرملة يونانية عاشقة تُرجم بالحجارة بسبب عشقها؛ وفي شريط كوستا غافراس «Z»، وتكون فيه زوجة الناشط والسياسي الذي تغتاله أجهزة الأمن اليونانية خلال تجمع شعبي؛ ومسلسل «الأوديسة»، حيث تؤدي دور أنتيكليا. كذلك أتحفت باباس عشاق الموسيقى، والقصيدة الرثائية اليونانية، بألبومَيْن لقيا الكثير من النجاح: «أناشيد»، 1979، وتستلهم الأغاني الفولكلورية اليونانية؛ و«رابسوديات»، 1986، مستوحاة من الألحان الكنسية وتراتيل الرهبان؛ وكلا الألبومين بالتعاون مع الموسيقار اليوناني فانجيليس. وعلى امتداد ستة عقود من العمل في السينما، وحصيلة 60 فيلماً وعدد كبير من أعمال المسرح، نافست باباس كبار النجوم أمثال ريشارد برتون وكيرك دوغلاس، وكانت مع مواطنتها ميلينا ميركوري الأشهر عالمياً بين نجوم اليونان.
واتخذت باباس مواقف سياسية معارضة وشجاعة ضد النظام الانقلابي العسكري في بلادها، وخلال مؤتمر صحفي في روما سنة 1967 أعلنت أنها رفضت تمثيل فيلم على أرض اليونان مع أورسون ولز احتجاجاً على قرار السلطات الانقلابية منع تمثيل بعض مسرحيات سوفوكليس وأرستوفانيس ويوربيديس لأنّ المؤلف الموسيقي في تلك المسرحيات كان ميكيس ثيودوراكيس، أبرز ممثلي اليسار اليوناني في الفنون.a

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com