مجتمع

برمجية سحرية للسرد العربي.

بيدر ميديا.."

برمجية سحرية للسرد العربي

سعيد يقطين

 

كلما برز وسيط جديد كان له أثره البالغ على الإبداع والتلقي أيا كانت الأشكال والأجناس. مع الثورة الرقمية اخترعت البرمجيات التي صار بالإمكان توظيفها في مختلف مجالات الحياة، ومن بينها إنتاج السرد ليتم تلقيه عبر الوسيط الرقمي، وليس غيره من الوسائط.
أقسم هذه البرمجيات، التي ما تزال غير قادرة على النطق باللغة العربية إلى قسمين كبيرين: تحويلية وتوليدية. أما التحويلية فنجدها في ما تتيحه لمستعمل الوسيط الرقمي من إمكانية تحويل النص (وورد) إلى صورة (بدف) مثلا، أو العكس، أو تحويل النص المكتوب إلى مقروء، أو العكس، أو تحويله من لغة إلى لغة أخرى، وما شابه هذا من التحويلات المتعددة والمختلفة.
أما البرمجيات التوليدية فتكمن ميزتها في إقدامها على إنشاء منصات رقمية تسمح باستثمارها لإعداد مواقع أو مدونات، أو لإنشاء قوالب للعمل التربوي، أو إبداع النص الأدبي، خاصة السردي، وما يتطلبه من تقنيات ومواد يتصرف فيها المبدع لإنشاء العوالم السردية التي يرغب فيها مثل المسرد ( Storyspace) أو البرمجيات المولدة للنصوص (Générateur ).
لا جرم في أن هذه الوسائط وما تتضمنه من برمجيات تسهم في خلق تجارب جديدة على المستوى التقني، لتحقيق الإنتاج والتلقي المتلائمين مع إمكانات، وضرورات هذا الوسيط الرقمي. لكن الخيال السردي، وضمنه العقل السردي، يظل إنسانيا وموحدا. قد تمكنه بعض هذه الوسائط المختلفة بما لا توفره له أخريات، لكنها لا تؤثر بشكل كبير، أو جوهري، على قدرته على التخييل الدائم والمستمر، بما لا يخرج عما هو مشترك في كل الثقافات البشرية، مما يدل على أن هذا الخيال وذاك العقل يتكيفان مع ما يتيحه الوسيط الجديد فيؤدي إلى إنتاج سرد بملامح إنسانية عامة، وإن كانت تنطبع بما يجعلها متلائمة مع الوسيط الجديد.
إذا ربطنا البرمجيات بنوعيها، وما يتضمنه كل منها من أنواع فرعية، بسيطة أو مركبة، بالثورة الرقمية، أنى لنا الحديث عن برمجية «سحرية» تسهم في إنتاج السرد العربي؟ فهل الأمر مجرد استعارة، لما هو سحري في أي برمجية؟ وإذا كان كذلك، وهو ليس كذلك، كيف يمكن ربط برمجية سحرية بالسرد العربي، ونحن نؤكد أن البرمجيات لا تتكلم العربية؟ إن تمييزنا بين برمجية رقمية، وأخرى «سحرية» يكمن في أن اللغة التي توظفها أي برمجية، لا علاقة لها باللغة التي نعرف.

لقد استغل الراوي الشعبي هذه التقنية، بعد أن أضاع الحكيم الدمرياط محفظته السحرية النادرة. ولو علم بها لمات من الغيظ. لكن الحكيمة أخبرت الملك سيف بالحصول على صندوق العجائب، وإدخال الدمرياط فيه ريثما يتم القضاء على من سرق المحفظة.

لغة البرمجيات تقنية ورمزية، وخاضعة لخوارزميات لا يتقنها سوى علماء ومهندسي المعلوميات، أو «أرباب علوم الأقلام». كلنا نعرف جيدا علماء المعلوميات. فمن هم «علماء الأقلام»؟ إنهم ببساطة الحكماء والسحرة في الثقافات ما قبل الحديثة. إنهم يمتلكون معرفة خاصة بالطبيعة، وعلاقاتها بالإنسان، وبالكون في مختلف تجلياته. إنهم يسخرون الجن لقضاء مآربهم، وهم ينتجون خطابات بلغات ورموز لا يعلمها إلا هم، وبواسطتها يتحكمون في الأشياء. لقد كان علماء الأقلام، يحققون، كما يصورهم لنا الخيال الذي وصلنا عبر التاريخ، ما يتحقق في عالم التكنولوجيا الجديدة حاليا: يطيرون في الهواء، يمشون على الماء، يتوقعون ما يجري في عالم الغيب، يسخّرون الجن للقيام بالأفعال الخارقة، وغيرها من الأعمال، لذلك لا غرابة أن نجد ما ينتج من سرد في السينما والرواية الفوق طبيعية، والفانتازيا، وروايات الخيال العلمي، وغيرها، ما يجعلها تترابط مع ما تقدمه لنا النصوص الخيالية في الثقافات الإنسانية القديمة، لكن التشابه لا يقف عند هذا الحد. إن البرمجية السحرية العربية ليست فقط تحويلية: مسخ الكائنات، مثلا. لكنها توليدية للسرد أيضا.
في ذخيرة العجائب العربية نجد «صندوق العجائب» اصطنع هذا الصندوق حكيم من الهند، وكل من دخله ولو لمدة ساعة، ويتم إخراجه منه، يحكي لنا قصته التي وقعت له، وهو في الصندوق، وكأنه عاش سنوات كثيرة. يتعجب الملك سيف من هذا الصندوق، ويجربه على مسابق العيار، وعلى غيره، فيحكي كل واحد منهم قصة تتلاءم مع شخصيته. فإذا كان فارسا، عاش قصة فروسية، وكذلك الأمر إذا كان عاشقا، وقس على ذلك. وكل من يتم إخراجه من الصندوق، يتمنى لو أنهم يرجعونه ليعيش حياة أخرى في ذلك الصندوق العجيب.
لقد استغل الراوي الشعبي هذه التقنية، بعد أن أضاع الحكيم الدمرياط محفظته السحرية النادرة. ولو علم بها لمات من الغيظ. لكن الحكيمة أخبرت الملك سيف بالحصول على صندوق العجائب، وإدخال الدمرياط فيه ريثما يتم القضاء على من سرق المحفظة. وقبل إدخال الدمرياط في الصندوق، قرر الملك سيف تجريبه على بعض الشخصيات، فتولدت لكل منها قصة عجيبة وغريبة خاصة. إننا فعلا أمام مولد سردي أنجز بعلوم الأقلام، وعندما سأل الملك سيف عما في الصندوق؟ أخبرته أن الجن الموكلين به يخلقون مختلف شروط الحياة من مأكل ومشرب، وفضاءات، وأزمنة، وشخصيات يعيش معها الشخص الذي يدخل الصندوق، وكأنه يعيش حياة «طبيعية» لا تختلف عن نمط الحياة التي يعيشها: يتزوج، يلد، يحارب، ينتصر تارة، وينهزم أخرى.
لا تختلف البرمجية التوليدية السحرية عن نظيرتها الرقمية إلا في أنها سحرية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com