متفرقات

«ولا غالب» لعبد الوهاب الحمادي… التاريخ و«تراجيديا العود الأبدي»

بيدر ميديا.."

«ولا غالب» لعبد الوهاب الحمادي… التاريخ و«تراجيديا العود الأبدي»

واسيني الأعرج

 

شاءت الصدف أن أقرأ بعض روايات الروائي المميز عبد الوهاب الحمادي، من خلال مشاركتي في تقييم بعض جوائز الدولة الكويتية، كمحكّم خارجي، هناك تعرفت على الثالوث الروائي الكويتي الذي يصنع اليوم قوتها: عبد الوهاب الحمادي، بثينة العيسى، وسعود السّنعوسي. وفي كل مرة كان هذا الثالوث يضعني أمام حيرة تحكيمية كبيرة، نظراً لتقارب التجارب وتداخل مستوياتها، لكنه كان يفرحني أيضاً، لأن ذلك يتساوق مع جهود صديقي المرحوم الروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، الذي كان دوماً يسعى لأن ترى هذه التجارب نوراً أعم من الكويت، نحو العالم العربي والعالمية. كان يحلم بجيل جديد، يجعل من الرواية لا وسيلة دعائية، بل يجعلها هاجساً إبداعياً أساسياً، وانشغالاً اجتماعياً في كويت يعاني ما تعاني منه المجتمعات العربية، من مشكلات بنيوية عميقة. يحتاج ذلك إلى جرأة أكبر، تتوافر في الأجيال الجديدة التي سارت في المسالك الإبداعية والنقدية البناءة والمغامرة الفنية الفكرية المرتبطة بزمانها. أستطيع اليوم أن أقول إن إسماعيل كان محقّاً في رهاناته.
قرأت أعمال عبد الوهاب الحمادي الروائية الأربعة. الأمر الذي كوّن لدي اليقين الكبير، أننا أمام تجربة حية، ناضجة ومغامرة فنياً، أي غير مكتفية بالموجود عربياً والمتداوَل. توقفت كثيراً أمام «الطير الأبابيل» (2012) وأعجبت بـ «لا تقصص رؤياك» (2014) وأخيراً «لا غالب» (2020)، التي دفعت بي نحو مغاور الرواية الأولى لعبد الوهاب. شيء ما قادني جهة «دروب أندلسية» (2011) قبل قراءة «ولا غالب»، الأمر الذي أخر كتابتي عنها. فقد شعرت في لحظة ما من اللحظات بوجود أنفاس الرواية الأولى في الأخيرة، ليس موضوعة الأندلس، فهذا مفروغ منه، ولكن الرؤية التي اعتمدها الكاتب سابقاً وكيف أعاد النظر فيها لاحقاً أو أخضعها للرؤية النقدية من خلال التساؤل الحاضر دوماً: على الرغم من أنها من بواكير الكاتب، فإنه استطاع أن يمنح التاريخ متنفساً آخر باستعادة شخصيات صنعت مجداً أندلسياً لم يعد اليوم إلا ذاكرة منزلقة، هاربة، تثير الفخر والإعجاب، ولكنها لا تغير شيئاً في الحالة المعيشة. قام صقر قريش بفعل ما كان يجب عليه فعله في زمانه، لكنه انسحب آخذاً تاريخه معه ولم يترك لنا إلا ظلال الذاكرة. وعلى الإيقاع نفسه، يحضر ابن زيدون وهو يبحث في وهمه الجميل في ولادة. شعر وحبّ وفراق، ثم ظلمة لا من يرفعها عن المرأة اليوم. جعلنا عبد الوهاب نسمع سنابك الخيل دون أن تغير أصداءها في هزائمنا اليوم. لا تنفع فيها بكائية اعتماد وهي تستحضر مخاوف الحروب. ماذا بقي من أحزان بني الأحمر سوى المعلم الذي ينام على رأس هضبة صنعت تاريخاً، ثم انطفأت وكأن شيئاً لم يكن. تاريخ عظيم كان، لكنه أخفق في أن يستمر. كل تلك التفاصيل المليئة بالمرويات تعود في الرواية الجديدة «ولا غالب» محملة بالإشارات النقدية التي تريد تاريخاً آخر غير الذي نتداوله عاطفياً بوصفه التاريخ الأسلم. لا تكفي المرويات التاريخية التي تمنح الراحة والإعجاب لأنها لا تغير في الأمر شيئاً. الهزائم مستمرة في الحياة اليومية للعربي، يشربها في كأس القهوة الصباحية، وينام عليها بكثير من الحزن والسكينة، حتى تسطّح كل شيء ليصبح عادياً ومستساغاً، ولا يثير التعجب.
اعتمدت الرواية على أربع شخصيات في حالة تنقل أو سفر، أدت الأدوار الأساسية في الرواية. يسافرون من الكويت، ولكل واحد منهم هزيمته الحميمية: طبيب لم يعرف من التاريخ سوى ما روته عليه حبيبته التي توفيت بسبب نقص الأدوية بسبب الغزو العراقي، ورجل دين بلغ من العمر عتياً ما يزال يعيش على وهم تحويل وجهة المسيحيين باتجاه الإسلام، وكأن ذلك يغير من وضع الحال؟ الثالث فهو إعلامي متصلب في قوميته وعروبته. وأما الرابع فهو السائق الفلسطيني الذي يكلف بتنظيم الرحلة، معجب بصدام حسين، لا شيء يجمع بينهم لا في الفكر ولا في المعتقد ولا في الممارسة الحياتية، سوى كونهم ضحايا لآلة قاتلة اسمها الغزو. غزو الكويت الذي أحدث في كل واحد منهم فجوة عميقة وثقيلة. الطبيب يعيش حالة الفقد بشكل تراجيدي بسبب أن حبيبته ماتت لغياب الدواء. الداعية الديني عاش عن قرب، كشاهد عيان، اقتحام الجنود العراقيين للقصر الأميري. أما الإذاعي والإعلامي فقد وضعته النقاشات الثقافية خارج المدار، فخسر جزءاً كبيراً من النخبة التي حملته فوق رأسها. أما الفلسطيني فهو الضحية المثالية والسهلة، فقد طرد وأسرته من الكويت بعد أن اتهم والعائلة بالخيانة ومناصرة صدام. لا شيء يجمعهم سوى كونهم شخصيات مهزومة أمام أوضاع تجاوزتهم كلياً. ولحظة السفر الجماعية إلى غرناطة، نحو الفردوس الافتراضي، هي هرب بحثاً عن منقذ تأملي في السفر كما حدث في رواية «على الطريق» للكاتب الأمريكي كيرواك. ليس الهرب نحو النموذج التاريخي «الأسمى» غرناطة، فعلاً اعتباطياً نحو الفردوس المفقود الذي صنعه الخطاب الذي لم يبق منه اليوم الشيء الكثير. هناك رغبة مبطنة كبيرة في الرواية تقود نحو حلم نسيان الماضي القريب (الإجرامي) باتجاه التاريخ البعيد الذي يشكل لحظة نور يمكن من خلال نسيان مآسي حاضر ينهار ويتكسر باستمرار.
يستعمل عبد الوهاب خاصية الزمن الخرافي والافتراضي، كما في أفلام الخيال العلمي، فيقذف بأبطاله الأربعة في فتحة سحرية ترميهم بالضبط في زمن سقوط غرناطة القلق، وهم يقفون في بلاط محمد الصغير (أبو عبد الله) ينتظر تحقق نبوءة الحصار التي تقول بانسحاب الملوك الكاثوليك تحت قيادة الملكة إيزابيلا. ماذا لو… تصدق النبوة ويسقط الحصار؟ فتعود حسابات المال والسلطة والغنائم والنساء، وتعود ريما إلى عادتها القديمة، بدل البراغماتية وسجالية العقل الحي المنتج للفعل المقاوم. لم تكن العين قادرة على تأمل التمزقات الحاصلة في الجسد الإسلامي التي فتحت ملوك الطوائف كل بواباتها القاتلة التي دمرت النسيج المجتمعي المتنوع. الهزائم لم تأت من قوة الآخر، ولكن من الهزيمة المستدامة للأنا. حلم عدم سقوط غرناطة لم يزرع الأمل بقدر ما أعاد عقلية الهزيمة إلى الواجهة بشكل جشع أكثر، وأشد قبحاً».
اعتمد عبد الوهاب على كثير من آليات الرواية الكلاسيكية، من توصيفه للتاريخ، والمراسلات، وسردية يتداخل فيها التاريخي والحاضر حيث يبدو التاريخ حاضراً والحاضر تاريخاً. وما تولدت عن هذا التاريخ من حروب الإخوة كما لو أننا كنا في زمن ملوك الطوائف حيث كل شيء يعاد من جديد، أو ما يسمه نيتشه «العود الأبدي»، حيث الانهيارات الكبرى التي تجد صداها في التاريخ البعيد، ويكاد الأمر يتم من خلال نفس الفاعلين سوى الأسماء؛ هي التي تتبدل والأماكن. عزو الكويت، سقوط بغداد، تدمير دمشق، اهتزاز القاهرة، في أي شيء تختلف عن سقوط غرناطة؟ نفس تواطؤ الإخوة، نفس العقل الحاكم الذي لم يتعلم شيئاً من التاريخ العام والشخصي وكأن ذلك «لا يحدث إلا للآخرين» كما يقول المثل الفرنسي. التاريخ هو ولا أحد غيره، يبدأ منه وإليه المنتهى. وكأن رواية «ولا غالب» تريد أن تقول إنه لا يمكن بناء حضارة خارج التراكم الإيجابي. الجديد ينبع من الحاضر، ولكن من الماضي الذي يكون قد غربل وانتقدت مساراته واحتفظ بجانبه الحي.
وتعود صرخة طارق بن زياد، فأين المفر؟ ربما في الثورات العربي التي تنتهي الرحلة إليها؟ هي نفسها كانت صناعة في جزء كبير منها، واقتيد العربي الحالم كمن يقاد نحو مذبحة. أهو الكابوس الذي لا منقذ منه إلا يد غادة النائمة في السماء؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com