مقالات

المسرح الروسي المبكر

آرخانغلسكايا أ.ڤ.

ترجمة: د. تحسين رزاق عزيز

يحدد الباحثون خمسة أنواع من المسرح في العصور الوسطى: هي المسرح الشعبي والكنسي الديني ومسرح البلاط الحكومي والمسرح التعليمي المدرسي (ظهر في القرن الثاني عشر في مدارس الفرع الأدبي في أوربا الغربية وكان في بداية الأمر ذا طابعاً تربوياً تعليمياً يتوخى تعليم الطلاب اللغة اللاتينية بصورة أفضل وعرض قصص الكتاب المقدس وما إلى ذلك، وفي القرن السادس عشر صار المسرح المدرسي يستعمل لأغراض سياسية ودينية) وأخيراً مسرح عامة الناس (الجمهور).

أول هذه الأنواع المسرح الشعبي , كان معروفاً في روسيا بصورة جيدة لكنه من الناحية التقليدية كان موضع اهتمام المتخصصين بالفلكلور والتراث الشعبي ولم ينل اهتمام مؤرخي الأدب. والثاني هو الكنسي , كان شائعاً بشكل كبير في التقاليد الأوربية الغربية (الكاثوليكية) لكنه لم  ينل اعترافاً في الثقافة الأرثوذوكسية.

أما مسرح الجمهور أو العامة فقد ظهر في روسيا بمبادرة من القيصر بطرس الأكبر المعروف بإصلاحاته ومحاولته محاكاة أوربا في النواحي العلمية والثقافية، واشتهر هذا النوع من المسرح منذ بداية القرن الثامن عشر ,  وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر تعرَّف المشاهدون الروس على مسرح البلاط والمسرح المدرسي.

وأرّخ  الباحثون الروس  بداية مسرح البلاط في 17 تشرين الأول عام 1672 عندما أخرج مسرح “معبد الكوميديا” المشيد خصيصاً في قرية بويابروجينسكي مسرحية “عمل أحشويروش” التي يستند مضمونها على سفر “إستير” في الكتاب المقدس الذي يتحدث عن الحسناء الوديعة إستير التي أثارت بلطفها اهتمام الملك الفارسي احشويروش وصارت زوجة له وأنقذت شعبها من الاضطهاد , مؤلف المسرحية المعلم يوهان  غوتفريد غريغوري قس الكنيسة اللوثرية في الحي الألماني , وقد كُتِبَت المسرحية شعراً باللغة الألمانية و بأمر من السفير نقلها المترجمون إلى اللغة الروسية ومن ثم قام بأداء أدوارها ممثلون ألمان من تلاميذ مدرسة غريغوري باللغة الروسية , وكان النص الروسي لمسرحية “قصة احشويروش” قد كُتِب بعضه شعراً والبعض الآخر نثراً لكن تُلاحظ في الكثير من أجزاءه آثار النثر الإيقاعي.

إن مضمون “سفر إستير” من الكتاب المقدس كان مشهوراً في أدبيات القرون الوسطى وعكس للجمهور دسائس حياة البلاط الروسي المعروفة له , فهذا السفر من الكتاب المقدس يتحدث عن عقاب هامان المحظي لدى الملك أحشويروش الممتعض من التبجيل الذي يجب أن يكون للرب فقط وصعود مردخاي المتواضع والوديع وكشف المؤامرة وإنقاذ حياة أحشويروش , وقد أشار الباحثون مراراً إلى أن اختيار مضمون المسرحية الأولى في مسرح البلاط لم يكن قط بسبب الشهرة الكبيرة والإثارة في “سفر إستير” بل أملاه الموقف الذي جرى في بلاط اليكسي ميخائيلوفيتش عندما تزوج القيصر من نتاليا كيريلوفنا ناريشكينا، وشغل مربيها أرتامون سيرغييفيتش ماتفييف الموقع الأول في القصر وفي إدارة الدولة.

وقد أشار الباحثون إلى تنوع مسرحيات مسرح البلاط الروسي , إذ أُعِدَّتْ عدة مواضيع من الكتاب المقدس مثل “جوديث” بطلة العهد القديم التي قَتلت الوثني هولوفيرن قائد القوات في المدينة التي ولدت فيها، و”كوميديا أدم وحواء الحزينة” و”كوميديا داود وجالوت”، و”كوميديا طوبيا الأصغر” , إضافة لذلك تصادفنا مسرحيات تاريخية مثل “قصة تيمور أكساكوف” التي تتحدث عن تيمورلنغ الذي انتصر على السلطان بايزيد العثماني ومسرحيات المناقب “مسرحية إيغور الشجاع” والمسرحيات الميثالوجية القديمة (مسرحية “ياخوس وفينوس ” وباليه “أورفيوس”).

ويجب أن نتوقف عند العمل الأخير “أورفيوس” بنوع من التفصيل فقد عرض هذا البالية على المسرح التابع لقصر القيصر اليكسي ميخائيلوفيتش في عام 1673، واستند هذا العمل على الباليه الألماني “أورفيدوس ويوريديس” الذي قدم في عام 1638 في دريدسن بكلمات أوغست بوخنر وموسيقى هاينرش شوتز ويحتمل أن تكون الموسيقى أخرى في العرض الروسي , وللأسف فُقِدَ نص المسرحية الروسي , وتعرفنا على العرض من خلال كتابات ياكوف ريتنفيلس الذي حل في موسكو للفترة من 1671-1673 ونشر في عام 1680 كتاب “أحوال أهالي موسكو” .

وكانت جوقة الرعاة والحوريات في العرض الألماني هي التي غنت نشيد الترحاب بالأمير وزوجته، أما في الباليه الذي عُرض في موسكو فقد غنى نشيد الترحاب بالقيصر أورفيوس نفسه قبل بدء الرقص , وصار إخراج مسرحية موسيقية على المسرح الروسي حدثاً مهماً إذ ان القيصر اليكسي ميخائيلوفيتش لم يحب الموسيقى غير الدينية وعارض في البداية إدخالها في المسرحية , لكن في النهاية كان عليه أن يُقر بضرورة الموسيقى في العمل المسرحي.

كانت المسرحيات الأُوَل في مسرح البلاط الروسي جديدة وغير معروفة للقارئ والمتفرج علاقتها بالماضي , فإذا كان في السابق يجري الحديث عن أحداث العصور الغابرة من خلال الحكايات فحسب صارت تلك الاصوات تُعرَض وتُصَوَّر وتعود إلى الحياة من جديد. ولكي يتعرف المشاهد على خصوصيات هذا الزمن”الفني الحالي” في “قصة أحشويروش” تم إقحام شخصية معينة في العمل هو- مامورزا (خطيب الملوك). وبمساعدة مفهوم “المجد” الروسي التقليدي القديم الذي طالما ارتبط بفكرة خلود الماضي كان ما مورزا يوضح للجمهور الراقي كيف يمكن إحياء الماضي على خشبة المسرح.

تبدأ “قصة أحشويروش” بمقدمة تهدف ليس إلى عرض مضمون المسرحية الطويلة فحسب بل إلى تعريف الجمهور على خصائص الفن المسرحي بصورة عامة , يسعى مامورزا الذي  يتلو المقدمة إلى إلغاء  الحدود بين الماضي والحاضر , إذ لا يقف القيصر اليكسي ميخائيلوفيتش وحده شاهداً على الأحداث التي جرت  قبل ألفي سنة بل حتى الملك أحشويروش نفسه.

ولا بد من الإشارة إلى أن ارتقاء اليكسي ميخائيلوفيتش العرش في عام 1645 صار علامة  بارزة في حياة موسكو الثقافية بما فيها بعث الروح في الحياة المسرحية من خلال تقديم الأعمال اليونانية القديمة. وهكذا نلاحظ أن في أساس جميع أعمال المسرح الروسي الأول كانت مضامين تاريخية لكنها لم تك حكايات عن الماضي وكتابات مألوفة لقراء الكتاب المقدس وروايات لسجلات الأحداث , بل كانت عرضاً للماضي وتجسيداً مرئي له وبعث خاص له , فها هو الملك أحشويروش في منولوج داخلي له في المسرحية يردد كلمة “الآن” ثلاث مرات، إذ انه وجميع الشخصيات”المحجوزة في توابيتها” يعيشون “الآن” على خشبة المسرح ويتكلمون ويتحركون ويعاقَبون ويُعفى عنهم ويحزنون ويفرحون , ويبدو أن الماضي يمكن أن يُعرض ويحيى ويُصَوَّر وكأنه حاضر لا أن يُقتصر عليه في الروايات والحكايات فقط. فالمسرح يقتلع المشاهد من الواقع وينتقل به إلى عالم خاص , عالم الفن وعالم التاريخ المنبعث من جديد.

لم يكن سهلاً التعود على شروط المسرح وإتقانها , وهذا ما تتحدث عنه على الأقل المعلومات التي وصلتنا عن ملابس الأبطال والديكورات , إذ لا تبدو للعيان بهرجة المسرح بل المواد والأقمشة الحقيقة الغالية لان الجمهور في البداية كان صعب عليه أن يفهم جوهر التمثيل وجوهر الزمن “الفني الحقيقي”، وصعب عليه أن يرى في أحشويروش الملك المبعوث الحقيقي والألماني الأشقر في وقت واحد.

لقد لاحظ الجمهور أن شخصيات الماضي” المبعوثة من جديد تشبه بشكل عجيب الشخصيات الموجودة في “معبد الكوميديا” , لأن أبطال المسرحية كانوا في حركة دائمة وأدهشوا الجمهور بنشاطهم وطاقتهم , فحياتهم مليئة بالحيوية , وتم تصوير الشخصيات التاريخية بسلسلة لا متناهية من الأحداث وكأنها تحدث الآن.

تطابقت شخصيات الدراما الروسية المبكرة مع نمط السلوك السائد في حقبة إصلاحات بطرس الأكبر وقُبَيْلها، التي انهارت فيها المُثُل القديمة للحشمة وحسن السيرة ومراعاة المقامات , وإذا اقتضى الحال في العصور الوسطى بضرورة التصرف بهدوء ورزانة ففي عصر بطرس الأكبر صارت خفة الحركة صفة ايجابية.

حتى الحياة التي كان يتفرج على تفاصيلها على خشبة المسرح جمهور مسرح البلاط كانت اقل ميلاً للهدوء والسكينة , فقد كانت حياة مبرقشة ومتغيرة ينتقل الأبطال فيها من الحزن إلى الفرح ومن الضحك إلى البكاء ومن الأمل إلى اليأس والعكس بالعكس ويتم ذلك كله بسرعة وخفة وبصورة مفاجئة فقد كان أبطال المسرحيات يشتكون من السعادة الخادعة وغير النقية التي ترفع البعض وتحط البعض الأخر , وهكذا كان العالم القديم المبعوث من جديد على خشبة المسرح يتألف من تناقضات وأضداد.

“قصة أحشويروش” هي محاولة لتعميق الخصائص النفسية للأبطال وطرح مسألة الطبيعة البشرية وبهذا تعكس خصوصيات العملية الأدبية في النصف الثاني من القرن السابع عشر التي تشير إلى الانتقال التدريجي من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. لهذا يظهر الملك أحشويروش على الخشبة ليس حاكماً وملكاً لدولته فحسب بل إنساناً خاضعاً لمشاعر الحب أيضاً.

بقيت سبع  مسرحيات محظوظة من مسرحيات مسرح البلاط الروسي , يقول محللو نصوصها الروس إنها لا تقتصر على تصوير محاسن بعض الشخصيات وإن كانت مهمة بقدر تصويرها لبنية العالم بأكمله وانسجامه الذي يعيقه الصراع المتصاعد والذي يلوح في الأفق والذي لابد أن يتوقف.

ارتبطت بداية المسرح المدرسي باسم سيمون بولوتسكي الذي كتب عملين للمسرح المدرسي هما “كوميديا الملك نبو خذنصر” و”كوميديا الابن الضال” , وأشهرهما المسرحية الأخيرة والتي تُعَد تأويلاً مسرحياً للحكاية الواردة في الإنجيل والمكرسة لمسألة اختار شابٍ (اي الجيل الجديد) لطريقه في الحياة , وكان هذا الموضوع مشهوراً لغاية بل حتى يمكن القول انه كان الموضوع المهيمن على أدب النصف الثاني من القرن.

إن مضمون هذه الدراما تقليدي نوعاً ما ويمثل رواية أحداث القصة الإنجيلية مضافاً إليها تفاصيل الحياة اليومية الملموسة , ومن المثير للاهتمام أن سمعان يواجه في نهاية المسرحية مشكلة خطيرة جداً : حيث يجب عليه أن يعلق على القصة التي بيَّنَها المسيح بنفسه لتلاميذه في الإنجيل.

لكن تأويل سمعان يبدو متعدد الطبقات ويبدأ من الاستنتاجات التعليمية العامة التي يمكن أن يستخلصها من هذه القصة ممثلو أجيال مختلفة , فهذه المسرحية موجهة أولاً  إلى الشباب , وثانياً يجب استخلاص الأخلاق من الجيل الأكبر وان لا يطلق العنان للشباب , وبعد ذلك فقط يتوجه إلى الجمهور ليقول لهم أن المكانة الأولى والرئيسية في الإنجيل هي للغفران للخطاة التائبين وفيها تتجلى رحمة الإله , ونلاحظ إن كوميديا “قصة الابن الضال” مبنية كذلك وفق معتقدات مؤلفها.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com