مجتمع

لحرب الإسرائيلية على غزة: اليسار في أوروبا بين التصدّع والانقسام والتغريد خارج السرب

بيدر ميديا.."

الحرب الإسرائيلية على غزة: اليسار في أوروبا بين التصدّع والانقسام والتغريد خارج السرب

آدم جابر

 

باريس ـ «القدس العربي»: تلقي الحرب المستمرة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية منذ السابع من شهر تشرين الأول/اكتوبر الماضي، بظلالها القوية على المشهد السياسي في العواصم الغربية الكبرى، لاسيما الأوروبية منها، وبالأخص اليسار في كل من فرنسا وبريطانيا والذي يشهد انقسامات شديدة قد تكون لها تداعيات كبيرة على الانتخابات العامة المقبلة في بريطانيا وكذلك انتخابات البرلمان الأوروبي.

اليسار الراديكالي الفرنسي

في فرنسا، تبنى اليسار الراديكالي منذ البداية – أي بعد هجوم حماس على إسرائيل وما أعقبه من قصف إسرائيلي على غزّة – موقفاً ضد التيار العام، ما وضعه في مواجهة انتقادات لاذعة من جميع الطيف السياسي في البلاد. فقد اعتبر حزب «فرنسا الأبية» اليساري الراديكالي أن الهجوم المسلح غير المسبوق الذي شنه مقاتلو حركة حماس الفلسطينية ضد إسرائيل يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر الماضي على الأراضي الإسرائيلية يندرج في سياق تكثيف سياسة الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، مع الحرص على عدم استخدام كلمة «الإرهاب». واعتبر زعيم الحزب جان ليك ميلانشون أن «كلّ أعمال العنف التي أطلقت ضد إسرائيل وفي غزة تثبت شيئا واحدا فقط وهو أن العنف يولّد العنف» داعيا الجميع إلى الوقف الفوري لإطلاق النار. وذهب العديد من النواب البرلمانيين عن الحزب إلى أبعد من ذلك، مثل لويس بويار، الذي اتهم الحكومة الفرنسية بالتغاضي عن «الاستعمار والاستيطان والانتهاكات في فلسطين». وأيضاً واجهت النائبة البرلمانية دانيال أوبونو سيلاً من الاتهامات والانتقادات بعد توضحيها، خلال مقابلة تلفزيونية، أن حركة حماس هي «مجموعة سياسية إسلامية فلسطينية تقاوم الاحتلال من أجل تحرير أرض فلسطين» وهو ما دفع بوزير الداخلية جيرار دارمانان إلى الدعوة إلى فتح تحقيق جنائي بحقها بشبهة «تمجيد الإرهاب»في إشارة إلى حركة حماس الفلسطينية التي تصنفها فرنسا والاتحاد الأوروبية على أنها منظمة إرهابية.

اتهامات وانتقادات

من خلال تموضع «فرنسا الأبية» كالطرف الوحيد الذي رفض وصف هجمات حماس على إسرائيل بأنها إرهابية، وضع الحزب اليسار الراديكالي نفسه هدفاً للاتهامات والانتقادات من كل حدب وصوب، بما ذلك من حلفائه داخل «الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد» المعروف بتحالف «Nupes» اليساري التاريخي الذي رأى النور بمناسبة الانتخابات التشريعية لعام 2022 في أعقاب حلول جان ليك ميلانشون ثالثاً في الانتخابات الرئاسية قبل ذلك بوقت قصير وتحقيقه نتيجة وصفت بالجيدة سياسياً وإن لم توصلها إلى قصر الإليزيه. فقد اتهمت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن جان ليك ميلانشون بأنه يجسد «شكلاً من أشكال معاداة السامية». واعتبرت رئيسة الوزراء الفرنسية أيضاً أن معاداة الصهيونية بالنسبة لجزء من اليسار كانت «في بعض الأحيان أيضًا وسيلة لإخفاء شكل من أشكال معاداة السامية». في حين، نأت قيادات في حزب «فرنسا الأبية» بنفسها عن مواقف زعيم الحزب جان ليك ميلانشون وبعض زملائهم، وذلك أمام الضغوط والانتقادات والاتهامات المتصاعدة على الحزب اليساري الراديكالي من كافة الطيف السياسي الفرنسي ووسائل الإعلام وبعض الشخصيات اليهودية وغير اليهودية الوازنة. في هذا الصدد، اعتبر النائب البرلماني البارز عن الحزب فرانسوا روفين أن تصريحات بعض زملائه «لا ترقى إلى مستوى خطورة الأحداث» في إسرائيل، واصفاً حركة حماس بوضوح بأنها «منظمة إرهابية متعصبة، كانت دائماً خصماً للتقدميين في منطقة الشرق الأوسط، ومعادية لأي تسوية سلمية، وتريد نهاية دولة إسرائيل» على حد قوله. على نفس المنوال، تحدث زميله، النائب البرلماني عن الحزب نفسه، ألكسيس كوربيير، موضحا أن موقفه ليس «نعم، ولكن» في تلميح إلى مواقف بعض زملائه، وأنه يدين وبشدة «الأعمال الإرهابية» التي ارتكبتها حركة حماس في إسرائيل يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر الماضي، والتي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 1200 شخص، واحتجاز عشرات الرهائن.

مصير تحالف اليسار
الفرنسي على المحك

اتخذ الجدل الداخلي أبعادًا أكبر بكثير مع حلفاء حزب «فرنسا الأبية» داخل «الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد» المعروف بتحالف «Nupes» للأحزاب اليسارية الفرنسية. فبينما اشتعل جدل آخر داخل هذا التحالف اليساري حيال موقف الحزب الجديد المناهض للرأسمالية «NPA» بزعامة فيليب بوتو وأوليفييه بيسانسينو والذي ذهب إلى ما هو أبعد بالإعلان عن دعمه العلني والواضح للفلسطينيين بالتأكيد بشكل لا لبس فيه على دعمه «للمقاومة الفلسطينية» اعتبر فابيان روسيل، السكرتير الوطني للحزب الشيوعي الفرنسي «PCF» أن «الضرورة الملحة هي في المقام الأول إدانة العدوان والعمل الإرهابي»؛ في حين ندد العديد من المسؤولين المنتخبين عن الحزب الاشتراكي وحزب الخضر أنصار البيئة بموقف حزب «فرنسا الأبية» وزعيمه جان ليك ميلانشون من الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، في مقدمتهم النائب البرلماني عن الحزب الاشتراكي، جيروم غودج، وهو نائب رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية الإسرائيلية في الجمعية الوطنية الفرنسية، والذي عبر عن «الاشمئزاز» ممن وصفهم بـ «الأغبياء المفيدين لإرهابيي حماس الذين يبرئونهم من خلال وضعهم في مكانهم». واعتبر النائب البرلماني الاشتراكي أن حركة «فرنسا الأبية» اليسارية الراديكالية برفضها تصنيف حركة حماس على أنها «منظمة إرهابية» فإنها «تضفي الشرعية على حماس وأساليب عملها، حتى لو كان ذلك يعني عزل نفسها».

«ذريعة معاداة السامية»

بدورها، قالت عمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو لعائلتها السياسية (الحزب الاشتراكي) إن «الوقت قد حان لوضع حد للخلاف مع جان ليك ميلانشون» معتبرة أن «اتباع ميلانشون هو طريق مسدود». وانتهى المطاف بالحزب الاشتراكي إلى التصويت على تعليق مشاركته ضمن «الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد» المعروف بتحالف Nupes للأحزاب اليسارية الفرنسية، مستنكراً «التحريض الدائم على التفرقة» من قبل حزب «فرنسا الأبية». واعتبر السكرتير الأول للحزب الاشتراكي أوليفييه أن زعيم «فرنسا الأبية» جان ليك ميلانشون «كان عامل توحيد، لكنه أصبح اليوم عائقا» وشدد على «ضرورة إحداث تغيير جذري في طريقة تصور الاتحاد». ورد عليه ميلانشون باتهامه بـ «كسر» تحالفهم السياسي، على ما يبدو، إيذانا بنهاية هذا الائتلاف المولود شهر أيار/مايو 2022 خلال الانتخابات التشريعية.
وأتت المسيرة التي نظمت قبل بضعة أيام «من أجل الجمهورية وضد معاداة السامية» بدعوة من رئيسي الجمعية الوطنية يائيل براون بيفيه ومجلس الشيوخ جيرار لارشيه، لتزيد من انقسامات اليسار، حيث عبر العديد من المسؤولين المنتخبين عن أسفهم لوجود حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، فيما انتقد الزعيم اليساري الراديكالي جان ليك ميلانشون تجمعًا «لأصدقاء الدعم غير المشروط للمذبحة» الإسرائيلية في غزة، تحت ذريعة معاداة السامية.

عودة الانقسامات
إلى حزب العمال البريطاني

وكما هو الحال في فرنسا، حيث تجد المجموعة البرلمانية لـ«الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد» نفسها على وشك حافة الانهيار، في ظل المواقف المتباينة في صفوفها حيال الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة الفلسطيني المحاصر، فإن اليسار البريطاني يواجه تصدعاً كبيراً، هو الآخر، حول الموقف الذي يجب اتخاذه في مواجهة الصراع بين إسرائيل وحماس. فقد أعادت هذه الحرب إحياء الانقسامات في صفوف حزب العمل البريطاني اليساري الوسطي الساعي إلى العودة إلى السلطة في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في العام المقبل 2024. فتمسك زعيم الحزب كير ستارمر بموقفه من الحرب في غزة، بما في ذلك رفضه الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة مع الاكتفاء بالمطالبة فقط «بوقفات إنسانية» قوبل بتمرد مجموعة من قاعدة الحزب اليساري الوسطي الذي يقود المعارضة حالياً وبعض أقطابه بشأن هذا الموضوع، في تحدٍ علني غير مسبوق من نوعه منذ أن تولى كير ستارمر، البالغ من العمر واحداً وستين عاماً، زعامة الحزب في عام 2020. فقد صوت 56 نائباً برلمانياً ينتمون إلى حزب العمال للمطالبة بـ«وقف فوري لإطلاق النار» في غزة، في خطوة تعيد إلى العلن من جديد الانشقاقات داخل حزب العمال، حزب المعارضة الرئيسي، التي بدا أنها اختفت أو باتت نادرة منذ تولى كير ستارمر زعامة اليسار البريطاني في بداية عام 2020 بعد سنوات الفوضى التي شهدتها حقبة جيرمي كوربين.
من بين هؤلاء النواب العماليين المتمردين، كان هناك ثمانية أعضاء من حكومة الظل التابعة لزعيم حزب العمال، وهي تعد بمثابة «الحكومة الثانية» في النظام البريطاني حيث يجلس نواب المعارضة الأكثر نفوذاً. وقد اضطر هؤلاء الوزراء إلى الاستقالة على الفور من مناصبهم لتجاوزهم سلطة زعيمهم. ولذلك فإنهم يتخلون عن مهنة وزارية محتملة، حيث يتمتع حزب العمال بفرصة جيدة للوصول إلى السلطة في الانتخابات العامة في عام 2024.
وذهب البعض إلى حد مقارنة حجم هذا التمرد بما واجهه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عام 2003 أثناء الحرب في العراق، باستثناء أن زعيم حزب العمال هو هذه المرة في صفوف المعارضة، وتتوقع استطلاعات الرأي، حتى الآن، أنه لا يبدو أن هناك شيئًا قادرًا على إعاقة مسيرة الحزب نحو الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة.
وعلى مدى ثلاث سنوات على رأس حزب العمال، عمل كير ستارمر على إعادة تركيز الخط السياسي للحزب ووضع حد للانقسامات في عهد كوربين، المتهم بالسماح لمعاداة السامية بالازدهار داخل حزب العمال. ويؤكد التمرد الذي أثاره موقفه من الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس أن صفحة الانقسامات داخل الحزب لم تُطو بالكامل.
وبينما يوجد في إنكلترا وويلز ما يقرب من أربعة ملايين مسلم، وفقًا لآخر إحصاء سكاني، فإن من المرجح أن يكون الضغط الانتخابي على بعض المسؤولين المنتخبين قويًا. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة سافانتا، فإن 64 في المئة من المسلمين مستعدون للتصويت لصالح حزب العمال، لكن 41 في المئة منهم يقولون إنهم غير مرتاحين لموقف الحزب بشأن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي أسكتلندا، قد تصب هذه الانقسامات في صفوف حزب العمال في صالح الانفصاليين من الحزب الوطني الأسكتلندي، المنافسين الرئيسيين لحزب العمال في الإقليم. وكان أيضًا الحزب الوطني الأسكتلندي هو أصل التعديل الذي زرع الفتنة في صفوف حزب العمال. ويؤيد رئيس الوزراء الأسكتلندي حمزة يوسف، الذي تقطعت السبل بعائلته في غزة في بداية الصراع، وقف إطلاق النار. وقال إن «النواب الذين صوتوا ضد وقف فوري لإطلاق النار هم على الجانب الخطأ من التاريخ». وقد تظاهر المئات قبل أيام قرب مكتب كير ستارمر، الذي يتعرض لانتقادات بسبب رفضه الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، مكتفيا بالدعوة إلى هدنات للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، وهو موقف رئيس الوزراء ريشي سوناك.

اليسار الراديكالي الألماني منقسم

على غرار اليسار الفرنسي، فإن اليسار الراديكالي الألماني منقسم هو الآخر حول الصراع بين إسرائيل وحماس. فبينما أكد حزب Die Linke الذي يجلس مع حركة «فرنسا الأبية» في البرلمان الأوروبي، تضامنه مع الدولة العبرية، وذلك في وقت تتهم فيه الأحزاب التي تنتمي إلى اليسار الديمقراطي الاجتماعي بأنها غير واضحة بما فيه الكفاية فيما يتعلق بدعم إسرائيل والتنديد بحركة حماس.
أما في إسبانيا، فإن موقف اليسار الراديكالي واضحٌ، حيث رفض حزب «بوديموس» اليسار الراديكالي، المشارك في حكومة بيدرو سانشيز الائتلافية، إدانة هجوم حماس على إسرائيل، مندداً، في المقابل، بالأعمال الانتقامية الإسرائيلية على قطاع غزة. وذهبت إيوني بيلارا، وزيرة الحقوق الاجتماعية المنتمية، المنتمية إلى الحزب، إلى حد مطالبة حكومة بلادها بتقديم شكوى ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب «جرائم حرب» كجزء من «محاولة إبادة جماعية في غزة».
وفي بروكسل، تغيرت اللهجة في الحكومة البلجيكية تجاه إسرائيل، لدرجة أن حزب CD&V تقدم بمشروع قانون لمقاطعة المنتجات من الأراضي المحتلة، وتبعه اليسار بأكمله. لكن الليبراليين يعتقدون أن هذا الإجراء «ذو طبيعة رمزية بحتة لن يكون فعالا». أما في اليونان، فلم تتردد شخصيات يساريّة في انتقاد إسرائيل ، كماهو حال وزير المالية السابق للائتلاف اليساري بزعامة ألكسيس تسيبراس، يانيس فاروفاكيس، الذي وصف إسرائيل على أنها «دولة فصل عنصري». وقال في تغريدة له على منصات التواصل الاجتماعي «المجرمون هم الأوروبيون. لقد شاركنا في هذه الجريمة ضد الإنسانية على مدى عقود من خلال التزامنا الصمت. طالما أن الفلسطينيين هم الذين يموتون، وليس المحتلين». علاوة على ذلك، يظل الحزب الشيوعي اليوناني حتى يومنا هذا أحد الأحزاب الشيوعية الأوروبية الوحيدة الذي برر العملية التي شنتها حركة حماس «طوفان الأقصى» ضد الكيان الاستيطاني الإسرائيلي يوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر الماضي.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com