منوعات

عِـندمـا يتحّدث الضمير : د. خيرالله سـعيد القسم الثالث – 3/3 والاخير.

بيدر ميديا.."

قراءة في كتابي ” بيني وبين نفسي “الجزء الثالث للكاتب والباحث المتخصص في شؤون الفن الشعبي والتاريخ الثقافي “خيرالله سعيد “

* * *

* عِـندمـا يتحّدث الضمير : د. خيرالله سـعيد

القسم الثالث – 3/3 والاخير

كما ويشير الكاتب محمد السعدي، إلى الأعـداد الكبيرة من الأكـراد الذين كانوا ” عيونـاً علينا” في المناطق الكردية، والذين يطلق عليهم ” الجحـوش” / راجع تفاصيل ذلك في ص190 -191 .

* وقـد ظلّت هـذه المسألة، أي ” مسألة الجواسيس” والإختراقات بين صفوف الحزب وتنظيماته، تشغل بال زميلنا الكاتب محمد السعدي، بحيث أنها صارت حاكـمة على تفكيره، في السكرِ والصحو، وقد أصبحت هي الهاجس الذي يقض مضجعه، لا سيما بعـد اطّـلاعـه وسماعه لاعـترافات ” الرفيق أبو بهاء” .

* ظلّت مسألة “التجسُّس والخيانة”، هاجساً دائم الحضور في ذهـن الكاتب، وخصوصاً عندما وصل بغـداد عام 1986، وبدأ يجري اتصالاته بمن بقي من صفوف الحزب، وقـد اكتشف ” خطّـاً حزبيّـاً كاملاً” وتعرّف على وجـوه من ” مدينة الكاظمية والحرية والشعلة وبغـداد الجـديدة”، وهـذا الخـط الحزبي كان مخترقاً بالكامل من قبل مديرية الأمن العامة، والأنكى من ذلك أن هـذا الخـط كان يضُم بين صفوفهِ رفاقاً يعملون بكل نكران ذات، ولم يـتنبّـهـوا إلى أنه ” خـطٌّ مُـموّل من الأمن العامة” وبإشرافٍ مباشر منهم،ويقومون في طبع وإعـداد جريدة ” طـريق الشعب” ويشرفون على تـوزيعـها، ويعرفون من يستلمها، وردود الأفعال حولها، ولديهم محاضر عـن لقاءاتهم وتحرّكاتهم اليومية ” . /ص214 .

* حقّـاً أنه لأمرٍ محيّـر! لمـاذا تتـكرّر مسألة الإختراقات في صفوف الحزب الشيوعي العراقي تاريخيّـاً، وفي زمن البعث أصبحت هـذه المسألة شُـبه ظـاهرة وملموسة، فلم تَـعُـد هـناك ” قلعـة حصينـة” للشيوعيين العراقيين إلاّ واخترقتها أجهزة الأمن العراقي، ولذلك لا نستغرب عـندما نقـرأ صفحات طويلة قـد مُـلأت كتاب الرفيق الكاتب ” محمد السعدي – بيني وبين نفسي ” . ونستطيع أن نلمُس مـدى القلق والتوجس في روح الكاتب، وهـو يستعرض تلك الإختراقات، من مكانٍ لآخر، إن كانت في بغـداد أو في المنطقة الكردية.

يذكر الكاتب حكاية هـذا ” الإختـراق الواسع ” في بغـداد، داخل التنظيم الذي إلـتقى بهِ، حيث يشير إلى ” أن حكاية هـذا الخـط المُـخترق، بـدأت في كليّـة الهـندسة، جامعة بغـداد، عـند تشكيله الأول، عِـندما بـدأ ” عـلاء سُـفر” الشيوعي القديم ، والطالب في كليّـة الهـندسة، وإبن مالك فرن الصمون في “منطقة الحريّـة الأولى” مع زمـلائه في الجامعة ” عـادل مـوّات وحسين” الذين تـم اعـتقالهم وتعـذيبهم ومساومتهم على الخيانة والتجسُّس، وقبلوا ذلك، على أن يبقوا في مواصلة عملهم الحزبي برعاية مديرية الأمن العامة، كي يكون ” التنظيم” كميناً مُـبيّـتاً للشيوعيّين، مقطوعي الصِـلة، مِـمّـن يبحثون عـن خيوط اتصال بالحزب الشيوعي” / ص214 .

وقـد وقع في حبائلهم كل من ” عبد الرضا دبش وخطيبته” الطالبة في كلية الإدارة والإقتصاد بغـداد، ومع الضابط “غسان” من أهـالي الكاظمية، ومع ” نيران” من مدينة السليمانية وهي طالبة في كلية الهندسة وآخرين ” . ويشير الكاتب محمد السعدي إلى أنه ” عـرف تلك المعلومات من خلال علاقتهِ بعـبد الرضا دبش، حيث اطّـلع على تلك الخيوط المُـعقّـدة في العلاقات والعمل، حيث وجد عِـندهم ” آخر أعـداد جريـدة طريق الشعب” وبيانات اللّجنة المركزية، في إجتماعات دوراتها العادية، ووجد أيضاً ” كـنزاً من المعلومات حول عقد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ونتائجه، ومنها مقال في ” جريدة السياسة الكويتية” بقلم رئيس تحريرها أحمد الجـارالله ” حول آليـة الصراع في الهرم القيادي، وعدّة قضايا عالقة” بالإضافة إلى مواقع المراكز الحزبية، وهـذا كلّـه قـد تفجّـر داخل أروقة المؤتمر الرابع وخيمته” وكانت تتصدّر المقال ” صورٌ عريضة باللّـباس العربي ( عقال وعباءة) للقيادي الشيوعي باقر إبراهيم. ويبدو أنه ” كان تقريراً مُعـدّاً في دوائر المخابرات العراقية . / ص215 .

* مع هـذه الإختراقات الأمنية لصفوف الحزب الشيوعي العراقي ، كان حزب البعث يبُـثُّ، بين الحين والآخر،إشاعات بين الناس مفادهـا” أن هـناك محاولات إنقـلاب فاشلة، كي يعرفوا ردود الأفعال في الشارع العراقي، وقـد قام حـزب البعـث وأجهـزته الخارقة في كشف تلك المحاولات الإنقلابية” ويعقب ذلك موجة من “الإعـدامات” لمعارضين قابعين في السجون العراقية./ ص216

وقـد سلكت أجهزة الأمن العراقية أسلوباً قـذراً في تنفـيذ خُـططهـا مع من جَـنّـدتهـم من الشيوعيين، فقد كانت تبعث بهم إلى المناطق الكردية، للتجسّس على منظمات الحزب الشيوعي ونشاطاته، باعتبارهم ” رفاق الحزب” وبالمقابل تقوم أجهزة المخابرات والأمن باعتقال ذويـهـم، بغرض التـمويـه وإبعـاد الشُـبهة عـنهم في أداء مهـامهم الجديدة” / ص219 . وقد إستطاع هـؤلاء المندسّـين من الوصول إلى قوات الأنصار ” وتـمّـت تزكيتهـم من الحزب” ونُـسِّبوا إلى الفـوج الثالث في بهـدينان، وشاركوا بمهمات في المفارز والمهمات التي أُوكلت إليهم، كما شاركوا ببعض العمليات العسكرية، وبمحض الصُدفةِ كُـشف أمرهم، حيث كانوا في ذات يوم قائض، كانوا يجلسون في أحد غُـرف الفوج وهـم يتحـدّثون عن خططهم المستقبلية ومصيرهم في حال تم كشفهم من قبل تنظيمات الحزب، أو من قبل رفاقهم الأنصار، وكانوا غير منتبهـين- كما يقول الكاتب – إلى أن أحـد الرفاق كان مُـتـدثِّـراً ببطانية في زاوية الغرفة، وسط حُـزمةٍ من الأغطية إستعـداداً للنوم، فسمع كل حديثهم حتى نهايته، وفي نفس اليوم بلّـغ التنظيم بما سمعه، فتـمّـت متابعة حركاتهم وسلوكهم، وتـم اعتقالهم بعـد أيام في منطقة ” زيـوة” وأدلوا باعترافاتهم، بعد أن حاولوا الهروب . / ص220 .

* * *

* حينما يفـقـد المكان بهجتهُ،فإن الحياة تفقـدُ بريقها، ولم تَـعُـد للأيام معنى، حتى وإن كان النضال يستوجب التضحية والبقاء في ذلك المكان، لكن قـذارة السلوك السياسي للبعـث، جعلت من كل الأمكنـة جحيماً للساكنين، لا سيما حين بـدأت الحرب العراقية – الإيرانية وأخذت منحىً آخرَاً، بـدأت معالمه تُضلِّـل الوجود اليومي بـتوابيت الشُـهـداء، وقواغل الجرحى المرسلين إلى العاصمة بغـداد كُـلِّ يوم، حتى غـدا هـذا المشهـد هـو الثـابت اليومي لمسرح الحياة العراقية في ظل البعث الفاشي.

* ضاقت بصاحبنا الكاتب محمد السعدي، كل مطارح بغـداد وضواحيهـا، عـندها قـرّر الذهاب إلى الجبل، واستئناف حياة النضال هُـناك، فشـدَّ الرحال من بغـداد متوجّهـاً إلى المـوصل، وبها عـرّج على رفيقهِ ” أبـو آشور” حيث سيقوده للوصول إلى المقاتلين هـناك، عِـبر قريتي ” خـورزان و كرسافة” وهما القريتان اللّـتان دخلهما ومنهما واصل السير إلى قرية ” بيرستك و إيسيان” على سفحِ جبل ” شيخان القـوش”، ومن هـناك يكون الإتصال بسرايا المقاتلين الأنصار في جبال كردستان العـراق . /ص 222 .

* يقول الكاتب : حين وصلت إلى المقر الصيفي، كان هـناك الكثير من الرفاق، ونهم ” الرفيق أبو داود – حميد مجيد موسى، السكرتير الجديد للحزب” وغيره من الرفاق،” وبـدأت أعِـدُّ نشرة إخبارية، لصحيفة الحزب، مع تقرير كامل عن الوضع العام في بغـداد، عاكساً فيه آراء الرفاق والأصدقاء للحزب، ومن خلال شبكة علاقاتهم اليومية، وبكل أمانة وجرأة، وبعيد عن أي مجاملات” ، وهذه واحدة من مشاكلي في علاقتي مع الحزب وفي حياتي أيضاص. ويسـتأنف الكاتب حديثه بالقول : ” لم أُهـادن أو أتملّق أحداً، وكنتُ صريحاً في التعبير عن آرائي، حتى ولو كانت ضد التيار الجارف، ومهما كانت النتائج، وكنتُ أطرح قناعاتي بشفافية، وهـذا ما سَـبّب لي صدامات، لا تخلو من الحقد مع مَـنْ لم يستطع من الرفاق أن يتبنّـى مثل هـذه المواقف الجريئة ” ./ص226 .

* في غمرة النضال السياسي، بل وحتى في غمرة شؤون الحياة، تـمُـرُّ بالإنسان لحظاتٌ من التـداعي، ليستدرك بها بعض المواقف السلبية والإيجابية، فـثمّـة شخصٍ إسمهُ ” قـادر رشيد” كان الكاتب محمد السعدي قـد التقـاهُ في طريق العبور بين ” قـادر كـرم وكركوك والسُـليمانية” وهذا الشخص، هـو القائد الحزبي لمنظمة الحزب الشيوعي هناك، الأمر الذي دعا هـذا الشخص لن يكون أحد الأسباب التي أوقعت الكاتب محمد السعدي بيـد المخابرات العراقية عام 1987م، لذلك يذكر تفاصيل تلك الواقعة، بكل حذافيرها بكتابه ” سجين الشعبة الخامسة” / راجع تفاصيل ذلك في كتاب ” بيني وبيت نفسي” ص239- 240 .

* وعندما يكتشف لإنسان ” المناضل” أن هُـناك خـللاً مـا في مسيرتهِ النضالية، ويحاول أن يجد لها حـلاّ بين رفاقهِ، وحين يكتشف أن هُـناك ” جِـداراً أصم، لا يصغي إليه، فإن وساويس القلق تنبشُ في النفسِ ما هـو دفين وراكد، فـفي عام 1987م، وصلت القناعة بعقل صاحبنا ” محمد السعدي” وهـو في منطقة جبال قرداغ في السليمانية، بأن الحـوار مع رفيقه ” طـه صفوك – أبو ناصر” وصل إلى طريق مسدود، في مسألة ” رغبتهِ في استعادة حياته المدنية ” لذلك قـرّر ترك مواقع النضال، والتوجّـه إلى الأراضي الإيرانية” بوصفها المنفذ الوحيد إلى العالم الخـارجي، والإتصال بالعالم الآخر . / ص242 .

ولذلك قـرّر الكاتب محمد السعدي أن يغـادر موقعه النضالي في كردستان، والتوجّـه إلى بلدٍ آخر، ولذلك طلب من رفيقه، المسؤول عن القاطع ” الرفيق طه صفوك – أبو ناصر” ان يسمح له بالتوجه إلى إيـران، مع بعض المفـارز العاملة في الطريق، ولكن أبو ناصر قال بشئ من التشفّـي ” إن حياتك في إيران ستكون جـوعاً وعوزاً وحسرة على قطعة خبزٍ يابسة، لا يسـهل مضغهـا، إلاّ بتغميسها في الماء الساخن” . / ص243 .

* مُحـبِطٌ هـذا الرد الحزبي، من مسؤولٍ يشرف على قاطعٍ كبير في المنطقة الجبلية، وتحت إمـرتهِ مئاتٌ من الرفاق المناضلين من الشيوعيين والأنصار، وحتى أن الكاتب محمد السعدي يُـعلّـق بشئ من الخيبة قائلاً : “هـل هـذا حقّـاً ختام مسيرتي النضالية، وتضحياتي الجِـسام، كمناضلٍ سياسي يحلم بوطنٍ مُـعافى، خـالٍ من الديكتاتورية ” . / ص243 .

* شكّـل هـذا الرد الحزبي، غـصّـة في ضمير الكاتب محمد السعدي، فراح يستقصي تجارب الآخرين من الرفاق الأنصار وغيرهم، من الذين مـرّوا في تجارب قاسية ومُـرّة، حدثت لهم في المنطقة الجبلية، ولذلك : تـركوا مواقع النضال” للعـديد من الأسباب والدوافع، وقـد إسـتُهـدفـوا بأقسى التُهـم القبيحة ” العمالة للنظام” وهي الورقة الأكثر نـذالة للتسقيط السياسي للمعارضين في الرأي والموقف والسياسة ، حتى أن الكاتب محمد السعدي يصفهـا بـ” أنها أساليب لا تقـلُّ خِـسّـةً عن ممارسات النظام البعثي في هـذا السياق ” / ص243 .

بعـد حينٍ، ودّع الكاتبُ رفاقه في الجبل، بغية الإلتحاق بمفرزة منطلقة من جبال قرداغ باتجـاه الحدود الإيرانية، بليلةٍ شتوية، قارسة البرودة، وسلّم سلاحه ومتعلقاته إلى رفيقهِ ” سلام العـﮔـيلي – محمد عرب” والذي ودّعـه ببكاءٍ وحزن، وسلّم لرفيق آخر رسالةً، كي يوصلها إلى أهله وذويه، بحكم المعرفة بينهما، ومن هُـناك بـدأت رحلة أخرى من إيران إلى سوريا ومنا إلى السـويـد . /ص243 .

* إن اختبار المبادئ يكون في اللّـحـظات الصعبة وفي المواقف المصيرية، حيث يختبر الإنسان تلك المبادئ في داخلهِ، ويكون في مواجهتها بذاتـه، لمعرفة صدق انتمائه لهـا، وبـأيِّ درجة هـو متمسّـك بها، وهذا الإختبار وقع فيه صاحبنا الكاتب محمد السعدي، حين انطلق من كردستان بمصاحبة تلك ” المفرزة الحزبية” المنطلقة من جبال قرداغ صوب الحدود الإيرانية، يقول هـو في ذلك :” بعد يومين مُـضنيّين، وقطعنا مسافات طويلة، حيث رافقني حينها الرفيق علي الكرّادي، حتى وصلنا إلى قرية ” قزلـر” والتي تقع على أطراف جبال السليمانية، وكان الجو ماطراً، وعواصف ثلجية مخيفة، وحين دخلنا “جامع القرية” قد انحشرنا حول موقد الجامع لتدفئة ملابسنا ومقاومة البرد القارس، حينها قال لي ” مسؤول المفرزة” أبو حسين الحـلاّوي:( لـدينا قرار من قبل قيادة القاطع – أي من أحمد باني خيلاني- أبو سرباس، وطـه صفوك – أبو ناصر، ومحمد النهر – أبو لينا، أن تكون هذه آخر محطّـة لـنا معـكم ) / ص244 .

هـكذا وبكل بساطة، تتخلّى ” هـذه القيادات الحزبية” عـن رفاق الأمس وتتركهم للمجهول، حتى أن ردود فعل صاحبنا محمد السعدي كانت قويّـة وعنيفة بعض الشئ، يقول: تفـاجأت، وكان ردُّ فعلي حادّاً، وتكلمت مع النصير ” سـردار” والذي كان غير مقتنع بذلك التصرف المشين، إلاّ أنه كان عاجزاً عـن عمل أيِّ شئ” ويضيف : تركونا في قرية محاطة بالربايا الحكومية، ومقرات إيرانية لحرس الثورة الإيرانية، في جبهة حرب ساخنة، ووسط عواصف ثلجية قاتلة، إلى درجة أن القرويين نفسهم، عـدّوها الأولى من نوعها ” / ص244 .

* بتهـميشاتي على هـذا النص، كتبت عبارة شعبية تقول ” خـلّـوك واجـفـوا ووه يـﮔـلبي ” وأنا أُتابع مسيرة القافلة التي خلّـفت رفيقاً لهـا، كان بالأمس أحّـد الناشطين في العمل السرّي داخل القُـرى والمُـدن العراقية، وقـد تـمَّ التخلّي عنه بكل بساطة! .

وفي حالة من التداعي لمثلِ هـذه الحالة، قد حدثت سابقاً، يتذكّـر الكاتب محمد السعدي، أنه كانت له تجربة مؤلمة في بدايات ” الكفاح المسلّح”، حيث فُـرضت على مفرزة من الأنصار معركة غير متكافئة، راح ضحيّـتها الشهيد ” معتصم عبد الكريم” وآخرون ، حين تخلّت عنا مفرزتنا، ونحن نبيت في جامع القرية ” قـزلر” ووقتها تعرّضت القرية إلى إنزال جوي، عبر الطائرات السمتية، ودارت معركة غير متكافئة، راح ضحيّـتها عـدد من الأنصار، وفي حينها انتشر خبرٌ يقول بأن أهـالي القرية وسكّـانها الأصليّين يعملون لصلح السلطة الحكومية كمخبرين./ ص244 – 245 . ويستدرك الكاتب بالمٍ واضح، أنّـهم وُضِعـوا/ كرفاق درب، ومصير مشترك/ في فُـوّهـة المدفع، وبعـد أن توصلنا إلى قناعة بأنـنا على شفير الموت، وتحرّكنا نحو المجهول، وبعد ساعاتٍ رهيبة وخطيرة من السير، وسط عـواصف ثلجية، وبين ألغـام الربايا العراقية والإيرانية، وتحت لهيب جبهة حرب ساخنة، وجدنا أنفسنا داخل ” مقرات الإتحاد الوطني الكردستاني ” وفي مناطق سـرﮔـلو وبرﮔـلو، حيث استقبلونا بكل احترام وتقدير من قبل ” مامستا بكر، وكاكا شورش” وهما قياديّـان بارزان في ” ئـالاي شورش” التنظيم اليساري في الإتحاد الوطني الكردستاني ، وكانا محضورين عن اي تشاط حزبي، لتقاطع مواقفهم مع سياسة الإتحاد الوطني الكردستاني ، وبقينا معهم شهوراً، نتقاسم معهم رغيف الخبز، حتى شنّـت الحكومة العراقية علينا ” هـجوم الأنفال عام 1988م،( وكنّـا آخر حلقةٍ في الإنسحاب، بعـد أن أخلى مقاتلو الإتحاد الوطني الكردستاني ” أوك” مقرّاتهم ومواقعهم للجيش العراقي والجحوش، وصفّـوا حساباتهم مع قِـلّة من السُجناء في عمق الوادي، وقاموا بتصفيتهم وقتلهم) ./ ص245 . وقد انتهت عمليات الأنفال بالقضاء على أكثر من ( 4000 قـرية) وقُـتلَ ما يزيد عن ” 180 ألف كردي” ونـزوح ما يقارب المليون شخص من الأكراد، وقـد كان ” علي حسن المجيد” هـو من يقود عمليات الأنفـال .

* في مكوثـهِ ضمن قاطع الإتحاد الوطني الكردستاني ، يُشير الكاتب محمد السعدي إلى انّـه إلتقى مع ” مجموعـة سامي حركات” وأبو عليوي الكربلائي، علي الكرّادي، ولطيف ” والأخير هـو الكاتب نفسه، كان يحمل هـذا الإسم ” التنظيمي”، حيث جمعت هـؤلاء جميعاً ” وجهات النظر السياسية المعارضة لسياسة الحزب، تجاه جملة الأحداث والأوضاع الداخلية، والتي لم يكن الحزب الشيوعي مُهـتمّـاً بها، حتى تفاقمت على كل المستويات، وأصبح عاجزاً عن النظرِ إليها. / ص246 .

* هذه الملاحظات العميقة، ظلّت ترافق الكاتب في حِـلّهِ وترحاله، لأنها لا تخصّـه وحده،، بل هـناك المئـات، إن لم نقل الألاف من الرفاق، تشغلهم هـذه الملاحظات والمشاكل، وكُـلّما أُجِّلَ النظر فيها تفاقمت أكثر، ولذلك هي تظهر عند كل لقاء، داخل العراق أو خارجه، من قبل الشيوعيّين القدماء الذين غادروا مواقعهم من الحزب ووصلوا إلى إيران في منطقة ” كـوجه مـروي”، وبهذا الصدد يقول الكاتب :” كنتُ في مدينة طهران – بأوراقٍ مزوّرة- على تواصل مع رفاق شيوعييّن، تعرفت عليهم عن طريق الشهيد ” سامي حركات” وهـم : جمال عيدي ورزاق أبو وهيّب، وأبو أحمد الصيدلاني” وكانت معاناتنا مشتركة في الوطن والحنينُ إليه /ص247 .

* تبقى مسألة الوطنية العراقية، في ذهـن كل الشيوعيين العراقيين، هـي الحامل الأرأس لكل سُـبل النضال السياسي، وهي تبقى متفاوتة بين السياسيّـن، وحسب درجة الإيمان بها، وتكاد تكون هـذه المسألة الوطنية هي ” بـوّابة النقاش السياسي” عند أولئك الشوعيين الذين سكنوا المهـاجر، وخصوصاً الذين وصلوا إلى طهـران، وبقية المُـدن الإيرانية في ظلِّ قيام الحرب العراقية – الإيرانية، ولذلك يتوقّـف الكاتب عـندها، ويحلِّـلها وفق رؤيتهِ على النحو التالي : ” بـدت لي مرحلة صعبة، وتحدياتٌ جديدة في مواجهةٍ يومية بالموقف من الحرب والدفاع عن الوطن، والمفهـوم الماركسي في النضال الوطني، وثـمّة أصواتٍ نشاز لم تستطع أن ترتقي للموقف الوطني، وفق متطلبات المرحلة وتـداعياتها، فلم يبقَ أمامها من عـذر إلاّ مهاجمتك شخصياً، بِـتُهمٍ يضنون أنها تضعف موقفك في الدفاع عن العراق وأهـله، والتهـديدات والمخاطر اليومية التي تعترض طريقك في النضال، وفي بلدٍ مُـعادٍ لبلدك ووطنك، والنقطة الثانية نظامه السياسي يتعارض تماماً مع موقفك من الوطن ومن صيغة أدائه السياسي ” . /ص247 .

* إن هذه المسألة الوطنية ( الدفاع عـن الوطن) في تلك الفترة، فترة قيام الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980 – 1988م ،شغلت الوسط السياسي العراقي بِـرُمّـتهِ، وانقسم الشيوعيين في هـذا الموقف، فقسـمٌ مع الحرب ( جماعة عـزيز محمد وفخري كريم زنكِـنة) وقسمٌ ضد الحرب ( أعضاء في المكتب السياسي واللّـجنة المركزية، أمثال ” باقر إبراهيم و آرا خـاجادور وغيرهم) وقسم آخر كان يدعـو إلى ” إيقـاف الحرب بين البلدين، وإيجاد صيغة نضالية مشتركة أخرى “تـوقف الحرب، وتُـضعف النظام”، وقـد تميّـز بهـذا الموقف تيّـارٌ جـديد، إنشقَّ من الحزب الشيوعي العراقي، عُـرف بإسم ” جماعـة المنبر ” وهـناك أفـرادٌ من الشيوعـــيين القدماء ” القاعـدين” يميلون بمواقفهم من هـذا الفريقِ أو ذاك، فلا غرابة أن نرى الراحل ” د. ماجد عبد الرضا” أن يشدَ الرحال، ويترك الحزب الشيوعي العراقي، وهـو عضو لجنة مركزية، ويلتحق بالنظام، تحت شعار ” الدفاع عـن الوطن” .

* * *

* دمـشق وأيـّامـهـا الشاميّـة، ومراجعة مع الـذات .

* بعـد تراكم المشاكل والإشكالات مع الحزب الشيوعي العراقي، ورحلتهِ الطويلة وتنقُـلاته بين المُـدن العراقية، ومـا عـانه من وجودهِ في المنطقة الكردية، وخلافاته السياسية مع التنظيم السياسي الذي ينتمي إليه، وحتى خروجهِ من آخر قرية في السليمانية، وتوجُّـهِـهِ إلى إيران- كما تابعنا في الصفحات السابقة، ظهـرَ تـوجّـهٍ جـديد لدى الكاتب محمد السعدي، وهـو ” التـوجّـه إلى الحياة المدنـية” خارج سياق الإلتزامات الحزبية والتنظيمية في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، بعـد أن وصل إلى قناعة ذاتية بأن الأمر الخاص بتغيير سياسة الحزب مع رفاقهِ المختلفين معه، ضمن السياسة التي يسير عليها، بـدت ضرباً من الخيال، (ولم يَـعُـد في القوسِ منزع) كما يقول المثل العربي. فـآثر السلامة والبقاء، وكأنّـه يردد قول إمرئ القيس :

” وقـد طـوفـت في الآفـاقِ حـتّى ،،،، رضيتُ من الغـنيمة في الإيــــابِ”

شَـدَّ رحاله نحو دمشق، تلك المدينة التي تُـغري الكثير من الثوريين اليساريين والقوميين وغيرهم، للوصولِ إليها، ولذك طار من طهران ووصل دمشق بتاريخ 15/آب/ 1988م مكسوراَ، كما يوصّف نفسه / ص251 . ومهزوماً من نتائج تجربةٍ فاشلة، قـادته ورفاقه إلى ” التشتت والتشهير، والتي وصلت إمتـداداتها إلى أرض الشام، والصراع كان محتدماً – كما يقول- بين يميني ويساري، إلى حـد كـسرِ العظم، في الطعنِ والمقاطعة، طـرفٌ يكيل الإتهام للطرف الثاني، بين خـطٍّ وطني يدافع عن العراق وحربهِ ضد إيران، وبين خـطٍّ يعـوِّلُ على إيران باحتلال أرض العراق وإسقاط النظام ” /ص251 .

* هـذا هـو المشهـد السياسي الذي واجهه في أيّـامه الأولى، وهـو يطأ أرض الشام، وكان يلاحظ أن بعض الأطراف صادقة بادّعاءاتها ومشاريعها، فقسمٌ منها، وعـدده ليس قليلاً، كانت تحرّكه ” مصالح وارتزاق” بعيداً عن المشاريع الوطنية، والأهـداف الخيرة، وكان الشيوعيون أكثر القوى السياسية على أرض العاصمة السورية دمشق صُـراخـاً وتشهيراً ببعـضهم البعض ” بين تنظيمات الحزب الشيوعي – الرسمي ، من جهة، ومن جهـة اخرى، أطراف أخرى متعـددة، خرجت من الحزب الشيوعي بـرؤىً سياسية وطنية مختلفة، منها ( جماعة المنبر، والتنسيق، وشيوعيون عراقيّـون، وجماعة القاعدة، وشيوعيّون ثوريّـون، وشخصياتٌ وطنية مستقلة ) / ص251 .

* ثمة إشارة هـامة، يلتفت إليها الكاتب عندما يقول : ” كان الحزب الشيوعي الرسمي، له سلطته في إدارة الصراع، بحكم ارتباطه بجهاتٍ سورية متنـفّـذة، وتتماشى و موقف الدولة السورية بالتضامن مع إيران في حربها ضد العراق واحتلال أراضيه، أما الأطراف الأخرى الدائرة في الصراع فكان موقفها مختلفاً من الحرب العراقية – الإيرانية، باعتبار إيران مُـتعنّتـةً بموقفها ضد دعوات المجتمع الدولي، وأن محاولاتها مستمرّة في احتلال العراق، وكانت لها تنظيمات تتعرّض إلى ” مضايقات من الجانب السوري” للحـدِّ من نشاطها السياسي والإعـلامي” / ص252 هذه التجاذبات السياسية والمواقف المختلفة، خلقت جـوّاً رديئاً في أوساط كل العراقيين المتواجدين على الأرض السورية، وأبرزت نـزعات نفسية حقيرة، لم يكن العراقيون قد اعتادوا عليها، حيث أن الحزب الشيوعي العراقي الرسمي، إتخـذَ سياسة الإقصاء والتشهير والمقاطعة والتسقيط، لكل القوى المعارضة له في التوجهات السياسية والعلاقات التنظيمية، حتى صارت ” رفقة الأمس= عـداوة اليوم” وبشكلٍ لافت، مع نشر الغسيل القذر على المـلأ، وقد وصل الحـدّ، ببعض المتنفـذين في الحزب الشيوعي العراقي إلى إعـلان المقاطعة الإجتماعية، بحق بعض المناضلين ” أعضاء سابقين في اللجنة المركزية وكوادر متقدمة في الحزب” ومحاولة تجويعهم، والمَـس في جـوهر موقفهم الوطني ./ راجع ص252 .

* وكنتُ أنا شخصياً “خ س ” مِـمّن عاش تلك الفترة، واكتويت بتلك النيران المتشظية من بعض قيادة الحزب الشيوعي، بعـد أن ” فُـصلت من الحزب الشيوعي – وأنا في دورة حزبية في بلغاريا عام 1984م، نتيجة اختلافي مع سياسة الحزب، فـروّجَ “جماعة فخري كريم” بـأني أرفض توجهات الحزب بالذهاب إلى كردستان” ومنعوا عليّ نشر أي مادة في بعض الصحف السورية والفلسطينية، وهـذا الأمر شَـمُلَ كُـتّـاباً آخرين، لا سيما المعارضين للحزب من الشيوعيين العراقيين، وحاول فخري كريم أن يستولي على مرتبات الرفاق الشيوعيين العاملين في “مجلة الحـريّـة الفلسطينية ” ومنهم فاضل الربيعي وجمعـة الحلفي وغيرهم، مما خلق أزمة مع الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .

هذه الأخلاقيات الخارجة عن النمط الإجتماعي والسياسي، والتي كان يمارسها فخري كريم وجماعته في الحزب الشيوعي العراقي، أضرّت بسمعة الحزب كثيراً، على الصعيد السياسي والإجتماعي والثقافي، فصار البعض يتحاشى البعض والجلوس معه، حتى في المقهى، أو يزوره في البيت، فانخلق “جـوّاً مكهرباً” وغير صحي، بكل العلاقات الإجتماعية العراقية، وبـدأت جفوة حادة بين رفاق الأمس واليوم، حتى أن الكاتب محمد السعدي يلمس ذلك لمس اليـد، فيقول في ذلك :” كنت قادماً إلى دمشق، حالماً بوضعٍ سياسي آخر، يكون أكثر وعياً وتسامحاً وعمقاً، مما حـدا بـهِ لأن يقول:” هـناك وهـم كبير جداً، عند بعض الناس، بـأن الشيوعيّين يتفرّدون بخصالٍ تنظيمية، بعيدة عن البيروقراطية والإقصاء والتشهير، فلم نكن إلاّ جُـزءاً من مجتمع مضطرب، يشكو عـقدة صراع بين البداوة والحداثة، وبين الجذر الديني ونهـج العلمانية، إذ نتباهى بالإستهـزاء بمعتقدات الآخرين، بعيداً عـن رؤية موضوعية وفهم ذاتي، لمتطلبات السياسة والعصر والبناء، وما زالت تلك الأحداث حاضرة في ذاكرتي، ربما لبشاعة تفاصيلها ونحن رفاق حزبٍ واحـد ” /ص252 .

* هـذه الشواهـد والأحداث تُـضَـبِّب من رؤية المتابع للأحداث السياسية التي نشاهـدها، وهـو يختلط بالسياسيّين العراقيين والمهجرين الآخرين، وهو يستمع إلى أحاديثهم ونشاطاتهم الإجتماعية والثقافية، الأمر الذي يفقـد بوصلة التركيز على ماهـو رئيسي وما هـو ثانوي، فقـد اختلطت الحبال مع بعضها البعض، الأمر الذي أشكل على صاحبنا محمد السعدي لأن يقف على أسباب هذا التنافر السياسي والإجتماعي داخل الشيوعيين العراقيين وتجمعلاتهم في في أرض الشام، ولذلك عـمـد إلى الألتقاء بالوجوه السياسية المختلفة مع سياسة الحزب، وهـم كـل مـن : عامر عبدالله، حسين سلطان، باقر إبراهيم، عبد الوهاب طاهر، بهاء الدين نوري، عبد الحسين شعبان، غضبان السعد، عبد الرحمن القصّـاب وآخرين،بمستويات مختلفة من الرفاق خارج التنظيم أو داخله، فالأمر سيّـان” ثم يضيف الكاتب : كنتُ اسمع منهم في الأماسي اللّـيلية، ومقاهي الروضة والهـافانا، وإستقراءات عـن الوضع السياسي العراقي ومجريات الحرب العراقية، والموقف من النظام، ووقائع المؤتمر الرابع، والصراع الداخلي، وموضوع الحوار مع البعث وقيام الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، تماماً غير الذي كنا نقـرأهُ في أدبيات الحزب وصحافته اليومية، والتوجيهات الحزبية التي كانت تصلنا إلى كردستان في الجبل، وأيضاً أيام العمل الحزبي أيام الجبهة الوطنية.” /ص252 -253 .

* إن تجربة التواجد على أرض الشام، عـند كادرٍ حزبي ومثقّـف، تجعل من قراءة المشهـد السياسي والإجتماعي تنطلق من زاوية أخرى مختلفة، فما بالك من رفيق خارج من تجربة قاسية جـداً، عاشها بين صفوف رفاق مقاتلين، عاشوا تجربة الأنصار بشكل مختلف وأكثر قسوة من حياة الرفاق المدنيين، وهـو ما عاناه صاحبنا محمد السعدي، حين تشاكلت الرؤى عليه من أرض الشام، فما كان يستلمه من ” التوجيهات الحزبية” داخل المنطقة الجبلية، يختلف كُـليّـاً، وهـو خارج صفوف الحزب، من الناحية التنظيمية، وقناعاته السياسية قـد اهـتزّت تماماً من ” ممارسات خاطئة” واجهته وواجهت غيره من الرفاق، فانخلق حاجزاً نفسياً بينه وبين التنظيم، وبين من يشرفون عليه، وازدادت درجة الشكّ لديه، بعـد أن رأى ” ممارسات وتوجهـات” تمسّ الثابت الأخلاقي والسياسي في التزامه العقائدي، وفي سلوكهِ وممارساته، فازداد التوجّـس، وارتفعت وتيرته في داخل نفسه، فما عـاد يؤمن بذلك الحزب الذي كان ينتمي إليه، وقـدّم من أجلهِ تلك التضحيات الكبيرة، وبمجرّد اختلفت زاوية الرؤية لديه عـن الحزب، اختلف التوجّـه ضدّه، ممارسة وسلوك، وهـو الأمر الذي دفعه لأن يتلمّس مواضع قدميه في كل خطوةٍ يخطوها بأرض الشام. وبغـية فهم آراء مختلف الجهـات الشيوعية ” المنشقّـة” من الحزب، راح الكاتب محمد السعدي، يطلّلع على بعض منشورات هذه الحركات السياسية، فقد اطّـلع على منشورات ” المنبر الشيوعي” تلك الحركة التي كانت بتوجيهٍ يختلف عـن توجّهات القيادات الرسمية للحزب، حيث انطلقت هـذه الحركة السياسية، بعـد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي، وقـد ضمّت كل من : ماجـد عبد الرضا، ونوري عبد الرزاق، ومهدي الحافظ، وعبد الحسين شعبان، وعشرات غيرهم من الرفاق، ومن مستوياتٍ مختلفة، وكانت بعض القيادات الحزبية المتقدمة، والتي تم تنحيتها في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي ، كانت تتعاطف مع “هذه الحركة” حيث عُـرفت هـذه المجموعة بموقفها الوطني من الحرب العراقية – الإيرانية، وتُـنـدّد بالمشروع الإيراني./ص253

* في تلك الجموع السياسية المنقسمة والمنشطرة من جسم الحزب الشيوعي العراقي، كان حضورها واضحاً على الساحة السورية، ولها رموزها وأعـلامها ومثقفيها، الأمر الذي دعـا صاحبنا محمد السعدي، لأن يرتاب ويرتعـد ممّـا رأى، فراح يعيد النظر بتاريخ الحزب، بدءاً من عام 1963م، وبالمسيرة النضالية للحزب، وكيف وصلت الأمور إلى هـذه الحالة، وبهـذه القسوة التي تتعامل بها مع رفاق الحزب القدماءوكبار السِـن، لمجرّد الخلاف في وجهات النظر حول السياسة والموقف من بعض الحالات، حتى أنّـه بدأ يعيد النظر بالكامل بإنتمائه السياسي والفكري، بعدما لاحظ ما جرى، ومورس ضد الرفيق حسين سلطان ” أبو علي” من قبل رفاقه في اللجنة المركزية، “حيث سيكتب التاريخ عـنه بألمٍ وإدانة وعار”. إن هـذا الرفيق قـد أفنى حياته من أجل الحزب، وقـدّم أبناءه شهداء للحزب، وهـو في سِـنٍ طاعنة وقـد ” قُـطعت عـنه – المعونات المالية- والتي كانت مصدر معاشهِ الوحيد، وقـد تـآمرت عليه قـيادة الحزب في دمشق، وقاطعوه حزبيّـاً واجتماعيّـاً، وسعوا على تشويه تـاريخه ومواقـفه الوطنية، وهي ” جريمة حزبية” يعاقب عليها النظام الداخلي، كما يقول الكاتب . / ص253 .

* لقـد وصلت الخِـسّـة ببعض قيادات الحزب لأن تكتب ” تقـارير سياسية كيدية” إلى الجهات السورية الأمنية، واصفة رفاق الأمس بشتّـى التُـهـم الكيدية، لدوافع وأجـندات ومصالح وأهـداف للقضاء على ” بـريق الحزب وتاريخه النضالي” كما يقول الكاتب . /ص254 .

ويستـشـيط الكاتب غضباً من هـذه السلوكيات الشائنـة، حتى أنه يقول: ” لم يُـكتب التـاريخ بأمـانة، طالما هُـناك إنتهـازيون ومنافقون ومُـتملّقون وصبيان، يعتبرون باقر إبراهيم وحسين سلطان وعامر عبدالله وبهاء الدين نوري، وآرا خـاجادور وغيرهم، متعـاونين مع الجلاّد، وقـد تمَّ تهـميشهـم ودورهم في صناعة هـذا التاريخ الشيوعي العراقي، لأنّـهم عـبّروا عـن موقفهم النضالي من محـنة الوطن، أو خـلافات فكرية، أدّت بهم إلى خارج حلبة التـنظيم، وهـؤلاء وغيرهم عشرات الكوادر المتقدمة، يبقون جـزءاً مهـماً من تاريخ الحزب الشيوعي وضميره، فـقـد جسّـد هـؤلاء معايير الأخـلاق في الحياة والرفقة النضالية” /ص255 .

وعلى ضوءِ تلك التناقضات والسلوكيات المشينة، يتذكّـر الكاتب صدى وسمعة الشيوعيين الأوائل، “عندما كانت الجماهير تتلهّـف لسماع صوتنا ووجودنا، لكننا أخفقنا في تحمّـل هـذه المسؤولية الوطنية، وفراغ الشارع العراقي من قـوّة مؤثّـرة، فقد ذهبت هذه الجماهبر يائسة إلة ” تنظيمات أحزاب الإسلام السياسي المتخلّفـة، لتخلق لك نِـدّاً جـديداً في العمل السياسي تحت يافطـة ( العملية السياسية الطائفية الأمريكية). والكاتب يعتقـد أنـه ” كان واجباً علينا أن نُـدين هـذه العملية السياسية ونرفض الجلوس على مقاعِـدها الركيكة، جُـملةً وتفصيلا، بعيداً عـن أيّـةِ صياغاتٍ فلسفية، تُـرهـن بها مواقفك، وتُـضيّـع بوصلتك النضالية والتاريخية” / ص255 .

وأزاء هـذه الأوضاع “ضاع الطاس والحمّـام”، حيث اشترك الجميع في عملية سياسية طائفية، دون أن يُـرى أيَّ مشروع وطني من هـذا الحزب أو ذاك .

*ظلّت هـذه التداعيات المتلاحقة، تضغط على تفكير الكاتب محمد السعدي، وجعلته يستغرق في تفكيرٍ عميق، يستعيد من خلاله ” حُـلماً” بمشروعٍ وطني، يجمع حوله كل طاقات أبناء العراق الخلاّقـة، وليس الوقوف عاجزين حمل السلاح لمواجهة المحتل الأمريكي،وفضح نـواياه وتعرية أساليبه، هـذ الإخفاق النضالي – السياسي في إعـلان موقف صريح من الأحداث، مُـقـترناً بمواقف عملية، تُـبرهـن صدق نيّـتنا في حملِ هـذا المشروع المضاد لمشاريع الإسلام السياسي المتخلّف عن روح المواطنة وقـيم الوطن، وهـذا ” بـرهـانٌ آخر على غيابنا الفعلي في الشارع العراقي، وضعف بصيرتنا” كما يقول الكاتب. / ص256 .

* في دمشق،تـداخلت النظريات السياسية، الماركسية والقومية والبعثية، ونظريات الإسلام السياسي، حيث أنـهـا خلقت آراءً حـادة ومتناقضة، بين غالبية الفصائل السياسية المعارضة، وانعكس الموقف على الشيوعيين بشكلٍ خاصن حيث ظهـرت ” نـزعـة الدفاع عـن الوطـن” بشكلٍ صادق عـند الكثير من الق5يادات الشيوعية المعارضة، أو المنسجمة مع الحزب الشيوعي الرسمي، وقـد تصدرت قائمة المعارضة هـذه كل من ” الرفيق زكي خيري، باقر إبراهيم، عامر عبدالله، آرا خـاجادور، ماجد عبد الرضا، نـوري عبد الرزاق، مهدي الحافظ، عبد الحسين شعبان، عـدنان عباس، ورفاق آخرون من الكادر الحزبي المتقدّم .

وقـ حاولت ” قيادة عزيز محمد وفخـري كريم زنكَـنة” الإساءة إلى هـؤلاء الرموز الوطنية، ومحاولة ” تسويق مشاريع وأجـندات تستهـدف وحدة العراق وأراضيه” ./ راجع ص258 – 259

بـدأت هذه الأجواء تعكّـر صفوَ الناس وتضعف عتزائمهم، حتى بـدأت موجات من الناس تتهـيأ للخروج من دمشق، فحـالات البطالة وضنك العيش، كانت تـدفع الكثيرين للمغادرة والخلاص من ” بـؤرة دمشق” وكثرة القيل والقال فيها، لذلك شعر صاحبنا ” محمد السعدي” بضرورة الرحيل من دمشق، وقـد ساعده في ذلك الرفيق عامر عبدالله بالحصول على ” جـواز سفر “من جمهـورية اليمن الجنوبية، فتوجّـه إلى براغ أولاً ووصلها بتاريخ 15/ أيار/ 1989، حيث كان باستقباله الرفيق عامر عبدالله وآخرين،، حيث كانت تعقد بعض المشاورات السياسية لمختلف القوى الشيوعية لإيجاد ” مشروع للمصالحة الوطنية، بين رفاق الحزب الشيوعي وسلطة البعث، والعـودة من جـديد إلى ” ميثاق الجبهة الوطنية” وكان الوسيط في هـذه المساعي د. مكرّم الطالباني، لكن المشروع أُحـبط من قبل ” عزيز محمد وجماعته، فتوقّـف كل شئ”/ ص262 .

* بعد ذلك تفجّـر الموقف داخل الحزب الشيوعي العراقي، بسبب تباين الآراء والمواقف، وما صدر من بيانات للقوى والتيارات السياسية الأخرى المعارضة لساسة الحزب الشيوعي، وقـد كانت ” رسائل الرفيق عامر عبدالله وباقر إبراهيم، وعـدد آخر من القيادات الشيوعية السابقة، إضافة إلى ما تنشرهُ ( جريدة المنبر الشيوعي) من مطارحات ونقاشات فكرية وسياسية، خصوصاً حول مسألة ” الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية” / راجع ص264 .

* عندما تتكـرّر الأخطاء في حركة سياسية، يتوجّـب على أقطابها مراجعة المواقف والمنعطفات التاريخية التي حصلت فيها، وهـذه المسألة شغلت تفكير الكثير من السياسيّين العراقيين، لا سيما مسألة ” تحالف الشيوعيين مع البعثيين” وما نتج عنها من مآسي وتـدهـور لحالة العراق السياسية، لذلك يستعرض الكاتب محمد السعدي تـداعيات هـذه الحالة بتوسعٍ واستفاضة . / راجع ص265 – 274 .

* السـويـد- المحـطـّـة الأخيرة وإعـادة التفكـير :

رحلة النضال السياسية والإجتماعية، عـند الكثير من الشيوعيين العراقيين، رست بهم في المنافي الأوربية والأمريكية، بين مهـاجرٍ ولاجئ إنساني، في هـذا البلد أو ذاك، وضاعت الأحلام النرجسية والوردية للنضال الثوري، وراح البعض منهم يسـتدرك ما تبقّـى من عُـمرهِ، ليكمل بقية حياته بهـدوءٍ ووقـار، بعـد أن تبخّـرت كل الطموحات الثورية، وصارت الأحـلام ضربـاً من الخيال .

وحين تستقـر الحـواس وتهـدأ، يبدا العقل بمراجعـة كل أفعال النفس، بغية معرفة ما فات من العُـمر، وما تحقّـق من أُمنياتٍ ومشاريع وأحـلام كانت ترسِـمُ أُفقـاً لزمانٍ مضى وانقضى، وتـبدأ حالة التـداعي لما مَـرَّ وفـات، وأوّل تلك الحالات تـبدأ بالحضور هي ” سِـني النضال المهـدورة” وما رافقهـا من إخفاقات ونجاحات، وسِـجلاّت العمر تنفـتحُ على قـراءة اللّـوحات المنكسرة في النفس، أو تلك التي أصابها التـشـوّه وعـلاهـا غِـبار السنين.

* والسـويد/ كانت حُـلماً يراود غـالبية العراقيين الذين مـرّوا بدمشق، كمحطّـةٍ إجبارية، رأينا فيها ما كان مُـخبّـئٌ لـنا من غير حساب، وحين وصلَ صاحبنا محمد السعدي إلى السويـد بتأريخ 3 / 6 / 1989م ، لم يكـن يُـصدّق لحظة وصولهِ، وكان الشـكُّ يطبق عليه، بعـد أن تـرجّـلَ من سفينة النقل البحرية، والتي أقـلّـتهُ من بولونيا، تتـثاقـل الخُـطى عـند النزول والتوجّـه إلى ” كـابينة تـدقيق الجـوازات” وبعـد أسئلة روتينية، تـم نقلهِ إلى فندقٍ وسط المدينة، كان مخصّـصاً إلى اللاّجين من مختلف الجنسيات . / ص275 . بعـد إسبوعين حصل على الإقامة في السويد ، كلاجئ سياسي، ومن بعـدها ” نزل إلى الحياة العملية، دون انتظار المساعدات المالية” من الدوائر السويدية، وهـناك بـدأت ” ملامح الأفكار السياسية” تعيد شجونها إلى مُخيّـلتهِ، فقـد ساهم بعـدّة نشاطات ونـدواتٍ وكتابات، وتوقيع بيانات كانت تُـدين أيَّ خـدشٍ يمسُّ وحـدة العراق وتاريخه، متقاطعاً بوجهات نظرهِ مـع مَـنْ راهـن ورهـنَ موقفه في التعويل على ” العامل الخارجي” /ص276 ، ولذلك راوده الحنين إلى العمل السياسي مرّةً أخرى، حيث بـدأَ في منتصف عام 1989م مع مجموعة من الوطنيين العراقين بتكوين ” تيار وطني للـدفاع عـن العراق أمام العالم، والوقوف ضد الحصار، ومعارضة احتلاله وعمليته الطائفية ومحاربة رموزهـا ./ ص276 .

* ضمن حالات الـتداعي التي رافقت تفكير كاتبنا محمد السعدي هي ” كارثة غـزو الكويت” وما قام بـهِ ( قـائد متغطرس، يجهل أبجديات القيادة) مما أوقع العراق بكارثةٍ سياسية واجتماعية، لم نخلص من نتائجها حتى اللّـحظة.

وحالة تسحب حـالة، في هـذا التـداعي، راح يستحضر الكاتب لحظة وصول ” صدام حسين للسلطة، وكيفيّـة قيامه بمذبحة رفاقهِ البعثيين بمسرحية قـاعـة الخـلد ببغـداد عام 1979، بعـد أن أجبر أحمد حسن البكر على الإستقالة من منصبهِ، ثم قيامهِ بإشعال الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988 ، ثم قيامه بحالة الحصار على الشيوعيين العراقيين، وإجبارهم على التوقيع على ” قانون رقم 200 ” هذا القانون الذي ظلَّ سارياً حتى سقوط النظام الفاشي عام 2003م . / ص282 .

* تضغـط الحالة الإجتماعية التي مـرَّ بها المجتمع العراقي، على حالة التفكير المتأمّـل التي كان يعيشها صاحبنا محمد السعدي وهو في السويد، فهـو ينظر إلى ” الشخصية العراقية” بوصفها ” صانعـة الطواغيت” ، كما أنه يعتقد ” أن العراقيين هُـم الأكثر قرباً في احتراف هذه الصناعة من خلال ” رسومات السياسة العراقية التي انعكست مع الوقت على بُـنية وتكوين سايكولوجية الفرد العراقي، حيث بات الفرد يشعر أنّـهُ متّـهم ومشتبهٌ بـهِ” في ظل الدولة الفاشية للبعث. / ص285 .

* حـالة الإنتماء للحزب الشيوعي العراقي، جعلت الكاتب محمد السعدي أن يقـرأ ” لوحـة إنتمائه السياسي” بشئ من المراجعة العنيفة للذات وللتنظيم، وخصوصاً فترة ما بعد منتصف السبعينات من القرن الماضي، حينما حاصر البعث كل منظمات الحزب الشيوعي ، وجعلهم خارج حـدود الوطن، ولا تـأثير لهم في الداخل. حتى أنه يقول :” في مطلع الثمانينات لم يعد لنا وجود رسمي ولا قانوني ولا جماهيري بفعل وطأة النظام علينا” / ص286 / ولم يعُـد للجبهـةِ من وجودٍ فاعل، والسياسة في العراق- كما يصفهـا – عبارة عن صفقات وهـزائم ونفاق، وكـذب وارنزاق، وهـي بعيدة عن الصدقِ والوطن . / ص288 .

* ومـن التـداعيات المؤلمة في السويـد، ما يُـعرّج على ذكره الكاتب محمد السعدي في ص299 ،بأن ” منظمة الحزب الشيوعي العراقي ( في السويد) قـدّمت تقريراً إلى ” الجهات الأمنية السويدية” تتّــهم فيه السيد باقر إبراهيم، بـأنـه كان يخاطب أجهزة نظام البعث ” مما استدعى السلطات السويدية إلى التحقيق معه، وحين شرح لهم ” أبو خولة” رؤيته الوطنية في الدفاع عـن العراق، أرضاً وشعباً” إعـتذرت منه تلك السلطات السويدية، حتى أن بعضهم اعتذر منه وقال ” لو كُـنّـا في موقعك، وتعرّض بلدنا إلى هذه الهجمة الشرسة، وفرض الحصار الجائر، لوقفنا بمستوى موقفك” ثم ودّعـوه بسلام حار، وشـدّوا على يـديه، وأخذوا منه بتقدير، نُـسخاً من كتاباته ونشاطه وتاريخه السياسي ” راجع ص300 .

* ومن تلك الـتداعيات أيضاً في السويد، يبـدأ الكاتب محمد السعدي ” بـتقـيّـيم تجربتهِ الشيوعية” ويتوقّـف عـد فهمهِ لمعنى ” الشيوعية” فهي عـنده : الشيوعية هـي الوطن، ولكي تعلو إلى هـذا المقام وهذا الإنتماء، فـإن الوطن بوصلة عالية وغالية، لا يمكن المساومة عليه” ص309 .

* سيل التـداعيات في المغترب السويدي، تجعل الكاتب يستحضر بعض ذكرياته عـندما كان في جبال شمال العراق، وكيف أنه ” التقى بمجموعـة انشقّـت عن الحزب الشيوعي العراقي، عُـرفت بإسم ” الشيوعيين الثوريين” حيث كان هـؤلاء يتواجدون ضمن مقرات ” الإتحاد الوطني الكردستاني ” وكانوا يقضون جُـل وقتهم في القراءة والمتابعة، وإصدار بعض البيانات حول تطورات الأحداث، وهـؤلاء كانوا من جماعة ” سـليم الفخري” ذلك الضابط الشيوعي السابق، والذي خرج من الحزب إعـتراضاً على خـط آب 1964 المعروف، والداعي إلى الإنخراط والإنـدماج مع الإتحاد الإشتراكي العربي، وهـذه المجموعة تأسّـست في بيروت عام 1979، ودخلت إلى كردستان بشخصين هُـما ” زُهـير – رياض جاسم جابر، وآخر إسمهُ ” سالم” وقـد تـمَّ اغتيالهما بمسدسٍ كاتمٍ للصوت، من قبل عـناصر مُـندسّـة في الحزب الإشتراكي الكردستاني( ح س ك) والمعروفة بإسم ” جماعة رسول مامند” ، وقبورهم مازالت موجودة في ناحية ” زلي” في منطقة ” دلتو” خلف جبل مامـنـد ” / ص311 .

* تـداعيات الحـالة النفسية في بغـداد .

لم تكن العاصمة العراقية بغـداد غائبة عـن تـداعيات كاتبنا محمد السعدي، فهي القلق الأكثر حضوراً في وعـيه وفي لاوعيه، لذلك نراه يفرد لها ” فصلاً كبيراً، يمتـد من ص312 – 342 ، ويكاد يكون هذا الفصل بمثابة ” خلاصة الكتاب” ففيـه تـداعيات الحالة السياسية والإجتماعية والثقافية، وتنساب فيه الذكريات واحدة تلو الأخرى، ففي شباط 2004 ، قـرّر صاحبنا العودة إلى بغـداد، قادماً من إستوكهـلوم، بعـد ثلاثين سنة من النضال والمنفى والمكابدة والمعاناة واليأس من مشروعات الأمس، والضياع التاريخي، وغصّـة التساؤلات المشروعة، وكيفية ضياع سنوات العُـمر والتضحيات الجسيمة، والمفاهيم المغلوطة لمعنى ” الطليعة الثورية” والتي أفـقـدتنا الوطن، ومسيرة مُـتلكئة، وعملية سياسية فاسدة وباطلة، أجراها وعمّـدهـا الإحتلال بأيـادٍ محليّـة” /ص312 .

* كانت الطُغـمة الفاسدة بقيادة البعث الفاشي، هي التي قادتنا وقـادت العراق إلى هـذا الدمار الشامل، والذي أصاب البلد والمجتمع بهذا بهـذا التدهـور، فـأزلام البعث، بعـد أن أسقطوا الدولة والنظام، أبـدلوا ” بـدلاتهم الزيتونية” بِـجُبّـةٍ وعمامـة ومحابس عقيق، وتـصدروا أجندة التخريب والتقسيم والفساد والقتل. / ص318 .

* وضمن تـداعيات الموقف في بغـداد، تبرز الأسئلة حاملةً معها مشاهـدات الكاتب من خراب ودمار، وكيف أصبحت هـذه المدينة الجميلة وشوارعها مـكبّـاً للنفايات، فتعـود به الذكريات وحديثه مع الرفيق باقر إبراهيم، حين سـأله :أين كـنتم في تلك المرحلة! أولم تفكروا بإستلام السلطة!؟ فيجيب باقر إبراهيم ” كُـنّـا نعـاني من إنقسامات وانشقاقات من جهة، ومواقف رفاقنا السـوفيت في اتجاه مـدّ الجسور الوديّة مع ساسة الحكومات المتعاقبة على حكم العراق، من جهةٍ أخرى “/ ص323 .

* تـتـداعى الأسئلة الحيرى أكثر ، حين يتوجّـه الكاتب إلى ملاعب طفولته ” قريـة الهـويدر”، تلك القرية التي نشأ فيها، وكان السؤال المُـقلق أكثر : لماذا حدث انشقاق الحزب عام 1967، وكيف بـرزت قيادة جديدة سُـمّيت ( القيادة المركزية ) ؟ / ص323 .

* * *

* الخـلاصــة :

من يقـرأ هـذا الكتاب ( بيـني وبين نفسي ) للكاتب محمد السعدي، فـإنه سيقف على تجربة نضالية قاسية، لا تشمل تجربتهِ وحـده، بل تنسحبُ على آلاف الشيوعيين العراقيين، الذين تركوا مواقعهم في الحزب الشيوعي العراقي، ولكن القاسم المشترك بين هـؤلاء وتجربة ” محمد السعدي” تكاد تجـد لها تطابقاتٍ واضحة بينهم، من حيث السلوك الخاطئ للحزب الشيوعي مع هـذه الآلاف من الكوادر، الامر الذي يعكس خلخلة البُـنـية الفكرية والتنظيمية لدى قيادات الحزب الشيوعي، في كثير من المنعطفات التاريخية والسياسية، وهـو ما يجد صداهُ بوضوحٍ في هـذا الكتاب.

* تُـشكِّل هذه التجربة، وفق انعكاساتها، تجربةً ذات خصوصية، لامست بمجرياتها، جروح آلاف المناضلين عـن قرب، ورسمت معالم حياتهم السياسية والنضالية بـدقّـةٍ عالية، بحكم وجود صاحب التجربة، بالقرب من أصحاب القرار السياسي والتنظيمي، ويصح القـول أن هـذا العـمل خِـبرة نضالية مُـستقاة من الحياة اليومية للمناضلين الشيوعيين العراقيين، في مختلف ظروف العراق السياسية والإجتماعية، لا سيما في فترة صعود البعث الفاشي إلى السلطة السياسية في العـراق، بِـدءاً من تجربتهم عام 1973م وحتى سقوطهم على يـد الإحتلال الأمريكي للعـراق عام 2003م ،

* تكشف هذه التجربة، مـدى تخلّف بعض القيادات السياسية في الحزب الشيوعي العراقي، من الناحية الفكرية والتنظيمية، الأمر الذي يعكس مقدار حـالة الغضب، عـند شيوعي القاعـدة في الحزب، الأمر الذي أدّى إلى ” إنشقاقات وتكتلات تاريخية” لم يجرِ معالجتها بشكلٍ فكري وتنظيمي ، وظهرت صور هـذا التناقض في انهيار تجربة الحزب الشيوعي العراقي مع البعـثيّين في تجربة ” الجبهة الوطنية”، الأمر الذي جـرَّ الويلات على مناضلي الحزب الشيوعي ، وانعكس بتراكماته على صيرورة النضال السياسي في تجربة ” حركة الأنصار الشيوعيين” في المنطقة الكردية في شمال العراق.

* يعكس الكتـاب بمرارة واضحة، الضُعف النظري والتنظيمي لغالبية القيادات السياسية في تجربة ” الكفاح المسلّح” وكان من نتيجتهِ بـروز ” النـزعـة القـومية الكردية” عـند الشيوعيين الأكراد، وظهر هـذا واضحاً في ” أحـداث مجزرة بشت آشان” عان 1983، حيث ظهر هـذا السلوك في ” البيان السياسي ، الذي كتبه ” كريم أحمد، وأحمد باني خيلاني” وهما من القيادات الكردية في قيادة الحزب، وقـد اعتبرته القاعدة الحزبية ” بيـان الخيانـة” وقد استطاع الكاتب محمد السعدي من تسليط الأضواء على هـذه المجزرة البشعة، والتي قام بها بها ” الإتحاد الوطني الكردستاني ” بقيادة جـلال الطلباني، الذي تواطئ مع السلطات العراقية البعثية، في تنـفيذ هـذه المجزرة .

* إستطاع الكاتب من توضيح ” ردود الأفعال ” في القاعـدة الحزبية، على مهـادنة الحزب الشيوعي العراقي لجلال الطلباني وعـدم إدانته وإدانة حزبه “لمجزرة بشت آشان” وحتى هـذه اللّحظة، وعلى ضوءها زادت الإنشقاقات في الحزب الشيوعي، وظهرت عِـدّة تيارات في المنطقة الكردية في شمال العراق.

* تغـافل الكاتب – لأسبابٍ لا نعرفهـا – عـن عـدم توقّـفهِ مع مسألة” إنشقاق الحزب الشيوعي الكردستاني” من جسم الحزب، بتواطئ واضح من أعضاء اللجنة المركزية الأكراد ، الموجودين في قيادة الحزب الشيوعي العراقي، ولم يذكر الكاتب هـذه المسألة على الإطـلاق ! .

* كشف الكاتب بوضوح، مقدار حـالات الإختراق السياسي والأمني من قبل أجهـزة المخابرات العراقية، وكيف جعلت من ” رفاق الحزب” بـدرجاتٍ متفاوتـة، أن يكونوا ” عُـملاء للنظـام” وعملوا على إيجاد ” شبكاتٍ سـريّة للعملاء” داخل تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، الأمر الذي زاد الطين بِـلّـةً في تضعضع كيان الحزب الشيوعي، وجعله أن يفقـد رصيده الجماهيري بين طبقات المجتمع، نـاهيك عـن حالات الإستقالات شبه الجماعية، أو ترك مواقع النضال السياسي ، بشكلٍ أو بـآخر.

* يمكن لـهذا العمل أن يُـشكِّلَ ” وثيقة سياسية لشاهـد عيان” تُفيد عـلم ” الساسيولوجيا والأنثروبولوجيا” للتأشيرِ على حـالات الوعي والتطور السياسي والإجتماعي ، لأعرق حركة سياسية في الشرق الأوسط. ففي بعض الفصول، يعمـد الكاتب إلى كشف إنتـماءات الأعضاء في الحزب، وإلى درجة تطورهم السياسي والثقافي، ويميل كذلك إلى ” بساطة الإنتماء الطبقي” إلى جمهرةٍ واسعة من الناس الذين دفعوا أبناءهـم للإنتماء إلى هـذا الحزب، وقـدّموا حياتهم قُـرباناً من أجلِ مبادئهِ .

* يحمل هـذا العمل ” صفحاتٍ كثيرة يمكن أن توظّـف في ” عمل درامي” لمسلسلٍ تيليفزيوني، نظراً لكثرة الأحداث والشخصيات فيه، والحوارات في مختلف وجوه الحياة اليومية والسياسية من مختلف الزوايا، فقـط يحتاج العمل إلى ” مخرجٍ بـارعٍ” ليعيد صياغـة الحكاية في ” سيناريو” سياسي، يكشف فيه مـراحل تاريخية، من تطوّر حالة العمل السياسي في العراق، بين السلطة والمعارضة، ويكشف من جانبٍ آخر، مـدى حـالة التناقض في بُـنية الحزب الشيوعي، من الناحية النظرية والعملية، حيث هُـناك ” آراءً” في القاعدة الحزبية، أنضج بكثير من قيادة الحزب ولجنته المركزي.

* يحسب للكاتب محمد السعدي، في هـذا العمل، جُـرأتـهِ في كشف الحقائق السياسية التي تعرّض لها في أقبية ” المخابرات العراقية ” وطرحها على القـارئ بكل وضوح وقناعـة .

* * *

د. خيرالله سعيد / أوتــاوا 15/ شباط/ 2022 .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com