ثقافة

إحصاء السرد غير الطبيعي واستقصاؤه.

بيدر ميديا.."

إحصاء السرد غير الطبيعي واستقصاؤه

نادية هناوي

 

تحتل دراسات السرد ما بعد الكلاسيكي مكانةً خاصةً في مخابر البحث، في كثير من الجامعات الغربية، حتى صار مهماً إحصاءُ تلك الدراسات إحصاءً علمياً يستقصي درجة تصاعد الخط البياني في منهجياتها وأصنافها، كأبحاث أو مقالات أو ورش، ومعرفة طبيعة ما أضافته إلى النظرية السردية المعاصرة من كشوفات وطروحات.
ومن تلك الدراسات ما قام به براين ريتشاردسون من استقصاء للأعمال البحثية المنجزة والدراسات المنشورة ما بين الأعوام 2013 ـ 2020 حول فرع من فروع السرد الكلاسيكي هو، السرد غير الطبيعي. وحملت دراسته عنوان «آخر الأعمال المنجزة في دراسات السرد غير الطبيعي» وهي منشورة في المجلد التاسع من مجلة «الدراسات الادبية واللغوية» (نص وكلمة) 2020. وهدفه من وراء هذا الاستقصاء إحصاء وتبويب ومعاينة مخزونات الوحدات البحثية والمعرفية المتحصلة من جراء دراسة السرد غير الطبيعي عبر هذه السنوات السبع.
ومما أكده ريتشاردسون، أنّ مراجعة مثل هذه الدراسات المكرسة نحو هذا النوع من السرد والاستشهاد بها ومناقشتها هو أمر مهم على نطاق واسع، منها دراسته هو نفسه المعنونة «السرد غير الطبيعي كنظرية وتاريخ وممارسة» 2015 ودراسة جان البر للعوالم المستحيلة وغير الطبيعية في الخيال والدراما عام 2016. ودراسة بيو شانغ للسرد غير الطبيعي عبر الحدود: وجهات نظر مقارنة عام 2019.

ولأن جان البر هو أكثر المنظرين للسرد غير الطبيعي إنجازاً، وأوسعهم جهوداً في هذا المجال، قام ريتشاردسون بإحصاء مؤلفاته، متتبعا ما وضع فيها من شروحات مفصلة للسرديات غير الطبيعية، وما يتضمنه التاريخ الأدبي من نصوص يونانية ورومانية قديمة وأعمال سنسكريتية كلاسيكية، بدءا من القرن الثاني عشر، مرورا بروايات أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة ونصوص القرن الثامن عشر الرومانسية، وصولا إلى الروايات الحداثية وما بعد الحداثية في القرن الواحد والعشرين. ولا شك في أن اهتمام جان البر بالحدود النظرية للسرد غير الطبيعي من ناحية التصنيف والتعريف، جاء متزامناً مع ما أولاه زملاؤه الأربعة ريتشاردسون وستيفان إيفرسون وهنري سكوف نيلسون وبيو شانغ من انشغال بهذا السرد، فضلا عن دراسات ماريا ماكيلا ومارينا جريشاكوفا وسيلفي باترون، ومن قبلهم ديفيد هيرمان وآن بانفيلد ومونيكا فلودرنيك وغيرهم، ممن ساهموا في إرساء أسس نظرية السرد غير الطبيعية.. بيد أن براين ريتشاردسون يظل هو المقدّم عليهم بما أخذه على عاتقه من مسائل نظرية وتاريخية في دراسة الشخصيات والأمكنة غير الطبيعية وعناصر السرد الخيالية وغير الخيالية، وكل ما له علاقة بالمنهجية في النظرية السردية، بما فيها السرد النسوي غير الطبيعي وسرديات المهمشين والإثنيات.

أما جهود بيو شانغ التي أحصاها ريتشاردسون، فتتوزع بين اكتشاف موضوعات السرد غير الطبيعي، وتقييم مواقف التلقي القرائي والنقد النظري؛ ومنها دراسته المقارنة بين الروايات غير الطبيعية المحلية والأجنبية، وفيها وجّه الانتباه بشكل مهم نحو عدد من النصوص القصصية المهملة، كقصص الأشباح الصينية المتحورة حول موضوع السفر عبر الزمان، مثل روايات التشيجواي المتضمنة حكايات عن السلالات الست التي حكمت في الصين للمدة (220-589) وكذلك قصص عراقية حديثة وفيها توظيف للسرد غير الطبيعي. ولعل أهم توصلات شانغ تتمثل في ما وضّحه من أثر الهيمنة الغربية في هذا النوع من الدراسات السردية، وأنّ من الضروري خرق مركزيتها وإنهاء استعماريتها من خلال إعطاء أهمية للغة الصينية والعربية في مفاهيم السرد غير الطبيعي.
ولا مراء في أن هناك أعمالاً بحثيةً أخرى تتلاقى مع ما تقدم من دراسات، لكن ريتشاردسون لم يتوقف عندها لغياب توظيف مفهوم السرد غير الطبيعي داخلها. ومن الكتب المهمة التي أحصاها ريتشاردسون كتاب سوزانا فونوكوفا «منحنى اللاموثوقية في السرد غير الطبيعي» وهو عبارة عن دراسة تتبعت المؤلفة عبرها عدداً من الاستراتيجيات غير الطبيعية من خلال قراءتها لروايات السويسري ماكس فريش (1911ــ1991) وروايات الياباني البريطاني كازوو ايشيغورو (1954) مركزة تركيزا واضحا على أفعال السرد المتطرفة وغير الطبيعية، وفعالية التصوير للحالات النفسية التي يمارسها السراد غير الموثوق فيهم. وعرج ريتشاردسون على كتابه الموسوم «شعرية الحبكة في القرن الحادي والعشرين: تنظير الروايات الجامحة: نظرية السرد التفسيري» 2019، وفيه حلل عددا من العناصر السردية، وفق منظور غير طبيعي كبناء الافتتاحيات والحبكات وزمان الحكاية والتتابع والقفلات، مستكشفاً أشباه الروايات التي ترتكز على حبكات غير طبيعية، أو غير محتملة تؤديها فواعل غير اعتيادية وبأزمنة مستحيلة كامتدادات وترددات. ومن الانطولوجيات المهمة التي وقف عندها ريتشاردسون ووجدها ترسي أسس نظرية السرد غير الطبيعي: كتاب «شاعرية السرد غير الطبيعي» 2013 حرره ألبير وريتشاردسون ونيلسون. وكتاب «الضمائر في الأدب» 2018 تحرير أليسون جيبونز وأندريا ماكراي. وكتاب «علم السرد غير الطبيعي: الامتدادات والمراجعات والنقد» 2020 لألبر وريتشاردسون.

وشارك في هذه الانطولوجيات الثلاث مجموعة من الباحثين، مقدمين رؤاهم حول القص والتحبيك والعقول الخيالية والعناصر غير الطبيعية في الخيال الواقعي التقليدي، والإنشاءات المستحيلة والجوانب غير الطبيعية في استعمال ضمائر الخطاب والتكلم داخل روايات تدور موضوعاتها حول الفصل العنصري، أو روايات فيها السارد هو الشخصية المركزية ويحمل اسم المؤلف نفسه، كما في دراسة كاتي ويلز ـ وهي بروفيسورة من جامعة نوتنغهام ـ لمسرحية هاملت، وفيها تساءلت عما يعنيه ضمير «أنا» حين يتحدث الممثل شكسبير على المسرح، وهو يلعب دور إحدى الشخصيات التي ابتكرها. وقد أشاد ريتشاردسون بما قدمته ويلز من قراءة ثاقبة لما عده نوعاً سردياً جديداً وغير طبيعي يقوم على اللعب المبتكر في تحويل الضمير بطريقة غير معتادة، تخلياً عن ضمير الشخص الثالث.

كما أشاد بالفصل الأخير من قصة لورانس المعنونة «أشياء» وما فيها من تأثيرات دراماتيكية في الخطاب السردي. وأشار ريتشاردسون إلى أن أنطولوجيته المبكرة «شعرية السرد غير الطبيعي» كانت قد دعمتها انطولوجيا ألبر «السرد غير الطبيعي: الامتدادات والمراجعات والنقد» وتبدأ هذه الأنطولوجيا بثلاث مقالات أيديولوجية، أولاها لكاترين روماجنولو وفيها كتبت عن السرد غير الطبيعي في الروايات النسوية. وثانيتها لدوروثي كلاين وتناولت فيها الآثار الأيديولوجية للسرد غير الطبيعي لروايات الأستراليين من السكان الأصليين. وثالثتها لسيلفي باترون وفيها درست بشكل نظري روايات فلسطينية غير طبيعية. وقدمت ملاحظات مهمة عن العناصر غير الطبيعية التي لا يمكن تجنيسها بشكل فعال. وأحصى ريتشاردسون أيضا بعض دراسات السرد غير الطبيعي، منها دراسة رافاييل باروني للملامح غير الطبيعية للسرد الشعبي، وفيها حدد تعريفه للشخصيات غير الطبيعية على أنها شخصيات ذات جوانب مضادة للمحاكاة تتحدى عالم الاحتمالات وتراوغ الأنواع التقليدية بالاعتماد على الدراما والأفلام والرسوم المتحركة والأفلام الشعبية، وفيها تفتقر مثل هذه الشخصيات إلى سمات متسقة تجعلها غير شبيهة بالبشر.

ومن الدراسات أيضا دراسة دانيال بوندا للعواطف في القصص غير الطبيعية، ووظّف فيها النظريات المعرفية حول كيفية إثارة القصص للاستجابات العاطفية، وهل يمكن للظاهرة غير الطبيعية أن تساهم في تغيير هذه الاستجابات. وكذلك دراسة روي سومر للمفارقات الطريفة التي تنجم عن قراءة الروايات المتطرفة أو غير الطبيعية. وووقف ريتشاردسون عند مجلات أدبية نشرت أعداداً خاصةً ومهمةً حول نظرية السرد غير الطبيعي، ومنها العدد الخاص الذي نشرته مجلة style عام 2016. وافتتحه ريتشاردسون بمقال عرّف فيه بالغاية من وراء استكتاب نقاد ومنظرين يدلون بآرائهم حول جوانب مختلفة من نظرية السرد غير الطبيعي، مثل جان ألبير ومارينا جريشاكوفا وستيفان إيفرسون وماريا ماكيلا وهنريك سكوف نيلسون، فضلا عما تم تقديمه من تعليقات واستقراءات حول دراسة الأحداث والشخصيات غير الطبيعية.
ومن المجلات أيضا مجلة «عوالم القص» Storyworld التي قدمت في المجلد الثامن 2016 رؤى نظرية حول النسوية والسرد غير طبيعي منها مقالة لإلين فشر، ودراستان لكاثرين رومانيولو وكاثرين ويز حول نصوص نسوية غير طبيعية. وأعدت مجلة «الشعريات اليوم» Poetics Today عددا خاصا في ربيع 2018 حوى عددا من المقالات حول وجهات النظر المعرفية والسرد غير الطبيعي، وعددا من الموضوعات السردية عن المحاكاة والخيال والمنظور والعقول الخيالية وتفسير الأحداث والسرد في وسائل الإعلام. أما مجلة «حدود الدراسات السردية» فقدمت في عدديها الثالث 2017 والرابع 2018 دراسات عن السرد غير الطبيعي؛ اهتم العدد الأول بدراسة الأدب التجريبي والنظرية السردية، وكرّس العدد الثاني مقالاته للروايات غير الطبيعية ونظرياتها كمقالة شورد جيروين مويناندر ومقالة إيفا إس التي ناقشت التحليلات الفيلمية للسرد السينمائي، ومقالة أليس بيل وأستريد إنسلين عن الخيال الرقمي، كما حوى العدد ثلاث مقالات في السرد غير الطبيعي داخل الروايات النسوية وسرديات الإثنيات، الأولى لكاثرين ويز والثانية لكريستين شميدت والثالثة للورا بوخهولز عن السرد ما بعد الاستعماري غير الطبيعي في رواية «أطفال منتصف الليل» لسلمان رشدي.
واختتم ريتشاردسون دراسته بسؤال مركزي حول القارئ، وكيف يقرأ نصوص السرد غير الطبيعي؟ وهو موضوع نقاش واسع ويمكن له أن يقدم مناهج جديدة ومختلفة تعزز المفاهيم والتوصلات غير الطبيعية.

كاتبة عراقية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com