صدر حديثا

حصّتي من أبو كاطع بعد الإفراج عن أوراقه.

بيدر ميديا.."

حصّتي من أبو كاطع بعد الإفراج عن أوراقه

عبد الحسين شعبان

استهلال

أخيرًا أُفرج عن بعض أوراق الروائي والصحافي الكبير أبو كاطع (شمران الياسري) التي ظلّت حبيسة طيلة ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن. ربما زالت بعض الأسباب “الخاصة” في حجبها، أو لم يعد هناك مبررًا لذلك، وقد تكون انتقلت من يد إلى يد أخرى حتى وصلت مؤخرًا إلى حميد الياسري (أبو نمير) الذي ظلّ يطالب بتسليمها له طيلة العقود المنصرمة. وبالفعل تسلّم مؤخرًا رزمة كبيرة من دفاتره وبعض مخطوطاته ومقتنياته وسعى لإيصالها إلى عائلته في بغداد.

وقدّر لي بعد عودتي من مصح طبّي في سلوفاكيا أن استلم جزءًا من هذه الوديعة الثمينة في براتسلافا وأنقله معي وفي حقيبتي اليدوية إلى فيينا ومنها إلى لارنكا، حيث كنت على موعد مع العائلة ومنها إلى بيروت، ومن ثم إلى السليمانية، حيث كنت أحضر مهرجانًا ثقافيًا، ثم منها إلى أربيل، ومن أربيل إلى بغداد لأسلمها إلى نجله السيد إحسان الياسري “أبو زينب”.

الريف وجزء من التاريخ

قد يحتاج أرشيف أبو كاطع وبعض أوراقه إلى قراءة وتدقيق لنشر ما هو صالح  أو استكماله إن كان ناقصًا أو ضم هذه اللقطة إلى جانب تلك أو هذا الجزء إلى أجزاء أخرى أو جمعها بما يتناسب مع سياقها التاريخي بربط بعض حلقاتها إلى بعض في هارموني يمكن الاستدلال عليه من مضمونه.

وحبذا لو أتيحت فرصة لإقامة معرض عنه أو متحف أو تأسيس رابطة أو منتدى  ثقافي باسمه، وهو ما كان مبادرة أولى من عائلته بحاجة إلى أن تُستكمل قانونيًا وإداريًا، بعد أن أصبح أبو كاطع “مطلوبًا” ولم يعد “محجوبًا”. وكان من أوائل الذين تحمّسوا لتلك الفكرة الشاعر فالح حسون الدراجي وكاتب السطور. وهي فكرة ما تزال راهنية، بل وملحّة، حتى لو بدأت المؤسسة بالتدرّج وعلى نحو متواضع، فإن مبادرة من هذا النوع ستلفت نظر وزارة الثقافة والمعنيين بشؤونها بعامة ومحبي أدب وفن أبو كاطع بخاصة، المهتمين بتراثه الفني.

 أرّخت رباعية أبو كاطع الروائية (الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس إحميّد – 1972) لجزء من تاريخ الدولة العراقية، ولولاه لظلّ هذا الجزء غائبًا، فقد تمكّن من أن يعبّر عنه روائيًا، خصوصًا العلاقات في الريف، وحسب الروائي الروسي الكبير مكسيم غوركي “فالتاريخ لا يكتبه المؤرخون وإنما الفنانون هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي”، فما بالك حين صوّر أبو كاطع ذلك التاريخ على نحو كوميدي – درامي أو بسخرية سوداء. وكان ماركس هو الذي قال “إني أقف مما هو مضحك موقفًا جادًا”.

وماذا بمصر من المضحكات … ولكنه ضحك كالبكاء

على حدّ تعبير الشاعر المبدع أبو الطيّب المتنبي.

وحسب تقييم روائي المدينة غائب طعمة فرمان “وعن طريق “أبو كاطع” تعرّفنا على الفلاح العراقي الشجاع الدؤوب والمواجه لواقعه ومشاكله بالسخرية والدعابة والتهكّم. لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعتُ بحّة صوتها في أذني. كنت أمام ما يشبه موسوعة الريف، ولكن كاتبها أديب جعل كلّ شيء يدبّ حيًّا”.

أما الناقد مصطفى عبّود فيقول “فريادة شمران “أبو كاطع” … تقلب المقلوب فتراه كما ينبغي، وليس فقط الآن الروائي غير دخيل على البيئة نفسها، فهو قادر على أن يقدمها إلينا بأقل قدر من الافتعال. إنما لأنه يخرج قبل ذلك هذه المعرفة البيئية الحسيّة بمنظور شامل القضية، التي كانت تمس حياة الفلاح والريف والعراق والثورة كلها”.

مفارقة

كانت حصّتي من الرزمة الأولى التي أوصلها د. عصام الزند إلى عائلة أبو كاطع في بغداد هي صورة نادرة كنّا قد التقطناها بُعيد خروجي من قاعة الدفاع عن أطروحتي للدكتوراه (CSC  – مرشح علوم) من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية – معهد الدولة والقانون.وكانت المناقشة قد تمّت في كلية الحقوق (جامعة جارلس) يوم 13 أيلول / سبتمبر 1977 برئاسة البروفيسور منسر Menser الدبلوماسي والخبير القانوني المرموق. وللصورة حكاية مثيرة، فقد بقيت أبحث عن صورة تجمعني بالراحل أبو كاطع بعد رحيله في 17 آب / أغسطس 1981 وكنت أتهيء حينها للسفر من دمشق لملاقاته في براغ وإذا بخبر وفاته يصلني ليُنقَل جثمانه إلى بيروت ويدُفن في مقبرة الشهداء الفلسطينيين، وكلّما كانت تسنح لي الفرصة خلال العقود المنصرمة أقوم بزيارة قبره.

فتشت في ألبومات الصديقات والأصدقاء عن صورة للذكرى مع أبو كاطع كنت قد احتجت إليها عند إصدار كتابي عنه، وهو أوّل كتاب صدر في لندن العام 1998 والموسوم “أبو كاطع – على ضفاف السخرية الحزينة” ولكن دون جدوى، فمعظم الصور كانت قد التقطت بكاميرتي، ولدي العشرات من الصور المشتركة معه، لكن هذه الصور مع كل ما يتعلّق بمكتبتي وأرشيفي الشخصي وشهاداتي الدراسية و صوري الشخصية و3  مخطوطات جاهزة للطبع، ومحاولات شعرية أولى ورسائل غرامية، صودرت في العراق حين تمّ كبس منزلي. وتلك قصّة أخرى رويت بعض فصولها عند حديثي الموسوم “إعتذار متأخر إلى والدتي نجاة حمّود شعبان” في حوار مع الصحافي المختفي قسريًا توفيق التميمي والمنشورة في كتابي المعنون “المثقف في وعيه الشقي “، دار بيسان، بيروت، 2014.

الصورة ودلالاتها

لماذا الصورة وما هي دلالاتها؟ في البحث العلمي نقول “الوثيقة خبر” فهي تُغني عن الكثير من الآراء والتحليلات والاستنتاجات أحيانًا. وفي الإعلام نقول “الصورة خبر”، والصحافي حسب ألبير كامو هو “مؤرّخ اللحظة” . وكنت في كتابي شديد الحرص على التوثيق ليس بالكلام فحسب، بل في الصور أيضًا، وهو ما زوّدني به الصديقين حميد الياسري وعصام الحافظ الزند وأصدقاء آخرين، لكن ما كان يحّز في نفسي أن صوري مع أبو كاطع (شمران الياسري) وهي كثيرة لم تكن ضمن الكتاب.

وعند إعداد كتابي عن أبو كاطع لطبعة ثانية حاولت مع بعض الأصدقاء الحصول على صورة خاصة معه لكي أضعها في طبعة دار الفارابي، بيروت، 2017 لكنني لم أفلح في ذلك وعبثًا راحت جميع محاولاتي. وكنت أعرف أن ثمة صور شخصية موجودة في أوراق أبو كاطع كنت قد طبعت نسخًا منها وسلّمتها له عشية سفري إلى العراق 1977 ولكن لم يكن السبيل للوصول إليها يسيرًا، فقد ختمت بدمغة الشمولية و”الحق في التصرّف” بموجوداته. ولعلّ العديد من الصور التي لدى الأصدقاء مع أبو كاطع كانت من مخرجات كامرتي وأنا من زوّدتهم بها، كما أتذكّر أن عددًا من الصور الأخرى التي تجمعني مع أبو كاطع وعلي كريم كنت قد أعطيتها إلى علي كريم قبل سفري، وهناك صور أخرى لم يستطع الأصدقاء العثور عليها لمضي حفنة من السنين.

 ولذلك كم كنت سعيدًا حين حصلت على الصورة التي أنشرها مع هذه الخاطرة، وهي صورة نادرة، مضى 45 عامًا على التقاطها، ولمناسبة عزيزة أيضًا. وقد هاتفني الصديق عصام الحافظ الزند وزفّ لي الخبر وقام مشكورًا بإرسالها عبر الإيميل مؤتمنًا على إيصال النسخة الأصلية إلى عائلته.

استعادة بصرية

للصورة حكاية أخرى تتعلّق بأبو كاطع نفسه، فبعد أن أعلنت اللجنة المشرفة نيلي درجة الدكتوراه بامتياز وإجماع من الأعضاء، تلقيت التهاني والتبريكات من القاعة التي امتلأت بالحاضرين وباقات الورود التي حملها الأصدقاء والصديقات، وحين خرجت من القاعة، وإذا بي أفاجئ بوجود أبو كاطع الذي وصل لتوّه من بغداد واختار زاوية من الممر الرئيسي ليقف متّكأً على الحائط وبيده غليونه وابتسامة عريضة تملأ وجهه وكان محياه يشعّ بفرحتين: اللقاء ولمّ الشمل كما عبّر عنه، والدكتوراه لصديقه، فهرعت إليه تاركًا المهنئين ورحبت به وهنأته على سلامة الوصول، وهنأني هو الآخر.

أما خلفية مجيء أبو كاطع إلى براغ التي وصلها في العام 1976 فكانت بسبب استدعائه إلى محكمة الثورة بتهمة متاجرته بالأسلحة، وهي تهمة كما يقول عقوبتها “أقلّن أقلّن أقلّن الإعدام” (أي إعدام مكعّب)، وقضى خريف العام نفسه وشتاء العام 1977 في براغ، حيث سكن معي في الشقة التي كنت استأجرتها من السيدة كلاودوفا، والتي تركتها له بعد مغادرتي إلى العراق. وعلى حدّ قوله: اتْرك الجمل بما حمل، وهو ما حصل فعلًا. كما سكن لبعض الوقت في منزل الشاعر الجواهري الذي أعاره له حين غادر لبضعة أسابيع إلى بغداد ومنها إلى أثينا.

قرار تائه

ولكن قرارًا لا أعرف الحكمة فيه ولا أستطيع أن أفهم كنهه أعاده إلى العراق. وقد نفّذ القرار بشجاعة وصبر وبالفعل ذهب بصحبة الرفيق عبد الرزاق الصافي، ولكنه كان قد صمّم على العودة إلى براغ وهو ما حصل حين سُمح له بالسفر على مسؤوليته الشخصية، وعلّق حينها “أنني أول لاجئ غير سياسي”، علمًا بأن الحكومة العراقية كانت متضايقة من كتاباته وعموده الشهير “بصراحة أبو كاطع” وهو امتداد لبرنامجه الإذاعي “إحجيه بصراحة يبو كاطع”، وقد أوقف عموده بالفعل بسبب الضغوط المعروفة، وقبل ذلك نُقل من الصفحة الأخيرة إلى صفحة أخرى، فكتب عمودًا يعلّق فيه على ذلك “صعّدوك لو نزّلوك”. وإذا كانت الحكومة العراقية متضايقة مما يكتب أبو كاطع، فإن مثل هذا الأمر وجد هوىً لدى البعض أيضًا، فحُجب عموده في جريدة طريق الشعب.

وحين عرف بيوم مناقشة أطروحتي قرّر تقديم سفره ووصل في اليوم نفسه صباحًا واستقلّ سيارة أجرة من المطار دون أن يبلّغ أحدًا بموعد وصوله، وذهب إلى منزلي وترك حاجياته الشخصية لديّ في المنزل بعد أن كانت نسخة من مفتاح المنزل معه، وبعدها اتجه إلى كليّة الحقوق ليصلها لحظة خروجي من قاعة المناقشة. وأتذكّر أنه سألني بالهاتف من بغداد: متى سيكون الدفاع وكم يستغرق من الوقت وفي أي مكان وفي أي قاعة؟ وقد استغربْت أسئلته وأبلغته بالتفاصيل وقلت له اختصارًا  في كلية الحقوق مقابل فندق الانتركونتننتال وبالجهة المقابلة لاتحاد الطلاب العالمي. ولم يكن يدر بخلدي أنه يريد أن يعملها مفاجأة لي بحضوره شخصيًا، واعتبرت استفساره لغرض المعرفة ليس إلّا.

خبر الصورة وصورة الخبر

الصورة التي أنشرها وتضم كلًّا من: مفيد الجزائري، صديقة تشيكية، أبو كاطع، موسى أسد الكريم (أبو عمران)، مؤيد، صباح بوتاني، تالي المالكي، هادي راضي، سمير السعدون وأحمد كريم ، هم بعض من جاء لتهنئتي، ولعل هذه هي الصورة الوحيدة التي توثّق يوم مناقشة أطروحتي والاحتفال بالمناسبة ، علمًا بأن الاحتفال كان على دفعتين (الأساتذة وأبو كاطع وموسى أسد الكريم ومجيد الراضي وآخرين مع عدد من السيّدات في المطعم الروسي)، أما جمهور الطالبات والطلبة فكانت الاحتفالية التي أقيمت لي في البيرة السوداء  U Fleco التي كان نابليون قد احتسى قدحًا من البيرة فيها خلال احتلاله براغ 1812.

وبالعودة إلى أرشيف الصور فحساسيتي شديدة إزاءها بعد مصادرة مكتبتي، وكما كتب توفيق التميمي يقول: أدركنا مدى تعلّق د. شعبان بأرشيفه وكتبه ورسائله وصوره… تعويضًا عن خسارته الفادحة، إضافة إلى شعوره أن يد الزمن قد تعبث بمصائر وأرواح الكثير من أصدقائه والشخصيات العامة التي التقى بها أو عمل معها أو شاركها. وكان الصديق علي العاني قد أبلغني “أنه سوف يجمع مكتبتي المصادرة” حين اشترى 3 كتب من أحد بائعي الكتب الذين يعرفون صداقتنا، وهو ما دفعني للتفتيش عنها في الأرصفة في شارع المتنبّي بعد العام 2003 واشتريت ثلاثة منها للاحتفاظ بها كذكرى عن الكتب القديمة ومن مكتبتي المصادرة (التي حسبما يبدو تمّ بيعها في فترة الحصار أو بعده من قبل الأجهزة الأمنية)، أما الصور المصادرة والمخطوطات الثلاث بما فيها قاموس للمصطلحات (دبلوماسي قانوني دولي)، إضافة إلى مخطوطة عن المعاهدات الدولية المتكافئة وغير المتكافئة، وأخرى عن القانون الإنساني الدولي، فلم أجد لها أي أثر، وهو ما دفعني لجمع بعض الصور من الأصدقاء مثل هادي راضي الذي زودّني ببعضها عن فترة براغ (مهرجان برنو وغيره) و د. شيرزاد النجار (صور تعود إلى زمالته لي في جامعة بغداد بما فيها صور التخرّج)، وعلي الخرسان عن الشباب الأول في النجف وفترة العمل المشترك في الحزب الشيوعي والتنظيم الجديد.في الختام أقول أن حصّتي من أوراق أبو كاطع هي صورة، لكنها صورة ثمينة وغالية جدًا، خصوصًا وأن جميع صوري القديمة وأوراقي الشخصية ذهبت مع الريح .رسم توضيحي 1 من اليسار: مفيد الجزائري، صديقة تشيكية، شمران الياسري (أبو كاطع)، موسى أسد الكريم (أبو عمران)، شعبان، مؤيد، وصباح بوتاني. من الخلف: تالي المالكي، هادي راضي، سمير السعدون وأحمد كريم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com