مقالات

غزو أوكرانيا بتعليقات عراقية.

بيدر ميديا.."

غزو أوكرانيا بتعليقات عراقية

 هيفاء زنكنة

إذا كانت مؤسسات سبر الرأي العربية والعالمية غير قادرة على تزويدنا بوجهة نظر الشعوب إزاء حدث دولي بسرعة توازي وقائع الحدث نفسه، كما يحدث حاليا حول مجريات الأمور في أوكرانيا، فإن صفحات التواصل الاجتماعي بأنواعها، استلمت عجلة القيادة، لتصبح فضاء مفتوحا لكل من لا تستهدفه مؤسسات سبر الآراء، عادة، لأبداء الرأي. حيث تُلزم مؤسسات سبر الآراء المشاركين بالإجابة على أسئلة تحددها المؤسسة لتُشكل الخلاصة جزءا من صناعة الرأي المقنن، وهذا ما لا يلتزم به كتاب التعليق والتحليل على صفحات التواصل، المفتوحة لكل أنواع الكتابة، وإبداء الرأي بحرية وعفوية وشاعرية وتوليفة مشاعر متأججة تراوح بين الصدق والابتذال، بين المديح والهجاء، بين اللغة الجادة والسطحية، بين نقل الخبر المتميز بموضوعية الرصد وتدقيق فحوى ما يتم والخبر الملفق مع إضافة الصور المزورة.
من هذا المنطلق، في العالم الفيسبوكي المتسع لكل البلدان، الغني المتأجج بديناميكية سرعة الأحداث حول العالم، وما تحفزه من تحليلات عميقة لدى البعض، وما تثيره من شحنات عاطفية قد تطغي، أحيانا، لفرط سرعتها، على التأمل وحتى القدرة على التفكير الموضوعي، لدى البعض الآخر، يُسطّر العراقيون، وجهات نظرهم عما يجري في العالم. آخر ما استحوذ على اهتمامهم، سيرورة الاستعداد لشن الحرب في أوكرانيا وتفاصيل وقوعها. وهل هناك من هو أكثر فهما لأسباب الحروب وما تُسببه من العراقي الذي عاش، عبر أجيال، حروبا وُصفت الأولى منها، أي الحرب العراقية الإيرانية، بأنها الأطول في التاريخ المعاصر، وتم تعبيد الثانية، أي حرب الخليج الأولى، بطريق الموت وفرض الحصار ورش المواطنين باليورانيوم المنضب (1991 ـ 2003) وتلاها حملة « الصدمة والترويع» ـ الغزو والاحتلال (2003) ليواصل العراقي رحلة بقائه وفي داخله جرح لم يلتئم في بيئة مُدمِرة بتأثير أكثر ضررا من آثار القاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناكازاكي؟
من واقع الحروب المضني، وسياسة بذر الشقاق تحت الاحتلال، كُتبت التعليقات العراقية. منها ما هو مؤيد للرئيس الروسي بوتين في إحتلاله أوكرانيا. لا حبا ببوتين وسياسته ولكن « هكذا يتم تأديب الإمبريالية والصهيونية والرجعية» خاصة وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي/ الذي يعرفه أحد المعلقين بأنه «نازي صغير، عميل لأمريكا والغرب، مغرر به» معروف بمساندته للمحتل الصهيوني، وجاء إعلان «الكيان الصهيوني الغاصب موقفه بجانب أوكرانيا» ليؤكد صحة موقف الرئيس بوتين. ولأن ذاكرة الشعوب، خلافا لما يعتقده الساسة، طويلة وجرائم الإبادة لا تُنسى بل تبقى بوحشتيها ولا عدالتها متجذرة من جيل إلى آخر، استعادت التعليقات مشاركة أوكرانيا في غزو العراق عام 2003 وكانت القوات الأوكرانية متمركزة في محافظة واسط. ونشرت صور دبابات تحمل العلم الأوكراني أثناء الغزو مع تعليق شامت» الحياة تدور. ذُق ما صنعت يداك في حرب العراق». ورأى عدد من المعلقين في خطوة بوتين «هل أشعلت روسيا النيران في البيت الأمريكي باجتياحها أوكرانيا ليبدأ العد التنازلي بانهيار امبراطورية الشر والجماجم؟».

من قلوب عراقية ذاقت معنى الحرب وما تسببه من خوف وجوع وحصار وموت، وتعرف جيدا حجم الخراب البشري والعمراني الذي يستمر زمنا طويلا بعد انتهائها، انطلقت الأصوات داعية «أن ترتفع راية الأمن والسلام في العالم كله

وكان للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، حصة الأسد في التعليقات المفككة لازدواجية المعايير في إعلان التضامن الأمريكي «الإنساني» مع الشعب الأوكراني، حيث وصف احتلال أوكرانيا بالبلطجة داعيا الى حل الأمور بالتفاهم والسلام، بينما سجل له التاريخ إصراره المسعور، سوية مع رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، على شن الحرب على العراق، التي لايزال العراقيون يعيشون آثارها وانعكاساتها. تشارك الإدارة الأمريكية في تباكيها على استقلال وسيادة أوكرانيا ذات الدول الأوروبية «التي شاركت في غزو العراق وكأن مشاركتهم كانت قانونية وضمن الشرعية الدولية. كم هم منافقون ولاأخلاقيون».
استرجعت بعض التعليقات شجاعة الجيش العراقي بمواجهة الغزو الأمريكي بالمقارنة مع انهيار الجيش الأوكراني أمام الهجوم الروسي، على الرغم من ضعف تسليحه خلال سنوات الحصار والتفوق الجوي لقوات التحالف بقيادة أمريكا. وفي الوقت الذي رحب فيه معلقون بخروج تظاهرات في قلب سان بطرسبرغ في روسيا ضد الحرب ونشر أحدهم مخاطبا المتظاهرين «تتظاهر في قلب سلطة ديكتاتور مجنون قاتل في يوم إعلانه للغزو؟ أنت شجاع» رأى آخر أن ما قام به بوتين « مقدمة لولادة بلاشفة جدد وحركات ثورية في وسط أوروبا، وفي العالم، تكنس اليسار المتهالك الحالي والعاجز لمواجهة عدوان إمبريالي أمريكي غربي صهيوني مستمر لا ينتهي إلا بالإطاحة بهذا الغول الإمبريالي».
ولم تخل التعليقات من روح النكتة والسخرية السوداء والتهكم الذي برع فيه العراقيون في العقدين الأخيرين كأداة لمداواة جروحهم ومقاومة لامعقولية الواقع. من بين التعليقات ومعظمها يتناول الرئيس الأمريكي جو بايدن وأمريكا: « حكمة تعلمتها من أوكرانيا أن البيت الأبيض لا ينفع في اليوم الأسود». وفي تصريح لبايدن: بوتين بدأ غزو الأراضي الأوكرانية والعراق سيدفع ثمنا باهظا! وخبر عاجل: بايدن يحذر الجيش الروسي من دخول أوكرانيا بدون فحص بي سي آر! أما بوتين فقد نشرت عدة مواقع صورته مرتديا الزي العراقي العشائري تأكيدا لقوة مكانته وقدرته على مواجهة التحديات وعدم تنازله عن حقه. أثناء ذلك كله علق مهندس عراقي يعيش في كييف، عن حاله تحت القصف الجوي: استيقظت وكأنني في بغداد.
عموما، أجمعت التعليقات على شجب الغزو الروسي وتصعيد دول الناتو، خاصة أمريكا «ذات السجل الدامي في استهانتها باستقلال وسيادة الدول وغطرستها العسكرية». واقتصرت التعليقات الساخرة على الرؤساء، مستهدفة الرئيس الأمريكي والروسي، وإن بدرجة أقل، وكأن هناك إتفاقا عاما على التمييز بين تطلعات الشعوب في العيش بلا حروب وسياسة الحكومات التي لم يعد أغلبها ممثلا حقيقيا للشعب، على الرغم من كل ادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن قلوب عراقية ذاقت معنى الحرب وما تسببه من خوف وجوع وحصار وموت، وتعرف جيدا حجم الخراب البشري والعمراني الذي يستمر زمنا طويلا بعد انتهائها، انطلقت الأصوات داعية «أن ترتفع راية الأمن والسلام في العالم كله» ووضع حد لحرب مجنونة، أخرى، لن يخرج أحد منها منتصرا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com