ثقافة

زليخة تفتح عينيها في الفردوس السيبيري

بيدر ميديا.."

زليخة تفتح عينيها في الفردوس السيبيري

جودت هوشيار

 

لم تثر أي رواية روسية في العهد البوتيني مثل هذا الاهتمام الواسع بقدر ما أثارته رواية « زليخة تفتح عينيها « للكاتبة التترية جوزل ياخينا، الصادرة في موسكو عام 2015. وهي باكورة أعمالها الروائية التي جعلت منها كاتبة معروفة، ووضعتها في صدارة المشهد الأدبي الروسي.
فازت الرواية في وقت قصير بثلاث جوائز أدبية مرموقة، وهي «كتاب العام» ـ التي تعد بمثابة جائزة الدولة التقديرية – و«ياسنايا بوليانا» «»الكتاب الكبير». بالإضافة إلى ذلك، كانت «زليخة تفتح عينيها» ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر الروسية» والقائمة الطويلة لجائزة «الأدب الجديد». ومن المثير للاهتمام، أن معايير هذه الجوائز متباينة إلى حد كبير، إذ كانت «ياسنايا بوليانا» على سبيل المثال تمنح للأدباء الذين يواصلون تطوير التقاليد الأدبية الروسية، فإن جائزة «الأدب الجديد» تمنح من أجل اكتشاف ودعم وتطوير الاتجاهات الجديدة في الأدب الروسي الحديث. تمت ترجمة الرواية إلى أكثر من عشرين لغة بما فيها العربية، وحظيت باهتمام كبير في وسائط الإعلام والجمهور عموما، وإن اختلفت الآراء في تقييمها فكرياً وفنياً. ما هو سر الاهتمام الكبير برواية طويلة تقع في (512) صفحة – في زمن الأدب الخفيف المسلي، ولماذا أثار هذا العمل إعجاب قطاع واسع من القرّاء، واستياء العديد من الأدباء الروس، وغضب الأدباء التتار؟ سيرة الكاتبة لا تساعد في الإجابة عن هذا السؤال، لأنه لا يوجد شيء مهم أو مثير في حياتها، فهي امرأة عادية وبسيطة، ذات تجربة حياتية متواضعة.
ولدت جوزيل ياخينا عام 1977 في قازان، عاصمة جمهورية تتارستان ذات الحكم الذاتي، حيث تخرجت في كلية اللغات الأجنبية في الجامعة التربوية في قازان. قبل أن تنتقل للإقامة في موسكو عام 1999، حيث عملت في مجال العلاقات العامة والإعلان، ودرست في قسم السيناريو في معهد موسكو للسينما.

زليخة بين حياتين

تبدأ الرواية في عام 1930. الشخصية الرئيسية فيها زليخة، وهي فلاحة تترية مسلمة أمّية، تبلغ من العمر ثلاثين عاما، صغيرة الحجم، جميلة، خضراء العينين، متزوجة منذ 15 عاما انجبت خلالها أربع بنات توفين في أعمار صغيرة، لكن ذكراهن لا تفارقها. تعيش زليخة مع زوجها مرتضى وحماتها الضريرة المتعجرفة في إحدى القرى التترية المنزوية. يستنزف العمل المنزلي اليومي قواها. وتتعرض إلى الضرب والإذلال على يد زوجها، وإلى شتائم وإهانات حماتها. مرتضى أكبر من زوجته بثلاثين عاما، وهو رجل طويل القامة، متين البنيان، يطبق أحكام الشريعة بكل صرامة وتزمت، ويوبخ زوجته لعدم إنجاب طفل ذكر. لكن زليخة، لا تتذمر فهي خجولة، ومطيعة لزوجها وحماتها.
تتغير حياة عائلة زليخة كثيرا بعد دخول الجيش الأحمر إلى القرية لغرض مصادرة الأراضي والحبوب والماشية التي يمتلكها الفلاحون: زليخة ومرتضى يلتقيان بجنود الجيش الأحمر في الغابة، عند عودتهما من مكان دفن بناتهما، حيث أخفيا ما تمتلكه العائلة من حبوب. الضابط إيفان إغناتوف يحقق مع مرتضى، ويرديه قتيلاً، بعد أن يتيقن أن الأخير قد أخفى ما لديه من حبوب في المقبرة. زليخة تسحب جثة زوجها إلى المنزل وتقضي الليلة الأخيرة إلى جانبه بكل هدوء، دون أن تنتابها أي مشاعر، أو تعرف أنها في اليوم التالي ستبدأ رحلة طويلة وشاقة.
يقوم الجيش الأحمر بترحيل زليخة مع الأشخاص الآخرين الذين صودرت أراضيهم إلى المنفي السيبيري في عربات الماشية، حيث يتم احتجازهم أولاً في أحد السجون في مدينة قازان لعدة أسابيع، انتظاراً للمرحلة التالية من رحلتهم. الانتظار ممل ومؤلِم: يجلس الناس في غرف ضيقة، غير قادرين على الحركة تقريبا. تكتشف زليخة أنها حامل، وتلتقي في السجن بطبيب جراح، نصف مجنون ومفكر شارد الذهن، يُدعى فولف كارلوفيتش ليبي، الذي كان طبيباً نسائياً، وأستاذاً مرموقاً في جامعة قازان الطبية. وأخيراً، تستأنف القافلة مسيرتها إلى المنفى السيبيري، لكن بسبب الظروف السيئة والطعام الرديء، يموت كثير من المرحلين خلال الرحلة المضنية، ويتمكن العديد منهم من الفرار. ولا يبقى سوى بضع عشرات من المرحلين ومن ضمنهم زليخة. يجد المنفيون أنفسهم في غابة برية غير سالكة على ضفاف نهر أنجارا دون طعام أو مأوى أو ملابس دافئة. يتعين عليهم أن يعملوا معا في بناء «مستوطنة سيمروك الاشتراكية» للبقاء على قيد الحياة في الطبيعة القاسية، تحت إشراف إغناتوف، المكلف بتوجيههم ومراقبتهم. وتزعم ياخينا، أن هذه الحياة الجديدة في سيبيريا أفضل بشكل ملحوظ من تلك التي كانت زليخة تعيشها حتى الآن، حيث ينفتح لها عالم كامل من الحب والأمومة والقرارات المستقلة، وكل شيء لم يكن لديها أي فكرة عنه خلال أول 30 عاما من حياتها. كان إغناتوف يستغل كل فرصة لمساعدة زليخة والتقرب إليها واستمالتها، لكنها ظلت حذرة منه لفترة طويلة لأنه شيوعي روسي، وملحد، وقاتل زوجها. وعندما سقط إغناتوف وأصيب خلال تحميل أخشاب الغابة، أخذت زليخة تعتني به، وشعرت بالانجذاب نحوه، ودخلت في علاقة حب معه.
تصف الرواية كيفية تحول زليخة من امرأة لا تعرف في الحياة سوى البيت وحظيرة الحيوانات، وخدمة زوجها وحماتها، إلى «امرأة حية» تعيش في ظروف قاسية، لكنها لا تستسلم للصعوبات، وتجد في نفسها القوة والإرادة في تعلم الرماية بالبندقية وقتل وحوش الغابة دفاعاً عن نفسها، وحماية ابنها، وحتى الرجل الذي تحبه. الشيء الرئيسي الذي يجبر زليخة ويحفزها على «فتح عينيها» والاستيقاظ والولادة من جديد هو شعورها بأنها أصبحت حرة طليقة، وتفانيها من أجل ابنها يوسف. ففي ظروف المجاعة تطعم رضيعها ليس فقط من حليبها الطبيعي، بل أيضا بدمها النازف بعد قيامها بجرح أصابع يدها.
الجزء الأخير من الرواية يصور الحياة في سمروك خلال الحرب العالمية الثانية: المستوطنة النائية بعيدة عن الحرب، ومع ذلك تظهر فيها ملصقات دعائية تدعو الرجال للقتال من أجل وطنهم. وعندما يبدأ تجنيد شباب المستوطنة تُقْدِمُ زليخة على أكبر تضحية أمومية: تترك ابنها يبحر بوثائق مزورة على متن قارب على طول نهر أنجارا إلى «العالم الكبير» على أمل الوصول إلى لينينغراد ليصبح فنانا. وتنتهي الرواية بزليخة، حزينة القلب، وهي تتوجه إلى الغابة بعد توديع ابنها للقاء إغناتوف.

الممثلة التترية جولبان خاماتوفا في دور زليخة

الفردوس السيبيري

ياخينا تريد أن تخبرنا أن زليخة التترية لم تكن تفتح عينيها وترى حياة رائعة لولا النظام الستاليني. نقرأ في بداية الرواية وهي في القرية «زليخة تفتح عينيها، الظلام يسود المكان كما هو الحال في القبو… خلف النافذة تأوه مكتوم لعاصفة ثلجية في يناير/كانون الثاني». أما في مستوطنة سمروك فقد تم تحرير المرأة الشرقية المستعبدة، وتحولت إلى امرأة سوفييتية: «زليخة تفتح عينيها. شعاع من ضوء الشمس يخترق الستارة المتهالكة، وتغمر الغرفة تغريدات الطيور وهفيف النسيم.» تصف المؤلفة الجانب المظلم لحياة التتار في الثلاثينيات، وتقديمه على أنه الصورة الوحيدة للحياة في المجتمع التتاري الإسلامي، وان التتار كانوا يعيشون كما عاش أسلافهم في القرون الوسطى، في مجتمع مغلق، متزمت وكئيب يجعل المرأة عبدة مطيعة لخدمة زوجها وإنجاب الأطفال، دون أن يكون لها رأي أو صوت، لا في بيتها، ولا في المجتمع. وتوحي ياخينا للقارئ بأن زليخة المسلوبة الإرادة والحقوق في تتارستان، تحررت من القيود الشرقية وانطلقت حرة سعيدة في المنفى السيبيري، وذاقت طعم الحب الحقيقي في أحضان ضابط المخابرات السوفييتي، وبذلك انتقلت من حياة العبودية إلى (الحياة المتحضرة الحديثة) في مستوطنة سمروك الاشتراكية. وهذا الزعم هو الذي جعل منها كاتبة مشهورة، وأدخلت السرور إلى قلوب القوميين الروس، الذين يحنون إلى العهد الستاليني.
ياخينا لا تألوا جهداً في مقارنة التتار «البرابرة» بالروس المتحضرين حتى في الحب، فهي تقول عن زوجها الميت مرتضى إنه كان رجلا ضخم الجسم، ومشعرا وفظا، أما الشيوعي إغناتوف فإنه أبيض ورشيق وعديم الشعر، وله أسنان بيضاء وعينان جميلتان. كانت الممارسة الحميمة مع مرتضى عذاباً، أمّا مع إغناتوف فإنها انشراح وحبور، كل شيء تعلمته زليخة منذ الطفولة ذهب بعيدا. وجاء الجديد الذي أزال مخاوفها.
مضمون رواية ياخينا، يتماهى مع أيديولوجية النظام القائم، الذي يبني نموذجه للذاكرة التاريخية على الاحتفاء بالإمبريالية السوفييتية. روجت وسائل الإعلام الحكومية لـ»زليخة تفتح عينيها» لأنها ترتبط بالمشروع السياسي الذي تدعمه.

غضب تتاري

كانت ردود الفعل على الرواية سلبية في جمهورية تتارستان. واتهم النقّاد التتار المؤلفة بإذلال وتدنيس الماضي الوطني، والافتراء على الشعب التتاري وغياب الروح الوطنية. وخيانة التقاليد الإسلامية. وأن الهدف من روايتها هو مجاملة النظام القائم الذي أخذ يعيد الاعتبار للنظام البلشفي. يقول الكاتب التتاري وحيد إماموف: «إن جوزيل ياخينا لم تكتب هذه الرواية بنفسها، بل كتبت من قبل أكثر من مؤلف واحد. فقد أثيرت فيها، موضوعات طبية لا أعتقد أن ياخينا على دراية عميقة بها. من أجل الكتابة عن ذلك يجب أن تكون طبيبا محترفا، كما تصف بناء ثكنة ومخبأ. من أجل معرفة كل التفاصيل الدقيقة للبناء، يجب أن تكون خبيرا في هذا العمل. شخصيات الرواية غير قابلة للتصديق، ووصف حياة التتار وتقاليدهم لا يتوافق مع الواقع، وهو مظهر من مظاهر عدم الاحترام لشعب التتار بأكمله. وهناك تفاصيل في الرواية، مثل الإبرة، تخز المواطن التتاري. لم تكن للتتار معتقدات وثنية كما تزعم ياخينا.» «زليخة تفتح عينيها» رواية مصطنعة كتبت بعناية، من أجل الزعم بأن للسلطة السوفييتية والقمع الستاليني الفضل في تغلب التتار على «الماضي الديني المظلم» وفتح الطريق أمامهم إلى الحداثة.
أثار المسلسل التلفزيوني (2020) المقتبس من الرواية غضب زعماء مسلمين من مشهد جنسي في مسجد، واستخدام أسماء شخصيات إسلامية بارزة بين المنفيين. هاجم النقّاد التتار العلاقة الرومانسية بين زليخة وضابط الأمن إغناتوف، الذي قتل زوج زليخة الأول.

مآخذ فنية

لا تترك هذه الرواية انطباعاً مؤثراً في نفس القارئ المثقف، ولا تدهشه بحداثة الحبكة أو الأسلوب، ولا تتسم بقيمة فكرية أو جمالية غير مسبوقة. تعترف ياخينا بأنها في البداية لم تكتب رواية، بل سيناريو فيلم سينمائي. كتابة الرواية تتطلب معايير فكرية وفنية وتقنيات سردية مختلفة كثيراً عن السيناريو. الفيلم عمل جماعي يشترك فيه كاتب السيناريو والمخرج والمصور والممثل. لكن كاتب الرواية يعمل لوحده ويجد نفسه وجهاً لوجه مع القارئ.
تكمن قيمة أي رواية في مدى توغلها في العالم الداخلي لشخصياتها، ومدى عمق التعبير عن أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها. في «زليخة تفتح عينيها» يقتصر الوصف على العالم الخارجي للشخصيات. وهي شخصيات أحادية البعد، لا تفكر ولا تحس، إنها تتكلم وتفعل شيئا ما فقط. الشخصية المركزية، زليخة، لا تفكر ولا ينتابها القلق حتى في أكثر اللحظات رعبا في حياتها. وليس واضحاً ما كانت تحس به أو تفكر فيه، عندما نامت إلى جانب جثة زوجها المقتول، ولا عند مداهمة بيتها وإلقاء القبض عليها لترحيلها إلى المنفى. لا توجد في الرواية شخصيات حية، لكن هناك أحداثا مشكوكا في صحتها. فقد أخطأت الكاتبة حتى في تاريخ ترحيل ملاك الأراضي التتار إلى المنفى. زليخة امرأة أمية ومع ذلك نراها في الرواية تشير بأصبعها إلى الاتحاد السوفييتي على الخريطة، وتقرأ اسم الماركة الفرنسية للسترة التي تلبسها.

كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com