ثقافة

الإزاحة في العبور الأجناسي.

بيدر ميديا.."

الإزاحة في العبور الأجناسي

 نادية هناوي

ليس العبور سوى مسمى نقدي لمتطلب نظري، هو عبارة عن إنجاز فعلي تؤديه الكتابة المتمظهرة في شكل جنس أدبي، يتمتع بالعابرية على أي نوع كتابي يتم تجسير المسافة معه وضمه إليه. وما يحققه العبور كفاعلية كتابية ورؤية فكرية هو أنه يمنح الجنس الأدبي الثبات من خلال إمداده بإمكانيات شكلية ومركزية بنائية.
ولا نجد في النقد الغربي في مختلف تصوراته وتمثيلاته اهتماما بحقيقة العبور الدينامية، أما القول بالتداخل النصي والأجناسي، وما يعطيه من حرية في كيفيات التعالق، فلا أهمية له في نظرية التجنيس، نظرا لضياع الحدود واللانهائية، التي تمنح النصوص الانفتاح. الأمر الذي يحول دون أن يتمكن الجنس من الثبات على حدوده والافتراق بها عن أي جنس آخر. وهو ما يتعارض مع ما تريده نظريات التجنيس ومسلمات النظر النقدي وثوابت الفكر التحليلي، التي ترفض العمل باللانهائية، والاستناد إلى العشوائية والتلقائية، بل تعتمد المعايير كأقيسة بها تضبط وظيفة الأجناس.
واستنادا إلى النظر النقدي القائل بالتجنيس، تكون فحوى العبور عبارة عن إثبات الجنس الأقوى لحدوده وإمكانيات بنياته واستقرار تقولبه مستحكما ومجتازا ما هو ليس بجنس أو هو جنس، لكنه ليس بقوة الجنس العابر نفسه. وليست المسافة التي تفصل بين المعبور عليه والعابر، سوى الإزاحة التي فيها يتحقق الاحتواء كاشتغال دينامي يوثق عرى الانتقال من طرف معبور إلى طرف عابر. ولا تعد الإزاحة تجريبا يراد منه اختبار طواعية الطرفين على العابرية أو عدمها، وإنما هي حتمية كتابية فيها تتوكد قدرة الجنس على العبور بلا عناء أو مراء. وإذا كانت الإزاحة تتطلب التكثيف في المسافة المجسرة بين الطرفين العابر والمعبور عليه، فان ذلك هو الذي يجعل الاحتواء متحققا فعليا، ومتواضعا عليه نقديا وجماليا، أما كمحصلات كتابية أو كاستجابات قرائية.
وعلى الرغم مما تعنيه الإزاحة من الخلخلة والتحريك؛ فإن الغاية منها منح الجنس الأدبي الاستقرار الذي به تتقوى قاعدته وتمتد ذروة عابريته وتتسع على حساب غيره. وما يجعل الإزاحة رفيقة كل جنس قادر على العبور، أنها موجودة في تضاعيف تجنيسه، أيا كان هذا العبور من نوع أدبي أو شكل فني أو نمط تقاني، إلى جنس من الأجناس المعلومة بقدرتها على العبور. والإزاحة التي غايتها العبور ليست فورة انطلاق إبداعية آنية، وإنما هي عملية فكرية واجبة تنزلق بالمحتوى لصالح المحتوي. ولأنها واجبة يكون السيناريو الغالب على إنجازيتها دراماتيكيا في ما يؤديه من خطوة تدفع باتجاه توطيد استقرارية الجنس العابر وكتوكيد لعلامات تحققه جنسا له كامل الأهلية في العبور على غيره.
ولا جرم في أن تسخير أنواع وأشكال وأنماط لتكون محتواة في الجنس الأدبي العابر، هي دلائل على أهمية الإزاحة كخطوة منبثقة عن وعي تحليلي بالجنس العابر، ودلالة على جهوزية الحاضنة المعرفية التي لها دورها الأثير في تمتين قاعدة الارتكاز الأجناسي وبها يمتلك الجنس الأدبي مشروعيته في العبور.
وآلية الفعل الإزاحي في عملية العبور الأجناسي تبدأ من اللحظة الأولى التي فيها يجتمع طرفا المعادلة وتنتهي عند لحظة سيادة الطرف الذي عادة ما يكون متهيئا لتلك السيادة، غير محتاج إلى دفاع عن عابريته التي بها يزيح الجنس المتسيد، محتويا إياه في حدوده احتواء تغيب فيه كل خصائص هذا المسود، متحليا بدلها بخصائص الجنس الغالب. وبعكس ما يسعى إليه الكاتب وهو يزيح ذاته كي تكون كتابته موضوعية لا ذاتية فيها، فكذلك الجنس العابر، يزيح غيره كي لا تكون هناك تعادلية ما بين المحتوي والمحتوى، إذ لا خسارة في تنازل أحد الطرفين للآخر، بل بالعكس هي توكيد لقدرة الطرف المعبور عليه على الانضمام والاندماج، ثم التجسير الذي به تتقلص المسافات بينه وبين ما يعبر إليه، ليصير جزءا من جنس هو أقدر منه على التأطير، وأكثر إسهاما أيضا في التأشير على الإبداع، وإتمام جمالية التضافر الإبداعي.

وتحليل آليات الإزاحة، أمر بنيوي يوحي بوجود وحدة عضوية داخل كل كتابة إبداعية هي ليست مشتطة أو طارئة، بل مقصودة وهي تتأطر بقالب معتاد في حدوده ومعروف في سماته.

والكاتب إذ يفضل التقليد فلأنه يريد لنصه ألا يكون متضعضعا في إطاره، ولا متذبذبا في بنياته ومن ثم يكون مهما بالنسبة إليه إظهار كتابته بمظهر مقولب تقليديا في الشكل والمضمون، وإلا فقد نصه إبداعيته في حين تظل محاولة الكاتب الذي يتعامل مع نصه تعاملا تجريبيا محفوفة بالمخاطر لاسيما إذا نُظر إليه بمنظار تقليدي لا تجريبي، بيد أن إدراكه لممكنات النوع الأدبي، هي التي تجعله قادرا على موضعته في إطار تجنيسي محدد ومعروف، ليأخذ منه خصائصه، التي بها يؤصل تجريبه من جهة ويضع لبنة جديدة في صرح العملية الإبداعية من جهة أخرى.
أما الإصرار على تجنيس ما ليس بجنس، فإنه بمثابة قتل لإبداعية النوع الكتابي لأنه يظهره بمظهر لا يناسبه ولا يلائم خصائصه. وكلما كان الكاتب مرتهنا في اشتغاله بالإبداع تقليدا أو تجريبا غير متجاوز على اشتغال الناقد، أمكن له أن يصف نصوصه بالوصف الذي يرغب فيه كأن يقول، إن نصه صورة له أو لآخر غيره يخصه بالذكر، أو أنه صورة لعصره أو ينعته بنعت سلبي أو إيجابي. فهذا كله يظل بحثا شخصيا وشأنا إبداعيا خاصا بالكاتب. وما قال فلوبير (مدام بوفاري هي أنا) إلا لأنه عارف أن الكتابة الإبداعية تتيح له أن يصف ذاته والشخصية بهذا الوصف. أما خارج منطقة الإبداع فغير متاح له أن يمارس حق إصدار حكم نقدي ما على عمله. لأنه سيغادر موقعه كمنتج للنص ليكون في موقع القارئ لنصه. ولو افترضنا ان فلوبير فعل ذلك لكان دليلا على أنويته وتوكيدا لإسقاطية لن تنفعه بالتأكيد في تدعيم إبداعيته الروائية.

وتحليل آليات الإزاحة، أمر بنيوي يوحي بوجود وحدة عضوية داخل كل كتابة إبداعية هي ليست مشتطة أو طارئة، بل مقصودة وهي تتأطر بقالب معتاد في حدوده ومعروف في سماته. وليست الإزاحة سوى نفي للتطابق في المداخل والمخارج وإثبات للاحتواء الذي به يكون العبور الأجناسي ناجزا كتقولب إطاري وليس بنى نصية. وليست الإزاحة هي الانفتاح كنظرية مخصوصة بالبنى النصية، فيها تتجلى آفاق النص الداخلية وما تنطوي عليه من آليات تسمح بالامتداد والتوسع الإبداعيين، بل الإزاحة تفضي إلى الانغلاق، من ناحية استكمال عملية العبور لاحتمالية التقولب، أو بالأحرى حتميته في الانتقال من كتابة لا تمتلك مؤهلات التجنيس إلى كتابة احتوائية يمثلها الجنس العابر. ولا توصف عملية الإزاحة توصيفا نقديا، إلا لأجل وضع فاصل نوعي بين منطقة الكتابة كإنتاجية إبداعية، ومنطقة القراءة كاستجابة جمالية تختبر فاعليتها نقديا، وفق مجسات ومناظير لا مزاجية فيها ولا تلقائية. ومن ثم يكون فهم الفعل الإزاحي بالمعنى القرائي لرواية أو قصيدة مثلا، هو غير فهم الإزاحة بالمعنى النقدي الذي يقتضي خبرة ووعيا واحتكاما.
ولمفهوم الإزاحة مواضعات تنطلق في مجملها من طبيعة اشتقاق مصدرها من الفعل (زاح) كفعل تغيير هو رديف التحرك وضديد المكوث، الذي فيه تتجسر المسافة، وصلا للعلاقات ومداً للروابط بين اثنين هما طرفان يتفوق واحد منهما على الآخر الذي ينزاح عنه تلقائيا. وهذه المصدرية تتلاقى مع ما ينطوي عليه العبور من اشتقاق مصدري أساسه الفعل (عبر) الذي فيه تكون عملية الانتقال عامة وشاملة لمجموع الإطار الخارجي، وما في داخله أيضا من أطر أو صيغ أو بنيات خضعت للإزاحة.
ولا يخفى ما لفاعلية الإزاحة من آثار نفسية قد يستجيب لها القارئ بإيجابية وقد لا يستجيب، فضلا عما لها من تبعات نقدية بعيدا عن كل التصورات الذاتية، التي قد تخطر على بال الكاتب نفسه أو لا تخطر. وقد ذهب أصحاب النقد النفسي ومنهم شارل مورون، إلى التعامل مع النص بوصفه فرضيات مطابقة بين الكلمات واستراتيجية أنظمة وعلاقات. ويظل الأمر منوطا بالنظرية الأدبية، التي عليها يتوقف توصيف آليات التجنيس، وفي مقدمتها الإزاحة كفعل من أفعال القولبة، وما تنطوي عليه تلك الأفعال من مسالك واختيارات تهيئ الأجواء لوضع آلية تنظيرية للعبور الأجناسي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com