ثقافة

هل سبق طه حسين النظريات الغربية الحديثة في سردنة التاريخ؟.

بيدر ميديا.."

هل سبق طه حسين النظريات الغربية الحديثة في سردنة التاريخ؟

 نادية هناوي

 

لم يكن التاريخ بالنسبة لطه حسين موضوعاً أدبياً ولا نقدياً فقط، وإنما كان مشروعاً معرفياً، سعى فيه إلى تجريب أساليب جديدة في التعامل مع حيثياته، بوصفه أدباً أكثر من كونه متناً توثيقياً، أو سجلاً أرشيفياً. والعدة التي أعانت طه حسين على تجريب تلك الأساليب وتنفيذ مشروعه التاريخي تتمثل في (الرواية) لما في هذا الجنس الأدبي من آفاق رحبة للتخييل تضفي على الكتابة التاريخية كثيراً من الكشف والغوص تمحيصاً واستدلالاً.
ولأن السيرة شكل من أشكال كتابة الرواية، اهتم طه حسين بها مبتغياً التوسع والتحرر في التعامل مع حوادث التاريخ، مضفياً التخييل التاريخي على الأخبار الماضية والوقائع الغابرة أو ظلالها، دون تجاوز الإطار التاريخي العام للحادثة أو الخبر.
وإذا كان طه حسين قد مارس فعل التقصي التاريخي للسير، بادئا بسيرة ابن هشام مؤلفا كتابا على هامشها هو(على هامش السيرة)؛ فإن ذلك التقصي فتح له باباً جديداً فيه واصل ما كان قد وقف عنده المؤرخ، مبتكراً حبكات جديدة حول وقائع وشخصيات تاريخية، مسائلاً إياها بالسرد. ومراده ردم القطيعة الزمانية بين فعل تاريخي وقع ومضى، وفعل سردي قائم ومتواصل، وهو القائل: «عندما كتبت الفتنة الكبرى كنت مؤرخا وعندما كتبت الشيخين كنت مؤرخا، وعندما كتبت مرآة الإسلام كذلك، إنما عندما كتبت على هامش السيرة كان هذا من النثر الأدبي، ولم يكن تاريخا.. وكذلك كتاب الوعد الحق كله بدأ بالخيال وانتهى بالتاريخ».
ومن ذلك تمثيله لقصة بلال مؤذن النبي فتخيّل أم بلال أمةً لأحد القريشيين وأن اسمها حمامة، وأنها كانت أميرة حبشية جاءت إلى اليمن، ولما أراد جيش أبرهة احتلال مكة وقعت أسيرة عند أحد الخثعميين فقال ما أحلاها فسمّاها حمامة، ثم دفعها إلى رباح لترعى معه الإبل ثم تزوجا فولدا بلالا.
وليس الردم والوصل سوى حضور للقصدية التاريخية في الكشف عن المتواري من التاريخ العام، وبهذه القصدية تنتفي القطيعة بين التاريخ والسرد فتتغلب الطبيعة السردية على الموضوع التاريخي. وهو ما استفاض في بحثه منظرو السرد وعلماء التاريخ الغربيون، بدءاً من مدرسة التاريخ الجديد الفرنسية ومؤسسها جاك لوغوف، مروراً بالسرد التاريخي عند بول ريكور والميتا تاريخ عند هايدن وايت. وعلى الرغم من أهمية تلك الطروحات، فإن الإشكالية ما زالت قائمة إلى اليوم، حول علاقة السرد الذي هو ذو طبيعة خيالية بالتاريخ ذي الطبيعة الموضوعية، فنظر وايت مثلا إلى التاريخ بوصفه سردا بينما تحفَّظ ريكور على ذلك. وإذا كان طه حسين غير مهتم بالفكر النظري في تفسير الفعل التاريخي، فإن اهتمامه كان منصباً على الطرائق العملية، التي وفقها مارس القص مؤرخا، وجعل التاريخ مسردنا، متوصلا بشكل عرضي، أو بالأحرى تجريبي إلى معالجة الإشكالية أعلاه، ضمن سياق تطبيقي ابتكاري في فنيته، كما أنه مبكر في زمنيته التي تعود إلى عقد الأربعينيات، ما يجعل طه حسين تجريبيا في السرد التاريخي أكثر منه في السرد الواقعي، بسبب اهتمامه بالتاريخ وضلاعته في فهم آليات كتابته فهما مختلفا، يقوم على تفسير أحداثه وأخباره تفسيرا فيه تحبيك يتضمن وجهة نظر.
ولن نغالي إذا قلنا إن أطروحة طه حسين هذه تُجيب عمليا على ما كان قد أشكل على ريكور حله؛ أولا حين وجد أن هناك فجوة بين التفسير السردي والتفسير التاريخي (تمنعنا من النظر إلى التاريخ على أنه نوع من جنس القصة) وثانيا رأيه أن هناك تقاربا بين التاريخ والسرد، لكنه ليس تلاقيا وهو ما يتطلب نوعا جديدا من الجدلية بين البحث التاريخي والكفاءة السردية، وثالثا حين رأى أن علاقة التاريخ بالسرد وبالعكس تفقد كلا منهما طبيعته إلى الحد الذي لا يمكن معه أن نعد التاريخ نوعا من القص. وأن أشباه الشخصيات قادرة على أن تقود الأصالة القصدية، رجوعاً من مستوى علم التاريخ إلى مستوى السرد. (الزمان والسرد، ج1).

لقد طبّق طه حسين هذه الآراء عمليا من خلال اتخاذ الترجمة طريقاً سردياً به عبر عن رؤاه وتصوراته المغايرة، متقمصا صوت أبي العلاء شاعرا بما يشعر به من تشاؤم وسوء ظن بالنفس والناس والتاريخ، الذي هو مقصده الأول والأخير.

السرد التاريخي

إن أهمية أطروحة طه حسين في السرد التاريخي تكمن في أنها سابقة على تنظيرات المدرستين الفرنسية والأمريكية، حول علاقة السرد بالتاريخ لأن طه حسين فيهما وضع إجابات عملية لطرائق السرد التي بها يمكن تمثيل التاريخ. وقليلون هم الروائيون الذين عرفوا كيف يطوعون التاريخ للسرد ويدللون بنجاح على سردية التاريخ، بما يجعل من ممارس السرد التاريخي مفسرا تاريخيا شأنه شأن أي منقب في التاريخ يريد إعادة قراءته، متحرياً مدى صدقية كتابته، ومدى إلمامه بما كان قد جرى من وقائع وحصل من أخبار وأحداث. ونظرة سريعة في آراء طه حسين في التاريخ ستجعلنا في مواجهة وعي عميق إزاء سردية التاريخ، وبالإمكان جمع تلك الآراء كأطروحة نظرية في كتابة التاريخ. ومن ذلك مثلا الآراء المبثوثة في تضاعيف كتابه «صوت أبي العلاء» الذي حوى أفكارا في التاريخ تنم عن قصدية استئصال الفهم التقليدي للتاريخ بفهم تفسيري مغاير أوصله إلى تجريب كتابة سيرة أبي العلاء مستعملا ضمير الأنا، مترجما حياته وفلسفته ترجمة سردية متخذا من اللزوميات مادة تاريخية. ومن الآراء النظرية في هذا الكتاب، التي فيها تتضح قصدية الاستئصال والمغايرة في التعامل مع الفعل التاريخي ما يأتي:
1 ـ إن التاريخ الأدبي يغلب فيه الظن مثله مثل التاريخ السياسي الذي (يكثر فيه الرجحان ويقل فيه اليقين، وما أدري أمن إنصاف الناس أن نقول فيهم بالظن ونأخذ في أمرهم بما نرجحه.. فنضيق به أشد الضيق ونسخط عليه أعظم السخط، لأننا لا نراه ملائما لما نعرفه من حقائق أنفسنا، أو لأننا نراه ملائما لهذه الحقائق لكننا نكره.. أن يقال وأن يذاع في الناس) «صوت إبي العلاء».
2 ـ إن الزمان في طبيعة حركته شعري، فهو (إناء بالحوادث مملوء بالعبر والمواعظ.. فما أشبهه في ذلك بالقصيدة الجيدة من الشعر قد استقامت للشاعر قوافيها) (الكتاب نفسه)
3 ـ الاستعانة بالعقل في تخطئة صدقية التاريخ وقلب معتادية حوادثه التي امتلأت بها كتبه. ولكثرة تداولها صدّقها الناس ولم يعد هناك من ينكرها، وضرب مثلا بـ(ما اختصت به مصر من وباء يغير على أهلها ويفتك بهم.. حتى أصبحت هذه السمعة لمصر كأنها طبيعة لا تبرح، وصفة لا تزول ولا يشاركها فيها بلد آخر من البلاد. خطأ قبيح ووهم فاحش فإنه لم تخل مدينة من المدن من وباء) (الكتاب)
4 ـ البحث عن وقائع او شخصيات اتفقت التواريخ حول مسائل بعينها بينما أهملت مسائل أخرى مثل، شخصية أبي العلاء المعري فهو (من هذه القلة الضئيلة التي يمتاز بها الأدب العالمي الرفيع على اختلاف العصور، وتباين أجيال الناس وتفاوت حظوظ هذه الأجيال من الحضارة ورقي الشعور فإذا فخر الأدب اليوناني القديم بابيقور، وإذا فخر الأدب اللاتيني القديم بلو كريس، وإذا فخرت الحضارة الأوروبية الحديثة بأدبائها وفلاسفتها المتشائمين؛ فمن حق الأدب العربي أن يفخر بابي العلاء، فليس أبو العلاء أقل من احد من هؤلاء الممتازين، خطرا ولا أهون منهم شأنا ولعله يمتاز عنهم بفنون من الأدب والعلم لم يظفروا بها ولم يشاركوا فيها) (الكتاب).
هذه الآراء النظرية وغيرها في كتاب «صوت أبي العلاء» إنما تشكل جزءا من مجموع كبير منه تتألف أطروحة طه حسين الخاصة في كتابة رواية التاريخ، والسؤال هنا كيف طبّق طه حسين هذه الرؤى النظرية وجعلها تتساوق مع أفكار أبي العلاء المبثوثة في لزومياته؟
لقد طبّق طه حسين هذه الآراء عمليا من خلال اتخاذ الترجمة طريقاً سردياً به عبر عن رؤاه وتصوراته المغايرة، متقمصا صوت أبي العلاء شاعرا بما يشعر به من تشاؤم وسوء ظن بالنفس والناس والتاريخ، الذي هو مقصده الأول والأخير. ولا خلاف في أن الترجمة هي سيرة غيرية لكن الجديد هو تجريبها في الجمع بين السرد والشعر والتاريخ والنقد؛ فأما السرد فإنه جعل أبا العلاء متكلما يقص سيرة حياته بضمير الشخص الأول، وأما الشعر فهو قصائد أبي العلاء التي ينتهي عندها كل مقطع سردي، وأما النقد فهو ما يتضمنه المقطع من شرح وتفسير وتحليل، فيها الشارح للأبيات هو الناقد طه حسين، والمشروح هو الشاعر أبو العلاء المعري، وأما التاريخ فإنه حياة ابي العلاء كما نقلتها كتب تاريخ الأدب.

الكتابة السيرية

وفي هذا النوع من الكتابة السيرية تكون القصيدة هي المادة القصصية ويكون الشاعر هو الشخصية التاريخية، التي إليها يسند دوران: دور السارد الذاتي ودور البطولة وبوجهة نظر مصاحبة (تواصل حبل النسل ما بين آدم وبيني، وكان ذلك حمقا تجنبته وغيا برئت منه، فقطعت هذا الحبل ولم أصله وأعرضت عن الزواج فلم أعقب في هذه الأرض نسلا، إنما كان اتصال النسل عدوى شاعت في الناس، كما يعدي المتثائب جاره. اما أنا فقد برئت من هذه العدوى وعصمت من آثارها فلم أتثاءب حين تثاءب جليسي) |(الكتاب). وقد يُعترض على عد الترجمة لحياة الشاعر من خلال شعره بأنها سيرية، كون الشعر ليس توثيقا لحياة قائله ولا هو تسجيل لمجريات ما مرّ به من أحداث ولا هو تفسير حرفي لها، بيد أن التسويغ الذي به رد طه حسين على مثل هذا الاعتراض يتمثل في أن (هذه الترجمة لون جديد من ألوان الأدب العربي الحديث أليس غريبا أن نترجم إلى العربية شعرا هو من صميم العربية؟ بلى ليس ذلك غريبا وإنما الغريب ألا نترجم هذا الشعر) (الكتاب). وفي هذا إشارة واضحة إلى أن السرد يكمن في التاريخ مثلما هو كامن في الشعر، وأن بإمكاننا أن نترجم التاريخ سردياً مثلما يمكننا أن نترجم الشعر سردياً، فالسرد مبثوث في كل كلامنا وأفعالنا.

وليست صيغتا التكلم والخطاب هما اللتان عليهما بنى طه حسين ترجمته لأبي العلاء حسب، بل اتخذ أيضا أسلوب التساؤل والاستفهام الاستنكاري طريقا لتحريض العقول على التفكير، ولاسيما التدبر لما في التاريخ من وقائع موهومة أو مزعومة.

ولأن هذا النوع من الترجمة جديد ولم يعرف نقديا قبل عام 1944، ولأن فيه من التشاؤم ما يؤلب عليه نوعا آخر من المعترضين، لذا لم ينس طه حسين البعد الأخلاقي لمثل ترجمات كهذه فقال: (أنا أعلم ان كثيرا من الناس سينكرون عليّ هذه الترجمة، سينكرها بعضهم لأنها تشيع التشاؤم وتسبغ على الحياة ألوانا قاتمة وما ينبغي أن تشيع التشاؤم في الشباب، ولا أن تصور لهم الحياة إلا مشرقة باسمة) (الكتاب). وهو نوع آخر من الرفض الضمني الذي حمله طه حسين في داخله لكل ما هو سائد ومألوف في التعامل مع الشخصيات التاريخية، واضعا ذلك على لسان أبي العلاء. فكان يؤاخذ الناس ركونهم إلى العادة والتقليد، لأن فيهما تعطيلا لفعل الذاكرة واستظهارا لفعل النسيان (ما أكثر ما يستقبل الناس الصباح وما أكثر ما يستقبلون المساء لكنهم جميعا ينسون ما يكون بينهما من الأحداث. ما أكثر ما يمضي من الساسة والقادة، وقد سروا الناس بسياستهم وقيادتهم أو ساءوا بما دبروا وقدروا). وكان ابو العلاء ينظر إلى التاريخ بوصفه دروسا وعظات ينبغي للأمة أن تضعها نصب عينيها لا أن نكون كمن (لا يشعر ولا تسمو عقولنا إلى عظة ولا اعتبار). لكنه أيضا يؤاخذ من يعظِّم التاريخ ويقدِّس ما وصل إلينا منه فآخذ (أمّة ما أكثر قولها وأقل عملها ما أكثر روايتها لأخبار الجود وأحاديث الأجواد) (الكتاب). وفات تلك الأمة أن التاريخ عبارة عن (أسلاف تسلف وأخلاف تخلف وملوك يزول عنها العز ويفارقها السلطان.. وآثام ما تزال تجددها الحاجة).
وإذا كان التاريخ قد نقل لنا ما في سلوك أبي العلاء من حنق على كل ما هو معتاد، فإن طه حسين ترجم هذا الحنق بأن استبطن دواخل أبي العلاء، جاعلا صيغتي التكلم والخطاب حاضرتين بتواز تقريبي في التخييل التاريخي. وكانت النبرة التشاؤمية طاغية على صيغة التكلم، كما أن نبرة اللوم والاستصغار هي المهيمنة على صيغة الخطاب (خذ حذرك ولا تسمع لكل ما يقال ولا تستجيب لكل ما تدعى إليه) (سر في آثار من مضى قبلك، فإنك لهم تابع ولخطاهم مترسم عاشوا عبيدا أذلاء فعش مثلهم عبدا ذليلا).
وقد لا تخلو صيغة الخطاب من تقريع الناس على غفلتهم وحسن ظنهم بالتاريخ، مع أنه نسي ذكرهم ولفق الأكاذيب وتجاهل دورهم في انتصار المنتصرين واندحار المهزومين، ولهذا كان الناس ـ برأيه ـ هم مصدر ما يلقون من ظلم وأصل ما يقاسون من عسف. ومن بعد اللوم والتقريع تتحول النبرة الخطابية إلى تحريض وحض على الإقدام واستنهاض للعقل نحو التفكير في أحداث الماضين وأنبائهم، يعتقد الإنسان أنها صادقة بينما هي منتحلة ومكذوبة وهي ليست سوى (ظنون مرجحة وأحاديث منحولة لم تنتقل إليك عن ثقة ولم تبلغك عن يقين). وهذا بالضبط هو لب النظرية ما بعد الحداثية في النظر إلى التاريخ بوصفه سردية صغرى وفلسفة أبعاده واستكناه مخبوءاته.
وليست صيغتا التكلم والخطاب هما اللتان عليهما بنى طه حسين ترجمته لأبي العلاء حسب، بل اتخذ أيضا أسلوب التساؤل والاستفهام الاستنكاري طريقا لتحريض العقول على التفكير، ولاسيما التدبر لما في التاريخ من وقائع موهومة أو مزعومة. إن هذا الذي يصوره لنا طه حسين سردياً هو في حقيقته ذو صلة بما نقلته كتب الأدب والتاريخ عن شخصية أبي العلاء المختلفة وعيا، والمتباينة حدسا، والمولعة بالتشكيك في كل شيء، ومنها التاريخ الذي فيه كثير من الخداع والانتحال وأوهام الأقدمين وأساطير الأولين (إن الإنسان لمغرور مخدوع، وإنه على ذلك لكذوب مغتر، لم يدع شيئا إلا تناوله لكذبه).

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com