مجتمع

ضياع الوظيفة النقدية وآثارها السلبية.

بيدر ميديا.."

ضياع الوظيفة النقدية وآثارها السلبية

نادية هناوي

 

النقد الأدبي ميدان منيع الأركان على من يروم الدخول إلى فضاءاته وهو لا يملك العدة الكافية له، نظراً لصعوبة الإحاطة بمجالاته وما يتطلبه الإلمام بها من توفر مؤهلات وامتلاك خبرات تعززها الحصافة في التعامل مع المناهج والتفنن في توظيف النظريات مع التعمق في المذاهب والاتجاهات. وليس عسر الوظيفة النقدية هو في ضراوة ما يتطلبه أداؤها من مستلزمات جمالية لا تتأتى لمجرد الرغبة كما لا تتحصل بالهوى، وإنما هي هذه مضافاً إليها صلابة التأصيل المرجعي ومرونة التمرس، وبهما تكون الوظيفة النقدية متحققة على المستويين الجمالي والمعرفي.
وأهمية النقد الأدبي تعني فاعلية الناقد في أداء وظيفته التي بها تكتمل العملية الأدبية وتغدو الغايات متحصلة حتما بالرؤية المنهجية الواضحة ورصانة الاجتراحات المشفوعة بالنظرية والإجراء مع المواكبة بشكل حثيث وجاد للمستجد في النقد العالمي. ومتى ما بدا النقد الأدبي ثانوياً وفائضاً عن الحاجة، فذلك يعني فقدانه دوره في أن يكون مكملاً للإبداع الأدبي ودليلاً على وجود اختلالات وإشكاليات، من قبيل القصور أو التفريط في تحمل المسؤولية أو تقادم النظر والممارسة أو التهاون والاستسهال عبر الركون إلى الانطباعية العاجلة إلى غير ذلك من الاختلالات التي معها تضيع أهمية النقد الأدبي وتضعف فاعليته فيكتسب طبيعةً تخالف ما عُهد إليه من مهام وأهداف.
وانطلاقاً مما نلحظه من حال النقد الأدبي اليوم، فإننا نجده في الغالب قد أضحى مختلفاً عما كان عليه بالأمس، تتأتى أدائيته لكل من امتلك التعبير والإنشاء وحاز على خلفية ايديولوجية أو تمتع بسمة أكاديمية تساعده في تحليل النصوص، وما عادت الفاعلية النقدية معقدة في مهامها أو ما هو مطلوب منها في ظل تزايد عدد الأعمال الأدبية مع تنوع ميادين النقد الأدبي النظرية واتساع نطاقه الموضوعي، غير مختص بالنص الأدبي وحده، بل أضيف إليه ما يجاوره من معارف وعلوم إنسانية. وبسبب ذلك تضخمت أجهزته المفاهيمية والاصطلاحية وتعددت أكثر مضاميره التطبيقية.
والتوازن هو ما يضمن للناقد الجديد النجاح في أداء الوظيفة المنوطة به، فلا يتعالى كقاض بيده العصا، ولا يهادن أو يتستر كخيمة بها يغطي على العيوب ويساوم على الشهادة والبرهان مدارياً ومحابياً. ولا يتحقق هذا التوازن ما لم يكن الناقد ذا دراية نظرية وقدرة تحليلية وهو يقرأ المتون ويستغور التجارب ويستجلي أبعادها كاشفاً عن مواطن جديدة أو مناح وخصائص فيها كشوفات تغني الإبداع. وأداته في ذلك الاستقراء والاجتراح ودقة التوصيف التي بها يصل إلى صواب الاستنتاج وموضوعية التحصيل.
وإزاء هذا الحال الذي عليه النقد الأدبي اليوم، فإن الغالب على ما يُكتب من نقود يؤكد الندرة الحاصلة في أداء هذا المستوى من الوظيفة النقدية. ومن الطبيعي بعد هذا أن ينزاح النقد الأدبي عن فاعليته، فيبدو ثانوياً، لا يغني بإثارته جديداً محفزاً ولا هو يشبع فقراً أو يعوض نقصاً، فيقلب السائد أو يحرك الساكن أو يأتي بما هو مختلف. وقد وصل الأمر إلى درجة أن غدت غايات كتبة النقد الأدبي متقاربة، بل هي تكاد أن تكون واحدة ومتساوية فالصنعة متشابهة والمبتغى متواضع والوسائل هي نفسها والميول متفقة ومطمئنة بوجه عام والثقة حاصلة ما بين الناقد والنص الذي ينقده، وهو يسلِّم سلفاً بفاعليته، يتذرع بالعلمية وهو بلا منهج محدد. وغاية مطلبه البحث عن الرضا والسلامة والاطمئنان وليس البحث عن الجدة والاتقان. أما لماذا يسعى الناقد إلى التطامن؟ فلأن ذلك ينفع في استحصال الود ونيل التبريكات التي بها تكون عقبى النقد حسنة لاسيما على منصات التواصل الاجتماعي كأكثر المحطات جذباً للقراء والمتابعين.
هكذا تحولت (أولوية) النقد الأدبي التي كنا عهدناها فيه عبر العقود السابقة إلى (ثانوية) فخفت نجم النقد الأدبي وغدا أمر ثانويته حاصلاً شئنا أم أبينا. وتتجلى هذه الثانوية بأشكال شتى لعل أوضحها ما صار الأدباء به يتندرون على النقاد مقتنصين كلمة هنا وعبارة هناك أو متصيدين أسطرا هنا وصفحات هناك هازئين بها وهم يؤولونها بتفكه ويعلقون عليها بسخرية لاذعة.
وسبب ذلك مرده إلى تنازل الناقد عن وظيفته ممارساً دور موظف الاستعلامات والتشريفات، مؤدياً ما لا ينبغي له أن يؤديه. ولعل مراجعة بسيطة لما يكتب من نقود أدبية سيضعنا أمام حقيقة هذا المسلك الذي به فارق النقد وظيفته الجمالية والمعرفية واستبدل ما عنده من تنظير وتمنهج وتمرس بالتفذلك والتنطع والمواربة التي هي بمجموعها ظواهر تكشف عن مدى استسهال الممارسة النقدية سواء بالخمول إتكاءً على ما أنجزه السابقون أو بالتبرم من انجازات القلة الفاعلة من النقاد الجادين وما يأتون به من طروحات وأفكار، متخذين خط التجاهل ومفضلين التغاضي عنهم وعن كل ما يشي بالإضافة والاستزادة والتجديد. والسبب هو الخشية من الدخول معهم في معترك الجدل الذي هو بالنسبة لنقاد اليوم سمة غير حميدة ونقمة ينبغي تجنبها كونها لا تجلب سوى السخط والنكد.
هكذا نشأت لدينا طبقة من النقاد كبرت وما زالت تكبر يوما بعد يوم مضرة بالنقد من ناحية كثرة عديدها الذي غطى على القلة من النقاد الجادين أصحاب الطاقات والأداء الوظيفي الفاعل وذوي المشاريع الأدبية الطمّاحة.
وأغلب ما نشهده من ممارسات نقدية في ما ينشر على أرض الواقع الفعلي أو في منصات الواقع الافتراضي يؤكد غلبة الانطباعية العاجلة والعرضحالية اللتين لا تسفران عن جدوى علمية، بل تؤكدان إهمال الناقد لدوره؛ فلا هو يضع النقاط على الحروف فيكشف ما في النص من أهمية، ولا هو يسير بالقارئ نحو مرافئ تغنيه وترقي ذوقه، بل يعتمد على الانطباع الذي به يداري على جهله بما في النص الأدبي من لمحات وسمات وخصائص مكتنزة. وبسبب ذلك كله صار الناقد أشبه بالتاجر يعرض بضاعته لقراء يعلم أنهم لن يعرفوا أنه يخاتلهم بالاستسهال مدعيا العلمية وممارسا الأستاذية. وقد يزجي بضاعته لمن أقرَّ له بهذه الاستاذية سلفاً وأكد واحديته في عالم النقد جهلاً.
وما من تجارة أردأ من المتاجرة بالقراء والمراهنة على جهلهم مع استغفال الواعين منهم والتعامل معهم وكأنهم بمستوى ذوقي واحد وبلا فروق فردية معرفية بينهم. وفي هذا تغدو الخسارة خسارتين، خسارة الناقد البائع وخسارة القارئ المشتري ومعهما تكسد بضاعة النقد. وبتراكم العرض والعزوف عنه تنتفي أهمية النقد ولا تعود له أية وظيفة أريد منه تأديتها، فلا الأذواق ترتقي ولا الجمال يتحصل.
وآن الأوان لأن نقف في وجه كل أشكال المسايسة والمتاجرة التي تجعل نقدنا الأدبي ثانوياً كبضاعة كاسدة، وقد تضاعف فيها عدد الباعة وقل الجمهور المشتري، وكل بائع يضع يده على خده شاحب الوجه ليس له سوى الشكوى من أزمة نقدية وكأن القرائح جدبت والأذهان كلت فأصيب النقد بعدوى ما في السياسة والاقتصاد من أزمات ومشاكل.
وكيف للنقد أن يصحو من أزمته وهمُّ الناقد أن يكون مع الحال العام متصالحاً مع الجميع، تماما مثل دريد بن الصمة الذي قال أنا مع غزية إن غوت غويت وإن ترشد أرشد. ولماذا بعد ذلك ينفق جهداً في الرصد والتشخيص والاستقصاء وهو لا يريد أساساً الدخول في معترك النقد مجادلة وتورطاً ورهاناً واختصاماً ففي ذلك تفريط بمكتسبات حققت له صفة الناقد التي سعى إليها ونالها بلا عناء وجعلت منه أستاذاً في برهة من الزمن.
إن استمرار هذا الحال سيفقد نقدنا الأدبي جديته وسيطيح بانجازية ما يقدمه اليوم الجادون الوعاة من النقاد الذين فيهم امتداد للرعيل الرائد الذي كرّس حياته للنقد خاصة والأدب عامة. وإلا فإننا لن نتفاجأ وقد فارق نقدنا فاعليته وأحال نفسه على التقاعد سريعاً خاطاً وصيته بيديه قائلاً: إن وجوده لم يعد مهماً لانه بلا وظيفة وان من الخير له أن يقر بخيبة ما فقده من أرث الأسلاف.
ولآت حين مناص ونحن نجد من يمارس النقد الأدبي وهو ليس أهلاً له، ينفِّر ولا يحبب ويضيّق ولا يوسّع. يبحث عن الدعة ولا يتجشم عناء الرصد والمدارسة، متكلاً بكثير من الكسل والاتباع على هذا الركام الكثير من النقود المترجمة التي تترى زاحفة إلى عقر داره، هذا فضلا عن حاجته الذاتية إلى نيل المديح من لدن المنقودة نصوصهم، راغباً بقوة في أن يُرضيهم، متجنباً إثارتهم أو كتابة ما لا يعجبهم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com