منوعات

من العمل الحزبي في موسكو إلى الفجيعة.. قناديل شيوعية تسلّط ضوءاً على حياة شرارة .

بيدر ميديا.."

ثمة قراءات لسلسة من الشخصيات في الصندوق الاسود لحاسوبي ، لقد كتبت في زمن بعيد ، واليوم أضعها في حضرة  القراء والمتابعين . في الصندوق الأسود ٢٥٠ شخصية بمختلف الألوان والاشكال والاتجاهات بين اليمين واليسار من فهد وسلام عادل الى ناظم كزار وبيريا الحارس الشخصي للرئيس ستالين والذي سقاه السم فقتله والى وحيدة خليل ورابعة العدوية ووووووووو .

من العمل الحزبي في موسكو إلى الفجيعة.. قناديل شيوعية تسلّط ضوءاً على حياة شرارة .

ذات يوم من شهر آب عام ١٩٩٧ تواردت الاخبار بفجيعة الإستاذة والاديبة والمترجمة حياة شرارة بموت مفجع أقرب الى التراجيديا السوداء مع أبنتها الكبيرة مها ونجت أبنتها الثانية زينب من الموت فكثرت التكهنات حول طريقة ودوافع موتها ، قد يكون أرتباطاً بأزمة الوضع السياسي في العراق وأشكالات سياسة النظام في التعامل مع ملف الحصار الدولي وتداعيات أسلحة الدمار الشامل وسياسة قمع المعارضين . في اللحظة الأولى التي طرقت سمعي وتماهت لي تلك الخبرية الحزينة من العراق ، وفي محاولة يائسة للصدمة لزمة قلم جاف وورقة بيضاء ورحت أدون شذرات من ذاكرة الماضي القديم الكثيرة ، عندما كانت إستاذتي لثلاثة سنوات مضت في الآداب جامعة بغداد العام ١٩٨٠ تلقي دروساً علينا ، نحن طلبة القسم حول فطاحل الآدب الروسي ، والتي توسمت رسالتها في الدكتوراه ب ” تولستوي فنانا ” وبعد أيام نشرت تلك  الشذرات عن حياتها في مجلة ” رسالة العراق ” ، عندما كانت الخطوط ماشية مع الربع في نشر منشوراتي قبل ما تلاص وتتقاطع المواقف والرؤى حول الاحتلال والعملية السياسية والموقف الوطني .

حياة هي إبنة الاستاذ والشاعر محمد شرارة لبناني الاصل وعراقي الهوى والانتماء. ولدت في عام 1935 في مدينة النجف، وتوفيت إنتحاراً هي وابنتها مها عن طريق استنشاق الغاز في ١٩٩٧. انضمت إلى الحركة اليسارية في العراق ودرست في جامعة بغداد ثم سافرت في الستينيات من القرن العشرين إلى روسيا لتكمل دراستها العليا. بعد عودتها إلى العراق عملت في جامعة بغداد – كلية اللغات كاستاذة للآدب الروسي فترة من الزمن حتى بدأ نظام صدام حسين ملاحقتها بالرغم من محاولتها عدم الاعراب عن مواقفها من سياسة الحكومات آنذاك . وانصرفت إلى التأليف والترجمة ، فنشرت مقالات مثل تأملات في الشعر الروسي ١٩٨١وغريب في المدينة” ومسرحية المفتش العام  لجوجول ويسينين في الربوع العربية ١٩٨٩ ومذكرات صياد ١٩٨٤ورودين وعش النبلاء” لأيفان تورجينيف ومسرحيات بوشكين ١٩٨٦ نشرت أختها بلقيس روايتها الوحيدة بعد عدة سنوات من رحيلها ” إذا الأيام أغسقت ”  وهناك عمل روائي آخر لها لم يلقى النور ” وميض برق بعيد ”. في إنتظار من القراء والمتابعين له .

حياة شرارة زوجة طبيب الكسور والعظام الشهير محمد صالح سميسم ، ويذكر إنه إعتقل في يوم أجرى به خمسة عمليات لجرحى الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٢ ، وقد مات في ظروف غامضة وأصابع الاتهام تشير الى المخابرات العراقية في قتله تاركاً بعد رحيله زوجته حياة وبنتان مها وزينب . وحياة هي البنت الثالثة للاديب محمد شرارة بعد بنتان مريم وبلقيس ، وقد سماها والدها ( ثالثة الاثافي ) . تقول أختها بلقيس ومن خلال روايتها ” إذا الأيام أغسقت ”  والرسائل المقتضبة بينهما إنها أنتحرت تمرداً ويأساً على الوضع القائم بالعراق وإنحداره نحو النفق المظلم ، وفي تقديري الشخصي ليس غريباً على شخصية حياة لتوغلها في الروح الانسانية وجوهر الانسان في نتاجات الادب الروسي ، إنها هي التي قرأت علينا وحللت إنتحارات الروائيين والأدباء الروس ”فلاديمير مايكوفسكي ” سيرجي يسينين ” وأعتبرتها في قمة أحتجاجاتهم الفكرية والادبية والانسانية على الوضع السائد في الاتحاد السوفيتي زمن ستالين .

في يوم الأول من شهر آب ”أغسطس ”من ذلك العام توقيتاً للانتحار مع ابنتها الكبيرة مها، رغم ذلك ، تبقى يد نظام البعث واضحة ومسؤولة  في إنتحارها الذي لم يكن إلا احتجاجاً أخيراً وصامتاً على سنوات طويلة من الحصار والمعاناة على حياتها ، فمنعها من السفر وحجب كتبها وضيّق عليها أكاديمياً، على أن الرواية نفسها كانت رثاءاً للأيام الذهبية الآفلة وانطفائها في بغداد التسعينيات. روايتها التي تحمل جزءاً من سيرتها من خلال بطلها الأستاذ نعمان في إحدى جامعات العراق والضيق الذي يتعرض له يومياً كجزء من حالة يومية في حياة العراقيين .

الدرس الأول عام ١٩٨٠ في أروقة الآداب جامعة بغداد . ألقيت علينا نحن الطلبة الجدد نبذة مختصرة عن سيرتها الاكاديمية وأهتماماتها في مجالي الكتابة والترجمة ، ولم تمر علينا في تلك السيرة على سيرتها الشخصية من هي ؟. ومن أي بلد ؟. ظل الاعتقاد ماشي بيننا لردح من الزمن إنها عراقية الأبوين ، إنطباعي منذ اليوم الأول عنها إنها تخفي حزن شديد في روحها ، إنها هادئة الطبع يعلو وجهها الجميل إبتسامة خفيفة ، تتشح بالملابس السوداء تنورة وقميص وحذاء وحقيبة سوداء لاتفارقها تخفي بها أوراقها المبعثرة عن مرحلة الزمن القادم وتداعياته على حياة العراقيين . في العام ١٩٨٢ تغيبت عن حصص المحاضرات لمدة أسبوع في مهمة حزبية الى الجبل ، وفي عودتي في اليوم الأول صادفتني على السلم المؤدي الى الطابق الثاني حيث قاعات دروسنا وقبل أن ألقي التحية عليها بادرتني بالسؤال ” وينك أنت  ” وليش ما تحضر المحاضرات  ؟. أنني سوف ألتحق بفصائل الانصار الشيوعيين في الجبل ، يعني سوف تشرد مثل جماعتك وتلتحق بهم ؟. في حينها لم أفسر وأعي معنى كلامها ، لكن بعد سنوات فهمت عمق ومعنى كلامها . نحن الشيوعيين تركنا الساحة العراقية الى البعثيين يتحكمون بمقدرات شعبنا وخيرات بلدنا ، وعندما عدنا بعد سنوات من النضال عدنا مع الاحتلال الامريكي وتحت أجندة الاسلام السياسي المتخلف ضيعنا الخيط والعصفور . 

ينحدر أبوها الشاعر محمد شرارة من جبل عامل في الجنوب اللبناني عام ١٩٢٠، متجهاً إلى مدينة النجف لدراسة الفقه الإسلامي، وقرر الاستقرار والزواج في العراق ، في بداية الأربعينيات، وللظروف التي مرت بها العائلة أخذ الأب عائلته وأنتفل بهم إلى بغداد، وافتتح صالوناً أدبياً، كان يرتاده الكتاب والشعراء، مثل بدر شاكر السيّاب ، ونازك الملائكة ، محمد مهدي الجواهري ، بلند الحيدري ، أكرم الوتري ، لميعة عباس عمارة ، عبد الوهاب البياتي . في بغداد أكملت دراستها الثانوية  ثم سافرت بسبب الظروف السياسية في العراق في العقد الآخير من الخمسينيات الى سوريا ومصر حيث درست بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة . بعد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ ، عادت إلى العراق ودرّست الآدب الروسي في جامعة بغداد وبعد تخرجها، سافرت إلى مدينة موسكو، حيث نالت الدكتوراه من جامعة موسكو، قبل أن تعود إلى العراق وتعمل إستاذة للآدب الروسي في جامعة بغداد. إثر موت زوجها بعد إعتقاله عام ١٩٨٢، تعرضت لضغوط وملاحقات دفعتها إلى الابتعاد عن السجالات السياسية ، لكن هذا لم يشفع لها عند السلطات ، مُنعت من السفر، كما مُنعت كتبها، وظلت على هذه الحالة حتى رحيلها في الأول من أغسطس عام ١٩٩٧. في العام ١٩٨٢ مات زوجها الدكتور محمد صالح سميسم وتلبسها حزن شديد وخوف على مستقبل عائلتها . وأنا أرى ذلك الحزن الشديد والغضب في عيونها في زيارتنا الى بيتها مع الدكتور جليل كمال الدين وزميلي في القسم محمد عبد الكريم الزبيدي .

النتاجات في سجل حياة شرارة الأدبية والروائية والترجمة .

• “إذا الأيام أغسقت”، ٢٠٠٢

• “ماياكوفسكي”، ١٩٧٦

• “مدخل إلى الأدب الروسي”، ١٩٧٨

• “بيلينسكي”، ١٩٧٩

• “من ديوان الشعر الروسي”، ١٩٨٣

• “صفحات من سيرة نازك الملائكة” (نقد)، ١٩٩٤

“تولستوي فناناً”، ٢٠٠٢

يذكر الدكتور ضياء نافع زميلها في الدراسة في مطلع الستينيات في موسكو ، وبعد سنوات طويلة جمعتهما الرفقة كإستاذين في الهيئة التدريسية في كلية الآداب جامعة بغداد لتدريس اللغة والادب الروسي ” جئت مرة الى القسم ورأيت حياة قد خرجت لتوها من غرفة رئيس القسم وهي متوترة جداً، حييتها وسألتها .. ما الأمر يا أم مها ؟. فأجابت بانفعال واضح ، إنها تحدثت لتوها مع رئيس القسم حول تدريس مواد الأدب الروسي من رواية ومسرحية وشعر وتاريخ الآدب , فقال لها رئيس القسم باستهزاء ان تلك المواد لا قيمة لها بتاتا في مناهج التدريس في القسم .ابتسمت وسألتها .. وهل سمع بوشكين ودستويفسكي و تولستوي بذلك ؟. ضحكت حياة وقالت ، الحمد لله لم يسمع أحد، وضحكنا من أعماق القلب ، ولكنه كان ، بالطبع ، ضحكا كالبكاء..

أختارت الفقيدة حياة شرارة أطروحتها الجامعية لنيل شهادة الإستاذة عن الروائي ليف تولستوي وواحد من كتبها عنه بعنوان ” تولستوي فنانا” وتذكر في كتابها ، إحتل تولستوي مكاناً مرموقاً في قلوب القراء وتعتبر رواياته “الحرب والسلام” و”آنا كارنينا” و”البعث” من الروائع الخالدة في الآدب العالمي وهي التي يزداد إهتمام الكتاب والمسرحيين والسينمائيين بها من جيل إلى جيل .

ومنبع هذا التلهف على آدبه هو محتواه الإنساني العميق ودعوته للخير ولسيادته في العلاقات البشرية ونقده المرير للظلم والطغيان والفساد والإنحطاط التي يتعرض لها البشر . يعتبر الروائيين الروس أصحاب مجد متواصل في الادب العالمي لتوغلهم في النفس البشرية في الحب والألم والشجاعة والهزيمة والجريمة والعقاب .

ذكر الدكتور صباح نوري المرزوككان للنعي الذي رفعته كلية اللغات بجامعة بغداد على جدران مجمع الكليات في الوزيرية سنة ١٩٩٧ م أثره البالغ في نفوس من قرأ هذا النعي وعرف عنوانه، لاسيما إنه يتعلق بإستاذة فاضلة ومترجمة متمكنة في ميدانها وهي الدكتورة حياة شرارة ، إستاذة الآدب الروسي.

وكان الحديث يومئذ همسا يدور حول إنتحار الدكتورة مع أبنتها مها، هل هو إنتحار فعلي أم ان يداً خفية من وراء ذلك ، ولكن ما جاء في رواية  ”إذا الأيام أغسقت” التي كتبتها الراحلة وقامت بنشرها وكتابة المقدمة لها شقيقتها بلقيس شرارة يؤكد ان الحدث هو إنتحار بسبب فقدان الأمل والإحساس بانها أمام منعطف الهاوية عندما فقدت الحياة مغزاها وهدفها.

كتبت أختها بلقيس بعد مرور عقد من الزمن على رحيلها الفاجع ” مرّ عقد والعراق يمر في مآسي متواصلة، فالعلم يحارب بقتل أساتذته وأطبائه و طلبته وعلمائه و خبرائه. وأستشرت هجرة العقول من العراق و أصبحت آفة لا يمكن التغلب عليها، تلتهم العقول و الضمير. مرّ عقد غلب عليه الحزن فغاب الفرح، عقد لفه دخان الرعب بجناحيه ، والناس حيرى يتطلعون إلى السماء علها تشرق شمس الأمان في مدينتهم بغداد.

لا أدري كيف أختصر عقداً كاملاً و تحت حفنة من التراب في عتمة القبر الضارية. كنت أتمنى زيارة قبرها بعد سقوط الحاكم الذي كان سبباً في نهايتها المحزنة ، زيارة مدينة بغداد التي أحبتها و لم تفارقها!! مدينة بترت أوصالها و قطعت شرايينها، و هُجّر أهلها، و أغرقت في شلال من الدم!! داكن، قاتم، هو الواقع الذي يعيشه الناس ، و لا أدري متى يعود العراق إلى شاطئ الأمان!! فأهل العراق لا زالوا في الانتظار .

يشير الشيوعي والصديق صباح كنجي في مقال منشور في الحوار المتمدن حول موت حياة شرارة ” أن الحزب الشيوعي نشر في مواقعه بعد سقوط الدكتاتورية خبراً عنها ينصُ على أن حياة قد ذبحت مع أبنتها ” الدكتورة حياة محمد شرارة زوجة الدكتور محمد صالح سميسم وأبنتها واللتان اغتيلتا ذبحا في منزلهما في بغداد ”

أياً تكن الحقيقة لا تغير من جوهر الأمر، لكن التوثيق مطلوب والتدقيق في التاريخ والمعلومة أفضل من تعدد الروايات والتواريخ المثبتة المختلفة في عدد من مواقع الانترنيت ..”

أنتمت حياة شرارة بحكم وضعها العائلي والبيئي ونشأتها بوقت مبكر الى الحزب الشيوعي العراقي ، لكن تركت التنظيم أيضا في وقت مبكر في موسكو عام ١٩٦١ ” وتمنت في رسالتها الموجهة الى منظمة الحزب في موسكو أن لايهاجموها كما جرى مع الآخرين بشتى النعوت ” الذين عزفوا عن التنظيم ” وتقول تركت الحزب والى الآبد ، لكنها بقيت متمسكة بفكرة اليسار الراديكالي وأهدافه .

الفقيد خالد حسين سلطان وتحت سلسلة متواصله ” قناديل شيوعية ” ، صدر كتابه عن حياة شرارة ” الثائرة الصامتة حياة شرارة ” يقول .. لم التقي بالفقيدة وأنا من جيل طلابها بل كانت هي وزوجها المرحوم محمد صالح سميسم أصدقاء ورفاق لوالدي المرحوم حسين سلطان ، وكان الطبيب محمد سميسم طبيب العائلة وأصدقائها وأقاربها يقدم لهم المشورة والمساعدة في الحالات المرضية سواء في إختصاصه أو غير ذلك وخصوصاً خلال فترة عمله في مستشفى الطوارئ في بغداد حيث كنت أحد مراجعيه ، وفاءاً لتلك الصـــــــداقة والنبل الإنساني الذي تحمله الفقيدة وزوجها والإهمال المقصود من المؤسسات الأكاديمية التي عملت فيها وكذلك رفاقها في فترة عملها الحزبي ، أقدمت وعلى ضوء أمكاناتي المتواضعة في تسليط الضوء على حياتها من خلال كتابي هذا ” قناديل شيوعية ”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com