ثقافة

«الملف 42»: في مدارات اللعبة الروائية.

بيدر ميديا.."

«الملف 42»: في مدارات اللعبة الروائية

 

واسيني الأعرج

 

«الملف 42» (424 صفحة) هي ثالث رواية لعبد المجيد سباطة (مواليد 1989 سلا- ماستر هندسة مدنية) بعد: «ساعة الصفر» (جائزة المغرب للكتاب في 1918) وروايته الأولى «خلف جدار العشق» (2015). كما نشر ترجمتين لروايتين للكاتب ميشيل بوسي. يؤهله ذلك ليكون صاحب خبرة روائية متفتحة على المنجز العالمي. واحدة من الصفات المهيمنة على هذه الرواية هي العالم الذي اختارته لتتحرك فيه. فقد بنيت على التفاصيل والبحث الدائم عن الحقيقة الغائبة، من أولها حتى آخر سطر فيها من خلال إثارة ثلاث قضايا مربكة تترك القارئ معلقا على توتّراتها: اغتصاب الخادمة الغالية، الهرب إلى موسكو وعيش حياة لم تكن محسوبة، قصة الكاتبة الأمريكية ووالدها، وقصة الزيت المسموم. كلها لحظات مربكة ومثيرة للتساؤلات الكثيرة.
مثلما هو الحال في الروايات البوليسية، وبشكل أدق، رواية التحريات Roman d’investigation حيث كل شيء غامض، ويجب تفكيك تفاصيله وإعادة تركيبها لإظهار الحقيقة. منذ البداية تتضح اللعبة السردية: الكتابة بوصفها لعبة شطرنج، لا مكان فيها للصدفة، «لا فرق عندي بين الكاتب ولاعب الشطرنج، كلاهما يخوض معركة عقلية عنيفة. وعلى رقعة تتسع مساحتها الصغيرة المخادعة لتشمل العالم بأسره.» (ص 9)« كل الاستعمالات النصية في الرواية، محسوبة بدقة. من هنا، يزج بنا الكاتب في لعبة فنية إضافية تجعلنا نتدحرج بين الحقيقة وسندها التخييلي. نكتشف أولا أن فهرس الرواية ليس فهرسا بالمعنى التقليدي، فهو يخفي بين طياته سرا يحتوي على الكتب التي أوصى محسن الفاضلي بقراءتها، ونقلها رشيد بناصر في مذكراته. تبدأ بكتاب إيتالو كالفينو: «لو أن مسافرا في ليلة شتاء» وتختتم برواية «الوصية الفرنسية» للروائي أندري ماكين. يتخلى الفهرس نسبيا عن وظيفته كمؤشر، ليصبح دليلا للقصة كلها وبنائها. ثم اللعبة التي نجدها في نهاية الرواية في شكل تساؤلات وشكر، والتي بُنِيت على سؤال: هل كان من بين ضحايا مسرح دوبروفكا الروسي الذي فجره الإرهابيون الشيشانيون، مغاربة؟ زهير بلقاسم يصرّ على ذلك، قبل أن يعود إلى دوار الحاج قدور باحثا عن الغالية، الخادمة القاصر التي اغتصبها، ويؤكد له بعض سكان الدوار أنها ذهبت إلى طنجة أو ربما أغادير. الغرابة في هذه الحالة، هي كيف أن يونس بلقاسم والد زهير، لم يرافق زوجته بحثا عن ابنه، وفضل الغرق في علاقاته المتعددة. قرر زهير المغادرة وعدم العودة، إلا بعد معرفة مآل الخادمة. يتداخل هذا البحث التخييلي الشبيه بالحقيقة، بالموضوعي الذي اشتركت فيه شخصيات مثل الشابة التي اشتغلت على الزيوت المسمومة، مديحة الصبيوي التي قدمت بحث ماستر حول كارثة الزيوت المسمومة في المغرب (1959-1960) وتحولت في الرواية إلى شخصية لبنى العفوي التي أنجزت دكتوراه حول الموضوع. وشكر الأستاذ الجويطي وهو كاتب مغربي معروف، الذي فتح عيني الكاتب على هذا البحث وشجعه في منجزه الروائي. هذا التدحرج بين الحقيقي والمتخيل دفع بالرواية نحو الأقاصي، إذ جر الكاتب قارئه وراءه حتى اللحظة الأخيرة من خلال الإشارات التي ذكرتها والتي تستعمل الحقيقة للمزيد من تكريس قوة المتخيل وليس العكس.
وعلى الرغم من هذه التفاصيل المتشظية، فقد تحكم عبد المجيد في روايته من بدايتها حتى نهايتها. يكفي أن نفصل بين القصتين اللتين بنيت عليهما الرواية لنفهم جيدا النص ومساراته، وتقنية الكتابة التي تحكمت فيها. على الرغم من الحضور الطاغي لضمير المتكلم، هناك تعددية صوتية جعلت من الرواية نصا بوليفونيا بامتياز. القصة الدرامية الأولى تحكيها الروائية الأمريكية المعروفة (في النص) كريستين ماكميلان التي تعاني من عجز كتابي يجعلها لا تفي بالتزاماتها مع دار النشر، لأنها فشلت في كتابة النص المتعاقَد عليه، فترحل إلى المغرب. هناك تتعرف على شاب مغربي جامعي باحث، رشيد بناصر الغارق في العمل على رواية لا مؤلف لها « أحجية مغربية» صدرت في 1989. نكتشف أن من بين شخصياتها هناك رجل يحمل اسم ستيف ماكميلان. الجندي الأمريكي الذي كان يعمل في إحدى القواعد الأمريكية في المغرب، في الحرب العالمية الثانية وما بعدها. بمساعدة رشيد بناصر، تكتشف كريتسن أن الجندي الأمريكي هو والدها. ثم تبدأ عملية التحقيق الأدبي لكشف خيوط جريمة لم تكن محسوبة، الزيوت المسمومة، سنة 1959. فتضع الرواية يدها على الفساد والمافيا المتحكمة فيه، حيث لا قانون. يموت الناس ويحيون بالصدفة، ويظل الجناة خارج كل التهم. الرواية تنحاز منذ لحظتها البدئية للمظلومين من خلال الإهداء لمناضلين هما: رقية بلمامون وعابد سباطة. فالتزامها المجتمعي يخرجها عن كونها رواية بوليسية. فهي رواية مجتمع بامتياز، تواجه بجرأة سماسرة الموت. زيت الغزال المخلوط بنسبة 65% بمادة سامة لا علاقة لها بالزيت العادي. أودي ذلك بحياة الآلاف قبل أن يغلق الملف تقريبا مع آخر الشهود الأحياء. (يمكن مراجعة وثيقة مهمة عثرت عليها أثناء قراءتي للرواية، نشرتها جريدة المساء المغربية، بتاريخ 14.07.2011، توجد بها تفاصيل الجريمة كلها)
أما الوحدة السردية الثانية يمكن تلخيصها في القصة التي رواها زهير بلقاسم. وهو شاب لا يبالي مطلقا بالحياة، وغير مسؤول. يظن أن كل شيء متاح له، ومن حقه. فقد عاش في الغنى على الرغم من كونه ثمرة علاقة حب بين والدين مثقفين. يقوم باغتصاب الخادمة القاصر: الغالية، الطيبة والفقيرة. تتدخل والدته المحامية لتجد مخرجا لابنها. وبمساعدة معارفها، تغلق ملف الاغتصاب، وتبعث بزهير إلى موسكو للدراسة. وهناك يعيش حياة أخرى، في ظل مخلفات انهيار الاتحاد السوفياتي، والوضع الشيشاني من خلال جريمة تفجير الشيشانيين للمسرح التي ذهب ضحيته العشرات.
اعتمدت الرواية في سردها على سردين، السرد الخطي، على الرغم من محاولة الروائي تفاديه، وهو ما أضاء جوانب كثيرة من الرواية، والسرد الاختزالي من خلال استعمال الوثيقة الصحفية والرسالة. لقد امتلأت الرواية بهاذين النوعين للكشف عمّا تم إخفاؤه. القصاصة تختصر الزمن السردي وتدفع بالقارئ إلى التساؤل وفتح الفضاءات المغلقة واستحضار الأزمنة الغائبة. ليس ذلك ممارسة جديدة، فقد تبناه الكثير من الروائيين، لكنه في رواية «الملف 42» لم يكن تنميقا، ولكن كوسيلة للقفز فوق الأزمنة الخطية، واستدعاء ما خفي من أسرار. فالكاتب بهذه التقنية، لم يعد في حاجة لتبرير اللعبة الزمنية والشكلية. حتى الطباعة التصويرية للوثيقة كان لها دور إيقوني واضح يوحي بصدقية الوثيقة وجدواها نصيا ومن المؤكد أن ذلك اقتضى تواطؤا تقنيا حقيقا بين الروائي والناشر.
بقي أن أشير إلى أن هذا النوع من الكتابة التي تتقصّى الحقيقة، وترسخ عند بعض الروائيين، ليس عملا سهلا، فهو يعتمد على اللحظة التي تفجر فعل الكتابة، هنا، عثوره على خبر صغير حول الزيوت المسمومة، ثم تتفرع الكتابة التي يصبح فيها الكاتب باحثا بأتم معنى الكلمة. فيبدأ بمرحلة بجمع وتوثيق كل ما له علاقة بثيمة الرواية، مقالات، شهود، وثائق أمنية أو بلدية سرية وغيرها. هذه العملية استغرقت مع الكاتب قرابة السنتين، قبل التفرغ للكتابة. وهذه الممارسة تجعل الكاتب حتى وهو يتراوح بين المتخيل والواقعي، يسطر على المساحة التي يشتغل عليها لكتابة رواية مقنعة في ثيماتها وبنياتها. التخييل يبنى بقوة على مادة أولية تم اختبار جدواها تاريخيا وإبداعيا.

روائي جزائري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com