مقالات

الحزب الشيوعي اللبناني يتشظى .

بيدر ميديا ..

محمد علي مقلد .

يتشظى”عبارة للنائب في البرلمان محمد رعد. كان الحزب يفضل بديلاً منها النزف أو التشرذم. قالها نائب حزب الله عام 1998 رداً على عتب شيوعيين لم يتمكن الثنائي الشيعي من أن يمنّ عليهم بمقعد في بلدية النبطية، متذرعاً بخلافات وصراعات داخل الحزب الشيوعي، ثم إلى تنافس على نيل رضا حزب الله في دائرة انتخابية ورضا حركة أمل في دائرة أخرى.
دائرة الاستقصاء لدى حزب الله مكّنته من معرفة بعض الحقيقة بجانبها الأمني. أما الجانب السياسي فيعود إلى ما قبل عقد ونصف من السنين، وبالتحديد إلى اجتماع اللجنة المركزية الذي سمح لي “المحقق” أن أطلع على وقائعه، أي إلى خريف 1983. منذ ذلك التاريخ، وحتى قبله، كانت قد بدأت تظهر داخل الحزب أشكال من الاحتجاج الصامت على خطأ ما في النهج والأداء، أدت إلى خروج بعض المناضلين من صفوفه والإقامة على ضفافه، ومع كل مفصل سياسي كان يخرج بعضهم احتجاجاً لكن الحزب ظل في نمو عددي حتى الانسحاب الاسرائيلي ما قبل النهائي من الأراضي اللبنانية.
قرأت في وقائع ذلك الاجتماع أن كل الدلائل تشير، بحسب محضر الجلسة، إلى اقتراب موعد النصر النهائي على العدو، وأن قيادة الحزب”تيقّنت” من صحة توقعاتها ودليلها على ذلك الانسحاب الثاني للقوات الاسرائيلية من منطقة عالية ومن القسم الأكبر من منطقة الشوف، بعد انسحاب آخر حصل قبل عام من مدينة بيروت، ما يتطلب إعداد العدة لاستلام السلطة مع الحلفاء لإقامة “حكم وطني ديمقراطي”. في أولويات تلك العدة بناء حزب من “طراز جديد” يتولى قيادته من يعود الفضل لهم في تحقيق الانسحاب الاسرائيلي مرتين متتاليتين، أي القيادات العسكرية في المناطق وكادرات المقاومة.
بَنَتْ قيادة الحزب تحليلها للوقائع على أوهام وتقديرات خاطئة. أولها أن “الحلفاء” لا يريدون من المقاومة ما كان يريده الحزب منها؛ وثانيها أن”الحلفاء”لا يخططون لإقامة حكم وطني ديمقراطي ولا يتفقون مع من يخطط لذلك؛ وثالثها أن”الحلفاء” ليسوا فريقاً واحداً ولا جبهة متجانسة؛ ورابعها أن تحالف الحلفاء غير مبني على استراتيجية موحدة بل هو مجرد تجمع لقوى تعمل كلها، طوعاً أو كرهاً تحت طائلة العقوبة، لدى رب عمل واحد هو النظام السوري. وخامسها أن من لم يتحمل وجود كمال جنبلاط لن يتحمل وجود جورج حاوي ومحسن ابراهيم ومن لم يتحمل القرار المستقل للمقاومة الفلسطينية لن يتحمل قراراً مستقلاً للمقاومة اللبنانية الوطنية منها والإسلامية حتى لو كانت كل هذه المقاومات تكافح لا في سبيل تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة والفلسطينية المغتصبة فحسب، بل في سبيل تحرير الجولان أيضاً. وسادسها أن بناء حزب من طراز جديد لا يبدأ بتغيير القيادات الوسيطة، بل ببرنامج جديد وخطة جديدة يتم على أساسهما اختيار قيادة مركزية. من هنا بالضبط بدأت ملامح انفجار أزمة الحزب، أي مما بدا أنه صراع على الموقف من التحالفات، ولأسباب أخرى أيضاً سنأتي على ذكرها.
في خريف 1983، أي خلال دورة الاجتماعات التي قرر فيها الحزب بناء حزب من طراز جديد، عاد أبو عمار إلى طرابلس، وكانت كلفة إخراجه منها على يد حلفاء سوريا تضاهي كلفة إخراجه من بيروت على يد القوات الإسرائيلية. خراب ودمار ودماء. غير أن حصة الحزب الشيوعي من الكلفة هذه المرة كانت كبيرة جداً، إذ دفع هو الثمن على يد حلفاء أبو عمار من الجماعات الإسلامية التي خاضت معركة عودته تنكيلاً بالحزب وتخريباً لمراكزه وتهجيراً لمحازبيه من أبناء المدينة.
بعد وقت غير بعيد، في السادس من شباط 1984، وجد الحزب نفسه حليفاً لتنظيم إسلامي آخر هو حركة أمل الشيعية وتعاونا على طرد الجيش اللبناني من ضاحية بيروت الجنوبية، مستخرجاً من هذا التعاون بدعة سياسية “لينينية” لكن غير”ماركسية” إسمها وجود “طوائف وطنية” منخرطة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وطوائف “غير وطنية” متعاملة مع إسرائيل كان قد أطلق عليها في السابق نعت انعزالية. هي معادلة مبنية على فكرة التحرر الوطني، وهي خاطئة من بدايتها، لأن الشيوعيين اللبنانيين انخرطوا في النضال ضد الاستعمار، استجابة للترسيمة اللينينية مع أن ظاهرة الاستعمار غير موجودة في المشرق العربي،(هذه الفكرة مفصلة في كتابي أحزاب الله) ولأن خطاب الحزب بدأ يخرج عن الأدبيات والمصطلحات اليسارية والطبقية والماركسية، ما أوقع الشيوعيين ضحية وحوش الطوائف كلها، إذ لم تمكنهم هذه الاجتهادات من النجاة من تنكيل التنظيمات الإسلامية في طرابلس والمتشددين الدروز في معركة الجبل والأحزاب المسيحية على امتداد الحرب. حتى أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية لم يكونوا في مأمن من تنكيل منافسيهم من الشيعة على مقارعة العدو، وخصوصاً إذا كان التنكيل يتم بمبادرة من حلفاء الداخل أو بطلب من قيادة التحالف في الخارج، وبغض نظر من قيادة التحالف العالمي بقيادة المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي.
عام 1985 أعلن النظام السوري الحرب على الجماعات الإسلامية الموالية لياسر عرفات في طرابلس. رأى الحزب الشيوعي في ذلك فرصة لاستعادة موقعه في المدينة. غير أنه رفض المشاركة في تنفيذ قرار سوري آخر يتعلق بشن حرب على المخيمات الفلسطينية في بيروت وصيدا. إذن هو اختار التحالف مع النظام السوري في طرابلس ورفض التعاون معه في معركته ضد المخيمات. قبل عام كان قد اختار التحالف مع حركة أمل ضد الجيش اللبناني في ضاحية بيروت، ثم رفض التحالف معها ضد الفلسطينيين.
في تلك الأثناء كانت قيادة الحزب تمهد لعقد المؤتمر الخامس، في جو من التوتر الداخلي الناجم عن ضغوط سورية عليه ليشارك في تصفية جيوب ياسر عرفات في لبنان. على ذمة التقارير الحزبية، قرر النظام السوري تدفيع الحزب ثمن عدم إذعانه لمشيئة “الحلفاء”، فبدأ التضييق على المقاومة بحجز الأسلحة المقدمة لها من البلدان الاشتراكية عن طريق سوريا، ثم بمناوشات بين حركة أمل والحزبين الاشتراكي والشيوعي في بيروت انتهت بمعركة كان من نتائجها إخراج ميليشيات حركة أمل من شوارع العاصمة، وعودة الجيش السوري إلى بيروت. بلغت ذروة التوتر في العلاقة مع الحلفاء بتصفية عدد من القيادات والكادرات في الحزب الشيوعي في بيروت والجنوب.
بالتزامن مع هذا التوتر في علاقات الحزب التحالفية كانت قد بدأت تظهر إلى العلن ملامح انهيار مرتقب في المعسكر الاشتراكي، ولكل منهما انعكاساته على وضع الحزب الداخلي، وراحت القيادة تبحث عن تشخيص وعن علاج، بل عن جواب على السؤال الصعب المتعلق بمصيرالتجربة الاشتراكية، وبمصير حلفاء المعسكر الإشتراكي. غير أن بحثها هذا استند إلى عامل وحيد هو قوة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تأسست بقرار شيوعي و شهدت عصراً ذهبياً تتوّج بانسحاب إسرائيلي ثالث كبير هذه المرة، لم يتوقف إلا عند الحدود في شريط بعرض عدة كيلومترات يمتد من البقاع الغربي شرقاً حتى الناقورة غرباً على ساحل البحر إلى الجنوب من مدينة صور.
توهمت قيادة الحزب أن القوة القادرة على دحر جيش الاحتلال لا بد أن تكون قادرة على هزيمة خصمها الداخلي، فتكون الخطوة التالية بعد الانسحاب الإسرائيلي الإجهازعلى الرمز المتبقي من السلطة السياسية، ممثلة برئاسة الجمهورية، لتدشين مرحلة جديدة من عمر الوطن هي المرحلة الوطنية الديمقراطية. وكان النظام السوري جاهزاً دوماً لتعزيز هذا الوهم متظاهراً بالحاجة إلى مقاتلي الحزب وحشدهم في أعالي جبال صنين، أكثر من مرة في تلك المرحلة، للهجوم على بكفيا معقل الرئيس، وسرعان ما كان يطلب فك الاستنفار كل مرة يكون فيها التوتر بين الرئاستين السورية واللبنانية قد وجد طريقه إلى الحل.
بلغ الوهم مداه عندما انتهى عهد الرئيس أمين الجميل ودخل لبنان في مرحلة تميزت بفراغ رئاسة الجمهورية ووجود حكومتين. بدا المشهد في نظر قيادة الحزب وكأنه تحضير لبناء لبنان الوطني الديمقراطي، ودائماً بمساعدة حلفاء كانوا يخططون لأمر آخر. النظام السوري كان يدفع نحو الانهيار الكامل ليحقق حلمه بوضع يده على لبنان، فيما حركة أمل لم يكن لديها غير تنفيذ أوامر النظام السوري، أما حزب الله فقد بدأت ملامح مشروعه تتوضح في تمايزه عن حركة أمل وفي إعلان انتمائه إلى المشروع السياسي الإيراني الساعي لإقامة دولة الولي الفقيه.
لا الحكم الوطني الديمقراطي ولا المقاومة. هذان هما ركنا القضية في مشروع الحزب. النظام السوري أجهز على الركن الأول بعد أن أوكلت إليه مهمة تطبيق اتفاق الطائف، فأشرف لا على استبعاد الحزب الشيوعي ومشروعه الوطني فحسب، بل استبعد أيضاً أي احتمال لإعادة بناء الوطن والدولة في لبنان على غير الأسس الاستبدادية المعتمدة في النظام السوري. أما المقاومة التي كان له فيها مآرب أخرى فقد عوقب مقاتلوها الشيوعيون، إذ كانوا يتلقون الرصاص، بحسب تقارير الحزب، في ظهورهم وهم متجهون للقيام بعملية عسكرية أو في صدورهم وهم عائدون.
شهدت بداية التسعينات ثلاثة انهيارات، الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، حركة التحرر الوطني والحركة الوطنية اللبنانية، ومعها يكون الحزب قد فقد كل أركان قضيته، فبات بلا قضية، وصار من الطبيعي أن يتعرض للشرذمة أو للتشظي. لا اتحاد سوفياتي ولا حركة تحرر وطني عربية ولا حكم وطني ديمقراطي في لبنان ولا مقاومة. وبانهيار الاشتراكية باتت قضية الحزب بلا عمود فقري، فحاول، في مؤتمره السادس، أن يستعيض عنها بقضية مركّبة تحمل عدة عناوين، المصالحة الوطنية اللبنانية، ومقاومة الاحتلال والمطالبة بمجلس اقتصادي اجتماعي والنضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
هذه القضية المركبة ساهمت في التشظي، فصار لكل قطاع قضية، العمل النقابي، الأطباء، المهندسون، أساتذة الجامعة، قطاع التعليم، والقطاع الأهم هو قطاع المقاومة. الشيوعيون ناشطون في كل قطاع وناجحون في حمل قضاياهم القطاعية، فيما القيادة عاجزة عن صوغ قضية جامعة، قضية القضايا بديلاً من الاشتراكية. لقد صار الحزب بلا قضية، وبدا للقيادة أن التفاف الشيوعيين كلٌّ حول قضيته النقابية هو السبب في الشرذمة ما دفعها إلى اتخاذ قرارات رعناء بفصل نقابيين اثنين وخمسة وعشرين مهندساً لتعارض مواقفهم مع مواقف القيادة في ما يتعلق بإدارة شؤون قطاعاتهم، وبلغت الرعونة مداها حين حاولت التبرؤ من شهيد في المقاومة بحجة قيامه بعملية عسكرية من غير التشاور معها.
فصل من سيرة ذاتية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com