منوعات

وائل دحدوح «سبايدر مان» غزة لا يُهزم أبداً… وداعاً حنين القشطان

بيدر ميديا.."

وائل دحدوح «سبايدر مان» غزة لا يُهزم أبداً… وداعاً حنين القشطان

مريم مشتاوي

 

منذ بداية الحرب في غزة وأنا أعيش تفاصيلها لحظة بلحظة.. تآلفت مع الوجوه لحد أنهم أصبحوا أحباء لي.. أحببت كل المراسلين وحفظت أسماءهم واحداً واحداً.. تأملت خطوط وجوهم ورافقت أحلامهم.. أعرف حكاية كل وجه.. أعرفها جيداً.. تخيلوا أن الحرب في غزة جعلتنا نعيش حيوات متعددة أخرى.. أنظر إليهم فأستعيد معهم طفولتي، التي لم أعشها يوماً.. لقد أنبتت محبتهم لي ذاكرة جديدة تفوح بالحنين.
أبكي البيوت المهدمة.. إنها بيوت أجدادي أو هكذا يقول لي قلبي.. وأنا غالباً ما أصدقه.. أنوح مع كل غصن يهوي وكل شجرة تهتز.. وحين يصاب أحد جيران القرابة، التي انعقدت بفعل الحرب أصرخ بقوة من حدة الوجع.. أصرخ وأتلوى وأذرف دموعاً حارقة.
اليوم سأعرفكم بأفراد عائلتي الغزاوية الكبيرة، وسأحكي لكم حكاية الأرض. من أين أبدأ؟

طفل وطنجرة فارغة

يا ترى هل تعرفون طفل الفاصولياء؟ ذلك الطفل الصغير الذي كان يحمل طنجرة فارغة، وقد وصل متأخراً إلى حصة توزيع الفاصولياء بالصلصة الحمراء. لم أدقق بالصلصة لأعرف إن كانت مطبوخة بالدماء أو أنها ممزوجة بشراب الطماطم.. ولكنها حمراء جداً ولم يبق منها شيء.. المهم ذلك الطفل الحائر المصاب بالحزن والتوتر والخيبة والجوع والألم لا يتعدى عمره الخمس سنوات.. إنه ابني الذي أنجبته يوماً حين أذّن الفجر.. أنجبته وتركته يغفو في حضن وردة، حتى تغزل له الشمس بخيوطها غطاءً يمنحه شيئاً من الدفء.. ابني لم يعرف كيف يعود إلى إخوته المنتظرين جياعاً داخل خيمة، وهو يحتضن طنجرة فارغة.. فحنَّ عليه أحد الأطفال الآخرين وسكبوا له القليل مما كان في طناجرهم ليعود إلى خيمته فرحاً منتصراً.

«سبايدرمان» غزة

سأخبركم أيضاً عن قريبي وائل دحدوح.. قريبي الذي تعرفت عليه عبر الشاشة فَحِكتُ لنا طفولة وأياماً وشيدت لنا طرقات ركضنا عليها مراراً في الماضي البعيد.. ربما كان جاري، أو أخي، أو رفيقي، أو زميلي على مقاعد الدراسة.. لا يهم كل ما أعرفه أني أشعر في كل مرة يطل فيها عبر الإعلام بأنه من دمي.. وينتابني خليط من المشاعر.. أشعر بالفخر لأنه «سبايدرمان غزة»، الذي لا يعرف الهزيمة.. رجل صلب جبار لا تهزمه الشدائد.. لقد مات أفراد عائلته فحمل وجعه ولملم أشلاءه ووقف من جديد ليتابع عمله في نقل معاناة شعبه.. مات زميله أمام عينيه وتعرّض هو للإصابة، فيما ينقل لنا مشاهد الموت، ولكنه لم يستسلم، بل لف جرحه وحمل الميكروفون وعاد إلى الشارع بصلابة وقوة وإيمان.. قريبي لا يهزم.. وغزة لن تموت.. إنهم أحرار الأرض، الذين تخلى عنهم الجميع وأعني الجميع، ومع ذلك يهزمون الآلام يومياً.. لم يبق سلاح لم يُستخدم لإبادتهم.. حُرموا المياه والطعام والكهرباء والطبابة بعد أن كفت المستشفيات عن العمل، ولكنهم بقوا صامدين.. لا أعرف كيف يستحملون كل تلك الأوجاع بصبر وإيمان، ربما لأن الحق لا يموت، أو ربما لأن الله الذي يعبدونه أعطاهم قوة لم يعرفها سواهم من البشر.. وبشّرهم بأنه مع «الصابرين».. كلمة لا مرادف لها في اللغة العبرية.

عبود وضحكات الوجع

هل تعرفون الفتى عبود؟ كم خفت عليه وتألمت حين غاب عن نشر فيديوهاته اليومية، التي كنت أتابعها كلها، لشدة محبتي له.. حين غاب شعرت بالهزيمة والخوف.. فأنا لا أعرف أقربائي الغزاويين سوى من خلف الشاشة الصغيرة، وليس هناك أحد يطمئنني عنهم.. لكن عبود لم يغب طويلاً.. عاد بضحكته الساخرة التي اعتدنا عليها.. وابتسامته المتواصلة التي تعكس صموده وقوته ليخبرنا كيف اعتقل في مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، شمال قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي المجرم البغيض.. عاد ليخبرنا عن تاريخ نكبته في 12 الشهر الجاري.. فلكل فرد من أفراد عائلتي ألف نكبة ونكبة، وألف حكاية وحكاية تروي جرائم الإبادة، التي يقوم بها المحتل بعنجهية، وشعور مخز ومقرف بالفرح في سفك الدماء، والانتصار الوهمي، الذي يرضون به أنفسهم الكريهة المريضة.
عبود لم ينكسر، رغم تجويعه وضربه وعزله وتعذيبه.. عاد كما يعود طائر الفنيق.. استفاق من جروحه وعاد إلينا بسخريه المعتادة.

صديقتي حنين القشطان

قصتي الأخيرة، التي اخترتها لم أجرؤ أن أبدأ بها لما تحمله من ألم وجرح عميق مفتوح على الذكريات.. جرح لن تخمده الأيام، ربما أردت أن أؤجل مواجهة ذاتي لبضعة سطور.. إنها قصتي مع صديقتي حنين القشطان ابنة غزة، تعرفت على حنين منذ عدة سنوات على الفيسبوك.. لم أرها إلا في الصور، وكنا نتحدث طويلاً عبر الهاتف.. حنين كانت رقيقة طيبة نقية هادئة نبيلة ومحبة جداً.. كانت تسعى جهدها لمساندة والدها، الذي أقعده المرض، وقد أخبرتني عنه مراراً. كان حلمها أن تشتري له كرسياً متحركاً جديداً، وأن تكتب رواية تحكي فيها عن تفاصيل حياتها، ناقشنا فكرة الرواية، ولكنها قررت أن تؤجل كتابتها.. كانت صحافية مندفعة تعشق فلسطين.. في آخر رسالة وصلتني منها اعتذرت عن انقطاعها عن التواصل لفترة وجيزة، ولكنها لم تكن تعرف أن هناك غياباً أكبر وأكثر إيلاماً ينتظرنا.
منذ أيام، ماتت حنين في بيتها.. لقد قتلها العدو الإسرائيلي وقتل أحلامها.. هكذا ببساطة وحقد كبير أطلق صواريخه على بيتها، هكذا وببساطة رحلت صديقتي مع موكب من الطيور، رأيتها تهاجر نحو السماء، رأيت وجهها سماءً واسعة من نور، وكانت مبتسمة كعادتها.
لقد تلقيت خبر وفاتها في صورة نشرتها قناة «الجزيرة»، وقد كُتِب عليها: عاجل استشهاد الصحافية حنين القشطان، جراء قصف للاحتلال استهدف منزلها، غربي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. وكان ذلك في أواخر الليل. في الوقت الذي أطمئن فيه عادة عن أهلي في غزة قبل النوم من المواقع الإخبارية.
لقد توقعت كل شيء إلا أن تموت حنين. توقعت كل شيء إلا أن أقرأ خبر وفاتها من موقع إخباري. لم أصدق الخبر، وكتبت لها رسالة على انستغرام وانتظرت، ولكنها لم تجب. لم أستسلم، كتبت رسالة ثانية وثالثة.. ولكن حنين لم تجب ولن تجيب على أي منها.
رحلت حنين صاحبة الوجه الطفولي، رحلت ولم أودعها ولم أخبرها يوماً كم أحبها. رحلت بعد أن خذلناها جميعاً. نامي بسلام يا صديقتي الشجاعة الجميلة. قد نلتقي يوماً هناك خلف غيمة صغيرة عابرة لنكتب الرواية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com