مقالات

شيء من تاريخ الدول العظمى .

شيء من تاريخ الدول العظمى

لعنة البيروسترويكا: صعود غورباتشوف بداية النهاية لدولة عظمى                                 

أ.د. جعفر عبد المهدي صاحب

أوسلو – مملكة النرويج

نبحت براقش فتسببت بقتل أهلها ، لم تكن فعلتها بقصد الأذى بل بدافع الفطرة أطلقت نبيحها. ولكن بيروسترويكة ميخائيل غورباتشوف كانت وبسؤ  نية (لا براقشية) قد أدت  إلى:  نتف لحى مؤسسي الشيوعية كارل ماركس وفردريك انجلز ، وتكسير تماثيل فلاديمير ايليتش لينين، وحبس رفاقهم الكبار جيفكوف وهونيكر وقتل نيقولاي تشاوتشكو  وزوجته يلنا،  وتمزيق العلم الأحمر في كل مكان، وتصفية الدولة السوفيتية ونقلها من دولة عظمى إلى دولة تستجدي المعونات من (الأعداء) الإمبرياليين في  مطلع تسعينيات القرن المنصرم في عهد يلتسين.

إن من نتائج البيروسترويكا التي ظهرت مباشرة انحطاط المستوى المعاشي إلى الدرك الأسفل والتعددية الحزبية البراقة وتفكك الدولة العملاقة وخلو أسواق موسكو من الخبز. هذا على المستوى الداخلي أما على الصعيد العالمي فقد خلا الجو لسياسة القطب الواحد وانتهت قواعد القانون الدولي الآمرة لتحل محلها فوضى البلطجة الدولية التي تعكس أوامر الأقوى الذي لا يعر اهتماما سوى خدمة الرأسمال العالمي.

المهم أن ميخائيل غورباتشوف حصل في شهر اكتوبر عام 1990 على جائزة نوبل للسلام. وهذه الجائزة سبق وان حصل عليها إرهابي الآرغون المقبور مناحيم بيغن مناصفة مع السادات.

وكثيرا ما تثار التساؤلات عن غورباتشوف ولكن أهل موسكو أدرى بجبالها وهم المجموعة من القادة السوفيت الذين قاموا بعملية يوم 19/8/1991 كمحاولة منهم لإدخال الدولة السوفيتية إلى صالة الإنعاش بعدما بدت ساعات الاحتضار. ولكن لم يكتب لهذه العملية النجاح بفضل إدارة البيت الأبيض وخلفاء الاشتراكية الوطنية في بون . إن تلك المجموعة  أصدرت بيانا (البيان رقم 5) أشاروا فيه بوضوح إلى أن ميخائيل غورباتشوف لا يخلو من الخوض في مستنقع العمالة الأجنبية . فقد ورد بالنص(( إن هناك قوى تدربت وتعلمت في الخارج من اجل تمزيق الاتحاد السوفيتي وانهيار الدولة السوفيتية)).

ويبدو من فحوى هذا البيان أن غورباتشوف هو المتهم الأول بهذا الوصف. وقد حذر البيان من أن الانهيار لا يقضي على مسيرة سبعين سنة فحسب بل سيؤدي بالبلاد إلى الفناء. وهذا ما حصل بالفعل بالدولة السوفيتية بعد أيام  معدودة من ذلك التاريخ.

وضمن الحلقات التي تم نشرها في صحيفة (الجماهيرية) الليبية، سنجمع الحلقات بموضوع واحد، لكننا مع الأسف لم نعثر سوى على خمس حلقات فقط. في كتابة هذه المادة اعتمدنا على عدة مصادر أهمها، المعلومات التي وردت في كتاب الصحفي الكرواتي الكسندر نوفاتشيتش المعنون(مسرحية غورباتشوف) وبعض كتابات الأديب الروسي ميدفيديتش وما كتبته الصحف عن البيروسترويكا وغورباتشوف.. وسوف نتابع حياته منذ طفولته إلى أن احتل المركز الأول في الكرملين.بعد ذلك نلقي الضوء أيضا على حياة فريق العمل الذي اختارهم ضمن تشكيلة حكومته ،ونقصد بهم اولئك الناس الذين لا تجربة لهم في العمل القيادي على مستوى الدولة، مثل  ادورد شيفرنادزه الذي استلم مسؤولية وزارة الخارجية في شهر  يوليو عام 1985 خلفا للوزير المخضرم اندريا غروميكو ( كان يومها غروميكو أقدم وزير خارجية في العالم).

ومعلوم عن شيفرنادزه عديم الخبرة بالسياسة الخارجية إضافة إلى عدم إتقانه لأي لغة أجنبية وهو جورجي لا يجيد لغة إلا الجورجية، ولا ينطق الروسية بشكل جيد، وذات يوم كان ضيفا في احد البرامج المرئية وسئل عن ضعف لغته الروسية فأجاب على الفور بان أمه يهودية وهذا ليس عيبا(على حد تعبيره) . إن صيغة الإجابة وطبيعتها سخيفة جدا ولا علاقة لها بالسؤال ويبدو انه كان راغبا في التملق للمعسكر المضاد لبلاده ولحلفاء ذلك المعسكر  ولدينا مثل بالعربية ينطبق عليه يقول المثل: ” يسالون البغل من أبيك يقول خالي الحصان”.

إن هذا الرجل من مواليد 1928 من قرية ماماتي في جورجيا وقد تخرج من معهد المعلمين في مدينة كوتايس وبعدها دخل الأكاديمية الحزبية في جورجيا وبقي يعمل في منظمة الشبيبة (الكومسمول) في جمهوريته لمدة(20) سنة ، وفي عام 1965 تدرج إلى وزارة الداخلية في جورجيا.

فعندما تمت تسميته لوزارة الخارجية السوفيتية بدأ العد التنازلي لقوة المفاوض السوفيتي مما جعل تعليقات الناس والصحف في ذلك الوقت تذكر بان هذا الرجل سوف يجلب للبلاد هزيمة بلا قتال. وبالفعل هزم الاتحاد السوفيتي بدون قتال في اليوم الذي قدم به شيفرنادزه استقالته لياخذ حصته من كعكة التفكك ويستقل بجورجيا ويصبح رئيسا لها ويتركها فيما بعد افقر بلد في المنطقة ويقيم في المانيا بعد ان اشترى فيلا ضخمة بملايين الماركات وقتذاك “من جيبه الخاص”.

إن هذه المواصفات جعلت شيفرنادزه رجلا عظيما في عيون(الغرب طبعاً) فعندما انتهى دوره المسرحي وقدم استقالته عام 1990  قالت عنه الشمطاء مارغريت تاتشر بأنه(( مهندس سياسة التسامح الدولي)) وهي تعلم تمام العلم بان الرجل لا يفقه شيئا بالسياسة الدولية وليس لديه مستوى الثانوية العامة بالسياسة الخارجية –إن صح التعبير—وكل ما يملكه شيفرنادزه بسمته التي لا تفارقه وهذه النغمة يكررها الإعلام الغربي باستمرار.

ومثال آخر عن أفراد الفريق الذي اختاره غورباتشوف للمواقع الحساسة في الدولة السوفيتية  فقد وقع اختياره لرئاسة الوزراء على رجل ليس لديه الدراية بهذا المنصب وهو نيقولاي ريجكوف مدير مصنع ( اورال ماشا) . وكان غورباتشوف وراء دفع ريجكوف ليصبح عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1985 . ولجأ غورباتشوف لهذه الوسيلة لكي يكسب بها أصوات أعضاء المكتب السياسي الذي يمثل أعلى سلطة حزبية في البلاد.

إن موقع رئيس الوزراء على مستوى الفدرالية ليس موقعا سهلاً أو هيناً، ولكن ماذا ستكون كفاءة مجلس الوزراء عندما يصبح مدير مصنع رئيسا له؟ وكيف تسير الأمور السياسية في البلاد؟

ومن الطبيعي أن رجلاً عديم الخبرة لمثل هذا الموقع الحساس سيكون الفشل مصيره، وهذا ما حصل بالفعل.  فعندما أصبح الوضع أسوء في ظل حكومة ريجكوف اثير نقاش حاد معه داخل البرلمان الاتحادي (الدوما) فتعرض لنوبة قلبية أثناء النقاش واضطر إلى تقديم استقالته من منصبه.

ولم ينتبه إلى سوء الاوضاع إلا القلة من طاقم غورباتشوف مثل ايفان بولوزكوف ( وهو محسوب على طاقم غورباتشوف) إذ قال: (ان البيروسترويكا جاءت بالفساد للاقتصاد السوفيتي والحزب والدولة السوفيتية).

وجاء الإعلان عن سياسة الغلاسنوست (أي العلنية) بعد يومين من حدوث كارثة التشرنوربيل في 26/4/1986 . ولم تكن الغلاسنوست إلا وسيلة أخرى مشجعة على هز أركان الدولة السوفيتية وتمهيدا لتمرير مخطط تفكيك الاتحاد السوفيتي وهذا ما يؤكد صحة ما جاء في بيان لجنة الإنقاذ السوفيتية     .

) إن هناك قوى تدربت وتعلمت بالخارج من اجل تمزيق وتحطيم الاتحاد السوفيتي والدولة السوفيتية).

قصة تولي غورباتشوف السلطة

في الربع الأول من القرن العشرين وضع لينين أسس الدولة السوفيتية ، وجاء الزعماء من بعده لتقوية وتدعيم مرتكزاتها، كل حسب طريقته الخاصة وبما يخدم بناء الدولة القوية التي تزعمت معسكراً دولياً استطاع إلى حد كبير من فرض سياسة التوازن الدولي وتثبيت قاعدة الاستقطاب الثنائي في العلاقات الدولية..

أما في الربع الأخير من القرن نفسه فقد وصل غورباتشوف إلى حكم الكرملين لكي يهدم تماثيل ابيه الروحي لينين ويقوض دولة دكتاتورية البروليتاريا.

في 10/3/1985 ف لفظ قسطنطين تشيرنينكو أنفاسه الأخيرة مودعا الحياة. وجرى دفنه في 13/3/1985  .

وقد شهدت الساحة الحمراء وسط موسكو خلال (28) شهراً تشييع جنائز ثلاثة من الرؤساء السوفيت وهم ليونيد بريجينيف ويوري اندربوف وقسطنطين تشيرنينكو.

أخذت الناس تتساءل ،أثناء إعلان موت تشيرنينكو ، من هو الشخص الذي سيكون خليفته له في الكرملين؟

ان طرح سؤال كهذا يعطي إشارة واضحة بوجود أمر ما يجري خلف الكواليس. لأن نظاماً مثل نظام الدولة السوفيتية لا ينبغي أن تطرح فيه أسئلة من هذا النوع ، لان ترتيب الجلوس داخل المكتب السياسي للحزب منسق على أساس الأقدمية وان سكرتير المكتب السياسي هو حكماً رئيساً للكرملين. فعند موت الرئيس يتزحزح الباقون حسب ترتيب الجلوس بانتظام، وحسب الأقدمية. ويمكن لنا القول هنا بعدم وجود قضية الصراع على السلطة بين صفوف الكادر المتقدم في الحزب الحاكم.

حصل شيء غريب قياساً للأعراف السوفيتية، ففي ليلة رحيل تشيرنينكو في 10/3/1985 عقدت جلسة طارئة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي إذ   تم ” انتخاب” ميخائيل غورباتشوف أميناً عاماً للحزب.

اثيرت الشكوك حول تلك الجلسة الطارئة التي عقدها المكتب السياسي للحزب ،ويعود سبب الشكوك الى الغموض والملابسات التي لازمت الجلسة، إذ لم يكتمل فيها النصاب ولم يحضرها كل أعضاء المكتب السياسي وذلك خلافاً للنظام الداخلي للحزب، حيث كان عدد منهم خارج البلاد وبعضهم الآخر بعيد جداً عن موسكو. على سبيل المثال:

شتشربيسكي: عضو المكتب السياسي- كان في زيارة للولايات المتحدة الامريكية.

فورو تينكوف: عضو المكتب السياسي- كان في زيارة ليوغسلافيا.

علييف كونانييف: عضو المكتب السياسي- كان في آلما آتا وهي تبعد اربع ساعات عن موسكو بالطائرة.

على أي حال لم ينتظر غورباتشوف عودتهم وتلاقف صك انتخابه داخل المكتب السياسي وعرضه في اليوم التالي على اللجنة المركزية لغرض دعم القرار. وجرى له ما كان يسعى اليه…انه سكرتير عام الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي.

لم ينشر أي شيء عن وقائع تلك الجلسة إلا بعد خمس سنوات عندما تسربت الأخبار التي توحي أن انتخاب غورباتشوف كان جاهزاً، وهذا ما جعل جورجي رومانوف عضو المكتب السياسي، مسؤول لينينغراد، على وشك أن يفسد ذلك السيناريو عندما دفع بترشيح فكتور غريشين مسؤول موسكو لمنصب السكرتير العام للحزب.

وكانت هناك علامات تبرر ترشيح غريشين لذلك المنصب إذ انه كان يلقي خطابات الرئيس تشيرنينكو طوال فترة رقوده في المستشفى، بالإضافة إلى قدمه الحزبي وهذه إشارات واضحة تشير إلى أن هذا الشخص هو البديل الذي يرغبه الحزب في حالة وفاة الرئيس. ولكن من الأسرار الغريبة جداً وغير المعروفة حتى الآن اشتراك اندريا غروميكو وزير الخارجية المخضرم في ذلك النقاش ووقوفه إلى جانب ميخائيل غورباتشوف.

ولابد من الإشارة إلى أن من الأمور المساعدة التي سهلت الطريق أمام غورباتشوف موت وزير الدفاع السوفيتي المارشال اوستينوف في نهاية عام 1984 .

ومن الملفت للنظر أيضا تركيز وسائل الإعلام المحلية والغربية بشكل خاص على نشاطات غورباتشوف قبيل موت تشيرنينكو بأسابيع. والسؤال المطروح : لماذا التركيز على نشاطات هذا الرجل دون الآخرين من رفاقه من أعضاء المكتب السياسي؟

قبيل موت تشيرنينكو باسابيع، في فبراير1985،  عرضت المرئيات السوفيتية صور غورباتشوف وزوجته رايتسا وحفيدته اوكسانا وهو يتحرك ضمن انتخابات المجالس المحلية .

يبدو انه كان هناك توجيه إعلامي مدروس بتغطية نشاطاته. وهنا يلاحظ المشاهد السوفيتي صورة “الشاب” غورباتشوف ضمن تشكيلة قيادته في حين تعرض المرئية السوفيتية صوراً أخرى حول ذهاب صندوق الانتخابات إلى المستشفى التي يرقد فيها الرئيس تشيرنينكو ، ومن فراش مرضه يشارك في تلك الانتخابات.

أما مسألة موافقة اللجنة المركزية على تزكية الأمين العام للحزب فلا يوجد هناك عائق إذ أنها شكلية ،وجرى العرف على أن قرارات المكتب السياسي يتم تصديقها بالإجماع من قبل اللجنة المركزية. وهذه هي الطريقة التي ينتخب بها زعيم الحزب منذ تأسيسه على يد لينين عام 1903 . وبذلك أن غورباتشوف وقت استلامه القيادة كان عمره قد بلغ الرابعة والخمسين وهو سابع زعيم سوفيتي  وأصغر الذين سبقوه سناً ماعدا لينين وستالين:

فلاديمير لينين :     33 سنة.

جوزيف ستالين:    44 سنة.

نيكيتا خروشوف :  58 سنة.

ليونيد بيرجينيف :  57 سنة.

يوري اندربوف :   68 سنة.

قسطنطين تشيرنينكو:74 سنة.

إن مسالة الصراع على السلطة داخل جدران الكرملين ،ومنذ عهد ستالين وتروتسكي،  ترافقها الكثير من الدسائس التي تجري خلف الكواليس والتي بموجبها يتم تصفية الكثير من الحسابات السياسية. لذلك فان حالة غورباتشوف ليست غريبة عن هذا الطور ولكن يبدو ان هذا الرجل قد عمل كثيرا وبشكل مبكر لخدمة هدفه، إذ بدأ تحركه منذ عهدي اندربوف وتشيرنينكو.

 

 

هل كانت مراسم دفن تشيرنينكو طبيعية؟

نقل تشيرنينكو إلى مثواه الأخير في الساحة الحمراء يوم 13/3/1985، فهل كانت مراسم الدفن طبيعية؟ وهل كانت تلك المراسم مشابهة لمثيلاتها عندما نقلت جثامين قادة الحزب الشيوعي السابقين؟ وهل خرجت حالة تشيرنينكو عن البروتوكول المتبع؟

عندما نقل جثمان تشيرنينكو إلى الساحة الحمراء فأن أول كف تراب أهيلت على الجنازة جاءت من يد غورباتشوف. وبعد ذلك قام أعضاء المكتب السياسي الآخرون باثالة التراب على جثمان رفيقهم.

وبعد مراسم الدفن مباشرة توجه غورباتشوف إلى الكرملين وانتصب في قاعة الجغرافيا. وهذه القاعة هي إحدى القاعات الكبرى التي تحمل سقوفها أعمدة مرمرية منصبة، وعلى جدرانها البيضاء نقشت أسماء كافة الذين خدموا الجيش الروسي من الضباط البارزين منذ الحروب النابليونية.

لقد وقف غورباتشوف والى جانبه ثلاثة من كبار المسؤولين السوفيت. واستغلت أجهزة الإعلام الغربية هذه الوقفة وركزت على عامل العمر إذ أظهرت غورباتشوف (54) سنة وكأنه شاباً يافعاً وهي تردد بان القيادات السوفيتية غالباً ما تكون من الطاعنين في السن وكأنهم (أحياء متحجرة)

أما الثلاثة الذين وقفوا إلى جانب ( الشاب اليافع) فهم:

  • رئيس الوزراء السوفيتي تيخونوف 79 سنة.
  • سكرتير اللجنة المركزية بونو مارييف 80 سنة.
  • نائب رئيس الدولة السوفيتية كوزينيتسوف 80 سنة.

أما غورباتشوف فانه قبل أن يصل إلى الحكم بثمانية أيام كان قد أكمل عامه الرابع والخمسين وهو أصغر عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وهو أصغر سناً من كل أعضاء الحكومة الذين وقفوا بصف طويل أمام سلالم المدخل الأسفل للكرملين.

وحضر مئات الوفود من مختلف أنحاء العالم ليقدموا التعازي والتهاني في نفس الوقت لحاكم الكرملين الجديد. ومن الطبيعي أن يكون رؤساء الدول”الشقيقة” قادة الدول الأعضاء في حلف وارشو  في مقدمة ذلك الطابور الكبير من المعزين. وعندما بدأت عملية تقديم التعازي  ظهرت مؤشرات غير طبيعية وكانت مراسم هذه الجنازة كاشفاً لما سيحصل في الدولة السوفيتية.

كان أول المعزين (الرفيق) جيفكوف الذي فتح ذراعيه من مكان بعيد عن موقع وقوف غورباتشوف ، ولكن هذا الأخير استقبل جيفكوف بصورة عادية جداً. وفعل غورباتشوف الشيء نفسه مع بقية (الرفاق) مثل هونيكر وتشاوتشسكو وهوساك. ولكن من الملاحظات الواضحة أنه استقبل ضيوفه الغربيين بحرارة عالية جداً.

فقد أمضى وقتا طويلا نسبياً مع رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر وعاملها بشكل يوحي للناظر بأنه يرتبط معها بعلاقات صداقة قديمة. وهذا يختلف تماماً عن الأسلوب الذي قابل به القادة ( الأشقاء) إذ لم يقبل أحداً منهم،  لا في الاستقبال، ولا في التوديع، كما كان يفعل أسلافه من قبل.

ومما يذكر أن بريجينيف كان يتبع تقليداً روسياً قديماً حيث يصافح حلفائه ويطبع قبلتين على الخدود والثالثة على الفم . ولكن مثل هذا الشيء لم يحصل في حالة غورباتشوف وكأنه يعلم مقدما بأن الأيام القادمة، وبسبب ما ستفعله سياسته،  سوف تؤدي بحلفائه  إلى السجون وهم مكبلون بالقيود أو يساقون إلى ساحات الإعدام كما في حالة نيقولاي تشاوشسكو. (في ذلك الزمان لا يوجد فايروس كورونا الذي يمنعه من التقبيل بالفم).

استقبل غورباتشوف في الأيام التالية ليوم 13/3/1985  كبار المسؤولين الأجانب ، فقد استقبل جورج بوش نائب رئيس الولايات المتحدة (وقتذاك) وكذلك استقبل المستشار الألماني كول والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وآخرين.

وأثناء التعزية كانت هناك صورة فوتغرافية مؤطرة بإطار اسود لتشيرنينكو وضعت في نهاية القاعة التي يمر من جانبها ممثلو الدول دون توقف. وخلافا للعادات المتبعة نشرت صحيفة البرافدا على الصفحة الأولى صورة غورباتشوف وسيرة حياته ووضعت على الصفحة الثانية صورة الرئيس الراحل.

وبعيدا عن التشبث بنظرية المؤامرة فمن خلال ما تقدم من المؤشرات البسيطة يمكن للمراقب أن يكشف حقيقة ما سيحل في الاتحاد السوفيتي  على يد هذا الرجل، بغض النظر عن حسن أو سوء نواياه التي أدت إلى تحطيم الإمبراطورية البلشفية منذ اللحظات الأولى لتوليه السلطة.

ولكن قبل هذا التاريخ وقبل موت تشيرنينكو كانت لدى غورباتشوف بعض التصرفات التي حاول من خلالها جذب انتباه الإعلام الغربي إليه، مثال ذلك:

زار غورباتشوف إيطاليا في شهر يونيو عام 1984 على راس وفد حزبي للمشاركة في تشييع جنازة برلينغور الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي .وكانت العلاقة بين الحزبين سيئة للغاية  إذ أن الحزب الشيوعي الإيطالي بقيادة برلينغور قد انتقد بشدة السياسة الخارجية السوفيتية وعلى وجه الخصوص التدخل السوفيتي في أفغانستان.

وكانت أدبيات الحزبين تتراشق فيما بينها بالاتهامات والعبارات الجارحة وكل طرف من الطرفين يدعي التمسك بالأيديولوجية الماركسية اللينينية ويتهم الطرف الآخر بالانحراف وخيانة المباديء الشيوعية مع ميلان الطليان إلى اليوروشيوعية.

في جو كهذا مشحون بالعداء العقائدي يفاجيء غورباتشوف الصحفيين  بتصريحاته في روما بقوله: (إن الانتقادات التي أطلقها برلينغور لم تؤسس على فراغ).

وذهب غورباتشوف إلى بريطانيا في الأيام الأخيرة من عام 1984 على راس وفد برلماني ورافقته في هذه الزيارة زوجته رايتسا. وقد ركزت عليه بشكل ملفت للنظر معظم كبريات وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية وهو يتحدث بالإنجليزية. ومن المعروف أن المسؤوليين السوفيت يتحدثون في الروسية فقط أينما ذهبوا حتى في حالة معرفتهم باللغة الأجنبية. ولكن هذه ليست القضية الوحيدة التي حصلت في بريطانيا بل انه أدلى بتصريح غريب بعد زيارته لمتحف التاريخ البريطاني ومشاهدة الجزء المخصص لكارل ماركس عندما كتب الجزء الأول من كتابه الشهير(راس المال) في بريطانيا. قال غورباتشوف: (على الناس الذين لا يحبون الماركسية تقديم شكوى ضد المتحف البريطاني). ربما يعتقد بعض الناس أن هذا الكلام يمكن أن يحسب من باب خفة الدم أو المزاح الذي يلجأ إليه بعض المسؤولين، ولكن الموضوع هنا يختلف فالمتحدث هو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي ويتحدث فوق ارض بريطانية ، فكل خطواته وحتى أنفاسه محسوبة عليه.

وفي مقابلة صحفية في لندن سأله احد الصحفيين :  أين ساخاروف؟   ومعلوم ان ساخاروف عالم فيزياء سوفيتي معارض أعلت من شأنه وسائل الاعلام الغربية تحت عنوان حقوق الانسان.

فعندما سئل ذلك السؤال المتعلق بساخاروف أجاب غورباتشوف باختصار: (إن هناك خرقاً لحقوق الإنسان في ايرلندا الشمالية).

إن هذا الجواب غير متوقع من مسؤول روسي أو سوفيتي فهو يعني في الظاهر لماذا تسألون عن ساخاروف وهو شخص واحد ولديكم أيها الإنجليز خرق لحقوق الإنسان لشعب كامل في ايرلندا الشمالية . وفي الوقت نفسه هناك معان كثيرة بين السطور، من بينها انه يعترف بخرق حقوق الإنسان في داخل نظامه السياسي لان السائل لم يسأله عن حقوق الإنسان وإنما سأله عن فرد واحد معارض وعند إجابته قام  بإدخال قضية حقوق الإنسان.

يوحي جواب غورباتشوف للسامع أن هناك خرقاً لحقوق الإنسان ليس في الاتحاد السوفيتي وحده بل حتى في ايرلندا الشمالية وينبغي إيقاف هذا الخرق هنا وهناك .

إن تصرفات غورباتشوف قبل استلامه السلطة وبعد استلامه لها أعطت مؤشرات ودلالات واضحة بأن على يد هذا الرجل سوف تنتهي الدولة السوفيتية العملاقة. ولكن هبوب رياح البيروسترويكا واستغلال الغرب لها لم تستطع  ان تلوي ذراع الأمة الروسية التي تعد من الأمم الحية .

ميخائيل غورباتشوف – البطاقة الشخصية:

اسمه:  ميخائيل سيرجيفيتش غورباتشوف.

تولد:   2/3/1931 .

مكان الولادة:   قرية بريفولي في مقاطعة ستافروبوليا.

اسم أمه: ماريا بانتيليفنا.

الانحدار الطبقي :  من عائلة فلاحية أب عن جد.

لم تسلط الأضواء كثيراً على حياة غورباتشوف أثناء طفولته ، ولم تتوفر الكثير من المعلومات عنها  عدا بعض الكتابات التي صدرت بعد توليه السلطة ومنها كتاب زدينك مليناراج الذي اعتمدنا عليه للكتابة عن هذه الجزئية المتعلقة بمرحلة صباه.

ولد غورباتشوف في بيت فلاحي فقير. كان جده أندريا (والد سيرجيفيتش) أول رئيس كولخوز في بريفولي، فهو فلاح وعضو في الحزب الشيوعي ، وهذا يعني الشيء الكثير في الاتحاد السوفيتي في ثلاثينيات القرن الماضي وفي المجتمع الريفي الروسي تحديداً.

كان العمل في الحزب يتطلب الكثير من المجهودات الخاصة ببناء الكولخوزات والسوفخوزات ( مزارع الدولة والمزارع الجماعية) من خلال تدمير وتفكيك الملكيات الإقطاعية التي كانت سائدة، وهدم العادات والتقاليد المرتبطة بها.

كان سيرجيفيتش –والد غورباتشوف – سائق تركتور في الكولخوز وعمره (22)عاماً.

التحق جد غورباتشوف  بجبهات القتال ضد الألمان عام 1941 ،  يومذاك كان غورباتشوف يبلغ من العمر عشر سنوات ونصف. وهذه النقطة يجب التوقف عندها قليلاً، فأن غورباتشوف يختلف عن كل أسلافه من قادة الكرملين إذ كان طفلاً خلال الحرب العالمية الثانية، في حين أنهم (ماعدا لينين) قد ساهموا فعليا في تلك الحرب.

وعندما عاد والد غورباتشوف من جبهات القتال لم يعمل بوظيفته السابقة كسائق تراكتور وإنما أصبح عاملاً في محطة الصيانة ( ورشة تصليح التراكتورات في الكولخوز) . ونظرا لنشاطه في الحزب فقد تم منحه عدد من الأوسمة الحزبية، وهو الاسلوب المتبع لدى الشيوعيين في تكريم الحزبيين الناشطين ضمن نظام المحفزات. ومن ابرز الأوسمة التي حصل عليها سيرجيفيتش اللقب الفخري (مستشار اللجنة الحزبية للشؤون الاقتصادية) وهذا اللقب غالباً ما يمنح للحزبيين المحاربين القدامى. توفي والد غورباتشوف عام 1976.

تقع القرية التي ولد فيها غورباتشوف (بريفولي) في سهل منبسط محصور بين أكبر نهرين في روسيا، هما نهرا الفولغا والدونا. ويعود تاريخ القرية إلى القرن الثامن عشر، وتتبع هذه القرية إدارياً مدينة ستافروبلي التي يعود بناؤها إلى القرن الثامن عشر أيضاً وهي كانت بمثابة قلعة متقدمة لحماية الإمبراطورية الروسية من هجمات العثمانيين المستمرة ضد روسيا.

كان غورباتشوف في المرحلة الابتدائية عندما هجمت ألمانيا الهتلرية على الاتحاد السوفيتي عام 1941. ووقعت كامل المنطقة في قبضة القوات الألمانية الغازية بما فيها مدينة ستافروبلي.

وبذلك تحتم على جميع الشباب من الذكور الذهاب طوعاً إلى الحرب لمقاومة القوات المحتلة.

ومما يذكر أن اسم هذه  المدينة قد تبدل في عهد ستالين عام 1934 من ستافروبلي إلى فوروشيكلوفسك ، وهو وزير دفاع سوفيتي وعضو مكتب سياسي في الحزب. وعندما احتل الألمان المدينة أعادوا إليها اسمها القديم ستافروبلي وبقي هذا الاسم إلى يومنا هذا.

وبالرغم من تهجير السكان على يد القوات المحتلة إلا أن قيادة الحزب الشيوعي في المدينة تولت المقاومة بزعامة ميخائيل سوسولوف الذي تأسست على يده أكبر التنظيمات لحركة المقاومة (الأنصار) في شمال القوقاز.

ومن الطبيعي أن غورباتشوف أخذ يسمع فيما بعد من كبار السن وهم يتحدثون عن سوسولوف ابن بلدتهم الذي بقي مرتبطاً بقريته ومنطقته ولم ينقطع عنها بعد ذهابه إلى موسكو رغم مسؤولياته الحزبية الكبيرة هناك.

ومعروف أن سوسولوف أصبح من أعضاء المكتب السياسي المخضرمين وكانت وسائل الإعلام تطلق عليه  تسمية عرافة الأيديولوجية الماركسية.

ويبدو أن تلك الخاصية لدى سوسولوف قد أثرت فيما بعد على غورباتشوف وبشكل لا إرادي لأن الأخير اخذ يتردد على منطقته وقريته باستمرار وخصوصاً حضور عيد ميلاد أمه والتي هي من مواليد عام 1905 أي أنها قد بلغت الثمانين من العمر عام 1985.

وعلى العموم لم تتوفر معلومات رسمية عن ميخائيل غورباتشوف خلال تلك الفترة المتقدمة من حياته وكأن ذلك سر من أسرار الحزب والدولة، في حين كان العالم يريد معرفة المزيد عن سيد الكرملين الجديد.

القي بعض الضوء على سيرة ميخائيل (الشاب) ولكن كل ما ذكر عنه كان بعد توليه السلطة وفي كتب قليلة جداً، من أبرزها كتاب زدنيك مليناراج، الذي كان زميله في الدراسة ويسكن معه في غرفة واحدة في القسم الداخلي للطلاب للفترة 1950-1955 وهي الفترة التي قضاها غورباتشوف في موسكو أثناء دراسته الجامعية إلا أن المؤرخ السوفيتي مدفيديف يتشكك في صحة بعض المعلومات التي نشرت علنياً بعد انتخابه للرئاسة كما سنرى فيما بعد .

وكتب عنه، بأنه قبل أن ينهي سنوات دراسته الابتدائية العشر، انتمى غورباتشوف إلى منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسمول) وهذا هو الطريق التقليدي  الممهد للقبول في الحزب فيما بعد. وكان يخرج كبقية الصبيان أبناء الفلاحين إلى الحقل للعمل، وحسب نبذة حياته الرسمية التي نشرت بعد انتخابه، ذكرت بأن غورباتشوف كان ميكانيكياً يعمل في المحطة الميكانيكية الخاصة بتصليح التراكتورات. في حين أن المؤرخ مدفيديف يطعن بصحة تلك المعلومات الرسمية ويذكر أن غورباتشوف كان يعمل مساعد في حاصودة أو مساعد سائق تراكتور، وهي ليست وظيفة دائمة لان ذلك العمل يرتبط بمواسم الحصاد أو الحراثة. ويؤكد هذا المؤرخ بأن غورباتشوف لم يعمل قط  في الكولخوز بالرغم من عيشه في بيئة زراعية، ولكن ربما كانت لديه نشاطات أخرى كالمشاركة في العمل التطوعي والحملات الجماعية وما يؤكد ذلك حصوله على وسام العمل(النجم الأحمر) وهذا اعتراف بنشاطه خلال تلك الفترة .

قرر غورباتشوف في عام 1950 ترك القرية والتوجه إلى موسكو للالتحاق بالدراسة الجامعية ضمن العام الدراسي 1950-1951. ويبدو أن ثقافته العامة كانت جيدة بالنسبة لأقرانه وساعدته كذلك عوامل أخرى منها انحداره الطبقي الفلاحي ونشاط عائلته الشيوعي وعضويته في الكومسمول. إن هذه المواصفات مهدت له الطريق في القبول في جامعة لومونوسوف العريقة وفي كلية الحقوق تحديداً.  وفي ذلك العام تم قبول مليون ومئتي طالب في الجامعات السوفيتية ،وقد قبلت كلية الحقوق بمفردها (45) ألف طالب كان ميخائيل واحدا منهم . ومن الطبيعي أن يجري التفاضل بين المتنافسين على القبول ،ضمن أعراف تلك الحقبة، على أساس قابلية الطالب العلمية ولكن الأهم من ذلك النظر إلى الجانب السياسي وما قدمه من خدمات عامة وانحداره الطبقي.

وحسب تعبير  ميدفيديف فان غورباتشوف منذ لحظة ذهابه لموسكو لغرض الدراسة قد قرر نفض ملابسه من تربة الأرض والابتعاد عن الفلاحة.

لأول مرة يدخل غورباتشوف قصر الكرملين

إن أول حدث تاريخي في حياة غورباتشوف كان حضوره لأول مرة المؤتمر (22) للحزب الشيوعي السوفيتي عام 1960 ، ذلك المؤتمر الذي يعد تاريخياً إذ ألقى فيه خروشوف تقريره السري. حضر غورباتشوف المؤتمر بصفته رئيساً للكومسمول  في ستافروبلي، وكان عدد الحضور في المؤتمر المذكور أكثر من (6) آلاف شخص ، وهذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها غورباتشوف قصر الكرملين، وكان عمره 29 عاماً.

تعرف غورباتشوف خلال أعوام الدراسة الجامعية على طالبة وسيمة تدرس في قسم الفلسفة وبالضبط الفلسفة الماركسية – اللينينية واسمها رايتسا تينتور ، جاءت هي كذلك من ستافروبلي وأصبحت صديقته عدة سنوات إلى أن انتهت الصداقة بالزواج، فأصبح اسمها السيدة رايتسا غورباتشوف. رزقا  بطفلة عام  1956  ( ايرينا) أصبحت طبيبة فيما بعد، وقد تزوجت من طبيب ولديهما طفلة (أكسانا)، وهذه الحفيدة غالباً ما كانت تظهر مع جدها غورباتشوف أثناء نشاطاته العامة بعدما أصبح رئيساً.

أنهى غورباتشوف دراسته الجامعية في الوقت المحدد ،عام 1955 ولكنه لم يستطع الحصول على فرصة عمل في موسكو لأنه ليس من الأوائل أو المتفوقين البارزين في الدراسة. ومن المتعارف عليه أن الأوائل تضمن لهم الدولة العمل في موسكو، لذا كان لزاماً عليه العودة بعد تخرجه إلى منطقته ستافروبلي.

عاد غورباتشوف إلى مدينته وهو ليس ذلك القروي الذي خرج منها قبل خمس سنوات متوجها إلى موسكو وهو يحمل حقيبة بائسة واحدة، بل انه الآن أصبح حقوقياً وخريج موسكو فقد اطلع على التاريخ والنظرية الماركسية-اللينينية والحركة الشيوعية العالمية. ومن الطبيعي أن شاباً بهذه المواصفات وبذلك الوقت يعني شيئاً رائعاً.

سعى غورباتشوف بعد عودته من موسكو مباشرة للحصول على عمل ضمن اختصاصه كأن يصبح موظفاً في محكمة ستافروبلي ولكن لسوء حظه لن يحصل على فرصة العمل تلك لتزامن عودته مع عودة ألوف العائلات التي كانت مبعدة من هذه المدينة إلى سيبريا منذ زمن ستالين. ولقد أعاد لهم نيكيتا خروشوف اعتبارهم وضمن عودتهم لديارهم وتشغيلهم.

لم يجد غورباتشوف عملاً وظيفياً  فتوجه نحو العمل السياسي وأصبح رئيساً لمنظمة الطلبة (الكومسمول)  في مدينته. ورغم أن هذا الموقع ليس بالشيء الكبير ولكنه خطوة أساسية للتسلق ضمن سلالم الصعود الحزبي.

هناك شخصية  حزبية لعبت دوراً كبيراً في مسيرة صعود غورباتشوف  زمن حكم خروتشوف، انه فيودوركولاكوف مسؤول اللجنة الحزبية في ستافروبلي . فقد سحب كولاكوف لرئاسة الكومسمول على مستوى المقاطعة، وكان يومها غورباتشوف قد بلغ (29) سنة.

واخذ غورباتشوف يطبق التوجيهات و التعليمات الحزبية بكل حماس عن طريق نشاطه في منظمة الشبيبة ، وسعى في تطبيق الشعار المركزي المطروح آنذاك: ( ينبغي على الكومسمول أن يساعد الحزب في قضية تربية الشبيبة بروح الشيوعية ).

ليست رئاسة الكومسمول موقعاً  يملك صلاحيات الأمر والنهي في المقاطعة، ولكن رئيس الكومسمول مرتبط ارتباطاً مباشراً بهذا المسؤول الآمر الناهي موراخوفسكي، إذ توطدت علاقة غورباتشوف معه منذ عام 1956  إلى أن جعله نائباً له  عام 1970 – أي أن غورباتشوف أصبح نائب اللجنة الحزبية في ستافروبلي . وعندما نقل موراخوفسكي إلى موسكو حل بمحله غورباتشوف وذلك عام  1978 واستمرت صداقتهم فيما بعد.

كان نيكيتا خروشوف قد هز الحزب بنقده الستالينية التي أطلق عليها لفظ (الصنمية) وبذلك كسب خروشوف التأييد الحزبي والشعبي الكبير خصوصا بعد قراره بعودة كل المهجرين إلى ديارهم  ومناطقهم ، أي أولئك الذين أبعدهم ستالين قسراً إلى سيبريا ، وكذلك التخلي عن مطاردة الشعراء الشباب من أمثال اوكوخاف ويفتيشنكو  وفوزنسفكي وغيرهم.

وما أن عاد غورباتشوف من المؤتمر فانه عقد العديد من الندوات في مدينته يشرح فيها لشباب منطقته ما حصل في قصر الكرملين.

في عام 1964 وبينما كان خروشوف يقضي إجازته في منتجع على ضفاف البحر الأسود فقد دبرت عملية إزاحته وإجباره على تقديم استقالته، وذلك ليحل بمحله ليونيد بريجينيف الذي بقي ما يقارب العقدين  من الزمن مسيطراً على الأمور في الاتحاد السوفيتي.

وكعادة النظم الحزبية وخصوصاً أنظمة الحزب الواحد فعندما يتبدل الرأس تجري عمليات تصفية الحسابات والتنقلات الرأسية الحزبية والإدارية ضماناً لاستمرار عملية التغيير.

منذ الأشهر الأولى لتولي بريجنيف السلطة عام 1964  نقل غورباتشوف من الكومسمول ليصبح (منظم الإنتاج الزراعي) في المقاطعة. إن العمل في القطاع الزراعي كثيراً ما يقضي على الحياة السياسية للحزبيين الذين يعملون بهذا القطاع. وفي الحقيقة أن آخر ما يتمناه الكادر الحزبي في الاتحاد السوفيتي هو العمل في التنظيم  الزراعي، لان القليل من يلمع في هذا القطاع وان الكثيرين هم الذين تحطم مستقبلهم السياسي بسبب العمل فيه.

تألق غورباتشوف في ذلك العام – 1964 – ومن أسباب تألقه حرارة الإصلاح الخروشوفي والعوامل الجوية (المناخية) المتتعلقة بمصادفة نزول الامطار بتوقيتات وكميات مثالية فكان انتاج الاتحاد السوفيتي من الحبوب في ذلك العام بلغ رقماً قياسياً (140) مليون طن .

إذن لعبت الصدف في توجه الانظار إليه من قبل دوائر الحزب والدولة المسؤولة عن القطاع الزراعي. ومما ساعد على صعود نجمه ايضاً طموحه في تطوير امكانياته العلمية إذ اقدم خلال تلك الفترة الى التسجيل في مدرسة الكادر الحزبي في ستافربلي ليصبح طالباً خارجياً ( غير نظامي) للحصول على شهادة في الاقتصاد الزراعي. وفي الفترة ذاتها أنهت زوجته رايتسا دراستها العليا ونالت شهادة الدكتوراه في الفلسفة، وتفرغت لمساعدته في اعداد البحوث لانشغاله الكبير بالعمل الحزبي . وقبل ان ينهي دراسته بمدرسة الكادر الحزبي بسنة واحدة تم تصعيده الى درجة حزبية عالية ضمن منطقته إذ أصبح مسؤول الكادر في اللجنة الحزبية للمقاطعة، وبالرغم من انشغاله بمنصبه الجديد واصل دراسته بنشاط وحصل على شهادة التخرج عام 1967.

يقى غورباتشوف محتفظاً بعلاقته مع كوكالوف حتى وصل كوكالوف –كما ذكرنا سابقا-الى منصب وزير الزراعة وعضو المكتب السياسي للحزب إذ بقي بهذين المنصبين حتى وفاته عام 1979. ولا ننسى بأنه عندما كان غورباتشوف مسؤول الكادر في المنطقة كان كوكالوف بنفس الوقت مسؤولا للجنة المركزية للحزب في المنطقة.

وعلى هذا الأساس لايمكننا معرفة سر تقدم غورباتشوف وصعوده في سلالم الترقيات الحزبية دون معرفة العلاقات التي كانت تربطه بالمسؤولين الشيوعيين الكبار من أبناء منطقته مثل سوسولوف وهو الرقم الصعب في الحزب الشيوعي السوفيتي بالاضافة الى كوكالوف الذي كان له ضلع ومعرفة مسبقة بعملية تنحية خروشوف عام 1964 إذ كان الزعيم السوفيتي يقضي وقت استجمام  وطلعة صيد قرب ستافربلي وقت كان كوكالوف مسؤول تلك المنطقة حزبياً.

ويذكر المؤرخ ميدفيدف ان كوكالوف وحمايته كانوا بالقرب من المكان الذي تم فيه عزل خروشوف ، وكان باستطاعته ان يفشل مخطط عزل خروشوف ولكن واقع الحال يشير الى ان كوكالوف كان مشتركاً في العملية فتمت السيطرة على الرجل ببساطة واجبر على تقديم استقالته ليرحل الى سيبريا ليقضي ما تبقى من حياته هناك.

أ.د. جعفر عبد المهدي صاحب – أوسلو

 

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com