مقالات

مراكز أبحاث إستراتيجية أم إسفنجية؟.

بيدر ميديا.."

مراكز أبحاث إستراتيجية أم إسفنجية؟

نادية هناوي

 

في بلادنا العربية مراكز أبحاث من صنوف وتخصصات متنوعة، وجميعها توسم بأنها (علمية) وتتخذ من مفردة (دراسات) سمتاً عاماً لها كما يحلو لها أن تضع بجانب هذه المفردة مفردة أخرى أكثر جاذبية هي (إستراتيجية) مكتسبة هويتها من لدن جهات تنتمي إليها. وبعض هذه الجهات مؤسسات حكومية محلية أو قومية أو إقليمية، وبعضها الآخر غير حكومية تنتمي إلى تشكيلات لها صفة حزبية أو سياسية مستقلة تعود لأفراد أو جماعات أو شركات.
وتتولى هذه الجهات دعم وتهيئة كل ما يحتاجه المركز البحثي من متطلبات مادية ومعنوية تمكنه من تأدية مهامه التي أنشئ من أجلها. وتتفاوت إمكانيات هذه الجهة أو تلك في دعم مراكز الأبحاث وتبعاً لذلك تتغاير هي في نوعية ما تنجزه وسعته وأهميته كما يتغاير باع كل واحد منها في مجال تخصصه وفي مشواره الزمني الذي يرسِّخ له اسمه، مما نجده في مراكز أبحاث ودراسات عربية حققت تقدماً نوعياً على المستوى الدولي.
وما يفترض وجوده في (مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية) هو التنافس فيما بينها من أجل بلوغ الصورة البحثية المثلى التي تجعل منها نموذجاً حسناً يصلح احتذاؤه والاقتداء به من لدن هيئات وتشكيلات مماثلة حكومية وغير حكومية تسعى إلى الارتقاء بعملها وتطوير مسيرتها وتنمية قدراتها. وتظل التسمية وطبيعة التوصيف وجهة الانتساب هي الحاسمة في تقييم أي مركز بحثي وتحديد مقدار الفائدة المتحصلة من نعته بـ(الإستراتيجي).
بيد أن المتحقق في الواقع غير ذلك للأسف، فنظرة فاحصة على مجمل ما تنجزه مراكز الأبحاث العربية وبنوعيها الحكومي وغير الحكومي ستكشف عن مقدار ما تمر به هذه المراكز من أزمات وإشكالات، فهي تعاني ضعفاً معرفياً وتشهد تراجعاً في مجال البحث والدرس، مما يفضي بها حالياً وسيفضي مستقبلاً إلى مزيد من التأزم مرة بالدعائية الفضفاضة ومرة ثانية بالإعلامية المكشوفة التي بها تزوق حالها محاولة أن تخفي وراءها صوراً ممجوجة وكالحة للحال المتردي الذي وصلته هذه المراكز. ومرة ثالثة بما تداري به حالها المتأزم ببيروقراطية الروتين المجمد للطاقات فلا مقاصد مدروسة ولا غايات محددة، فتنمو النفعية والذاتية داخل هذه المراكز وتتسع، وهو أمر لا يجوز أن نستهين في تقدير مخاطره أو نتهاون في تشخيص أسبابه وكيفيات علاجه، وإلا فإن مؤشرات الإخفاق الحاد وغير المسبوق ونسب الانجاز والمخرجات اللاعلمية ستظل في تصاعد مستمر بلا قيمة ملموسة أو عملية تنعكس على أرض الواقع كمشاريع منفذة وشاخصة.
وكل هذا مما لا يتلاءم مع ما تحاول تلك المراكز الإعلان عنه والتظاهر به وهي ترسم لنفسها آفاقاً وردية بأهداف جاهزة وفخمة تروم تحقيقها بينما هي تعلم أنها غير مؤهلة ولا متمكنة من بلوغها عُشر تلك الآفاق والأهداف.
وليس السبب في ما تمر به مراكز الأبحاث من تأزم هو فتوة بعضها وحداثة عهد بعضها الآخر بميدان البحث العلمي، فمراكز البحث ذات التاريخ الطويل هي الأخرى أصابها التردي والتراجع. وبالرغم من الشوط الطويل الذي قطعته، فإنها ما تزال بلا منطلقات راسخة أو سياقات واضحة، يمكن لها أن ترتكن إليها وتعمل بموجبها.
من هنا غدا الوضع العام لأغلب مراكز الدراسات والأبحاث عندنا روتينياً لا ابتكارياً، وصار التقوقع على الحال حصراً وجموداً بديلاً عن بذل الجهود والفاعلية وتضخم عدد المراكز، ففي العراق لوحده فتح منها الكثير لا سيما بعد 2003 وإذا أردنا تعداد أسمائها فيسطول بنا المقام وأكثرها ذات طابع سياسي واجتماعي. أما المنضوية في مؤسسات المجتمع المدني فحدِّث ولا حرج. كما أن قسماً ليس بالقليل من هذه المراكز وهمي ليس له على أرض الواقع وجود وبعضها له وجود على الشبكة العنكبوتية لكنه وهمي أيضاً.
وبسبب هذه الكثرة الكاثرة غابت النوعية البحثية وصار الغالب عليها عملها الروتيني على وتيرة متشابهة حتى لا فرق بين تخصص وآخر كما لا تقدم نوعياً أو كمياً. وإذا حصل من تقدم فيظل آنياً كإسقاط فرض وكي يستمر العاملون المنتمون إلى المركز في عملهم.
لا مجال لمقارنة الوضع الحالي الذي تنوء تحته مراكز الأبحاث حالياً وبين المراكز البحثية التي أنشئت إبان القرن العشرين كمركز دراسات الوطن العربي ومركز الدراسات الفلسطينية ومركز دراسات الوحدة العربية ومركز القدس للدراسات الإستراتيجية ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.
وقد نعتذر لمثل هذا الحال بما تمر به البلاد العربية من ظروف سياسية واقتصادية قاهرة سببت تراجعاً في مختلف قطاعات الحياة ومنها قطاعات التربية والتعليم والثقافة والعلوم، لكن الظروف توجب على المرء التكيف معها فيخطط ويعمل بما يناسب إمكانياته ويجعله متمكناً من قهر تلك الظروف.
بعبارة أخرى نقول إن من المهم أن يعرف المرء كيف يوجه حياته ويسيرها على وفق ما هو متاح له ومتوفر بين يديه لكن الأهم هو أن يعرف كيف يُسخّر هذا المتاح إلى أعلى درجاته وبالشكل الذي يجعله في وضع أحسن حالاً وقد تجاوز مشاكله، لا العكس أي أن يتباهى بالمقدرة ظاهرياً وهو مقيد داخلياً أو أن يضع لنفسه أهدافاً لا واقعية وبلا تخطيط ونظامية من قبيل ما تضعه أحد مراكز الأبحاث لنفسها من كليشيهات أهداف يحتاج تطبيقها توفر الوسائل الملائمة كما يتطلب واقعاً عملياً يساعد على تحققها، لا أن يُتفاخر بها نظرياً ولا يهم بعد ذلك تسطيح معناها وعدم تطبيقها أو عشوائية الأساليب الموظفة في سبيلها.
وهذا الواقع المزري الذي تعيشه غالبية مراكز الدراسات والأبحاث هو ما يجعلها غير إستراتيجية بصورة أسفنجية لا تصلح للعرض ولا للتقييم سوى بأسمائها الرنانة من دون مستقبل يمكن أن ترسمه لنفسها وعاجزة عن مواجهة الأزمات وحل المشكلات. وبالإسفنجية تتضخم مظهرية مراكز الأبحاث فتبدو شكلياً كنافذة للمعرفة بينما لا نفع يرتجى منها في الإنارة والانطلاق فكأن وجودها وعدم وجودها سيان.
وتتعاظم محنة المراكز البحثية العريقة ذات التاريخ الطويل بظهور هذه الكثرة من المراكز الوهمية والعبثية، لاسيما إذا علمنا أنها تعاني قبل ذلك من مشاكل أخرى، منها الافتقار إلى مصادر التمويل المناسبة التي تهدد حياة هذه المراكز بالزوال وتجعل شبح الانطفاء والذواء لها بالمرصاد. ومنها ضعف اللجان والهيئات التي تعمل فيها لقلة باعها ومحدودية أدوارها. ومنها ضعف التواصل مع مراكز البحث الحيوية في العالم التي تشهد تقدماً كبيراً بسبب ما تسخّره لها الجهات التي تؤسسها وتشرف عليها من دعم، مدركة أن مردودات ما ينجزه أي مركز بحثي ستؤول إليها وستساهم في ترسيخ وضعها السياسي والاجتماعي حتى أن بعض الدول تشرك مراكز الأبحاث والدراسات وتأخذ مشورتها مأخذ الجد وتوظف استنتاجاتها في اتخاذ قراراتها ورسم مخططات ما تروم فعله في المستقبل مولية أصحاب الجدة والمعرفة من الباحثين اهتماماً فتمدهم بكل ما يحفز فيهم البحث ويدفعهم نحو بلوغ ما هو جديد ومبتكر.
ولا نعدم وجود مراكز عربية تتمتع بالدعم المالي اللامحدود وهي تعد على أصابع اليد ولكنها مع ما عندها من مؤهلات وقدرات تظل لوحدها غير قادرة على ردم الشحة المعرفية الناجمة عن التراجع الكمي والنوعي في أغلب مراكز الأبحاث وانعدام كفاءتها في تطبيق ما عندها من أفكار ومشاريع. ومن ثم ينبغي أن تسمى هذه المراكز بأي اسم إلا إضافتها إلى مفردات (أبحاث/ دراسات/ استراتيجيات)
هل ساءت أمور البحث العلمي في مؤسساتنا العلمية وشبه العلمية إلى درجة صارت تتحكم فيها الأهواء الإدارية الروتينية ومغرياتها غير عابئة سوى بالمسميات الرنانة والطنانة ولا يهم بعد ذلك إن كان للمحتوى نوعية أو مردودات إيجابية؟ ولماذا تسعى تلك المراكز دوما إلى الإعلان عن تطلعات هي بحجم الجبال بينما ما تتوخاه وتتأمله محدود بضعف ما لديها من قدرات وموارد أو إمكانيات وقد لا يكون بمقدورها ان تلبي من تلك التطلعات سوى قدر نزر مما قد يقدر عليه باحث جاد لوحده؟ ومتى يكون لهذا التزايد المستمر في عدد المراكز جدوى علمية أو سياسية أو اقتصادية فتساهم في حل المشكلات وتقديم الاستشارات وإحداث التطورات؟ والى متى تظل كلمة (الإستراتيجية) هوية يسعى الجميع إلى التمتع بالانتساب إليها كحجر مقدس ما أن يلمسه حتى يكون قد ضمن التقييم النوعي ونال مراده من دون كفاح ولا نجاح؟
لن نغالي إذا قلنا إنه ما دام العمل الإداري الروتيني والنفعي هو الأساس فلا فائدة إيجابية ولا مردودات علمية تُرتجى من مئات المراكز البحثية (الإستراتيجية) العربية لا في الزمن الراهن ولا في الزمن القادم.
*كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com