مقالات

إشكاليات ترجمة الأدب الروسي المعاصر إلى اللغة العربية: ترجمة رواية لودميلا بيتروشيفسكايا «صبية من متروبول» نموذجاً

ملخص موجز عن بحث:

إشكاليات ترجمة الأدب الروسي المعاصر إلى اللغة العربية: ترجمة رواية لودميلا بيتروشيفسكايا «صبية من متروبول» نموذجاً

د. تحسين رزاق عزيز

الأدب الروسي معروفٌ في عالمنا العربي أساساً بكلاسيكيات القرن التاسع عشر (من خلال ترجمة أشعار الكساندر بوشكين ونثره وقصص نيكولاي غوغول ومسرحياته ورواياته ونتاجات إيفان تورغينيف وفيودور دوستويفسكي وليف تولستوي وأنطون تشيخوف… وغيرهم) ونتاجات كتّاب القرن العشرين (الحقبة السوفيتية) وشعرائه (مثل أشعار الكساندر بلوك وسيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي ونثر ماكسيم غوركي وميخائيل شولوخوف وميخائيل بولغاكوف… وغيرهم) ومع ذلك فإنَّ الأدب الروسي المعاصر وخاصة السرد مهمٌ ورائعٌ للغاية. الأدب الروسي المعاصر شأنه شأن الأدب الروسي في القرنين الماضيين يثير تساؤلات تخص الكتّاب والشعراء ومعاصريهم. فقد جرت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تغيّرات وتحولات كبيرة في حياة الناس وفي المجتمع ككل. وتناول الكتّاب الروس المعاصرون في أعمالهم الفنية تلك التحولات الاجتماعية والتغيرات الأسلوبية واللغوية المعجمية.

قام عدد من المترجمين العرب بترجمة أعمال قليلة جداً من نتاجات الأدباء الروس المعاصرين. وعلى الرغم من قلة هذه الترجمات الصادرة في عالمنا العربي إلّا أنها تعطي تصوراً وإن كان بسيطاً عن الواقع الأدبي في روسيا المعاصرة.

ومن بين أهم الكتّاب الروس المعاصرين – لودميلا ستيفانوفنا بيتروشيفسكايا. إنها كاتبة متعددة المواهب: فهي روائية وكاتبة مسرحية وشاعرة وكاتبة سيناريو وفنانة ترسم بالألوان المائية ومخرجة لثمانية من الأفلام وملحنة ومغنية وممثلة مسرحية.. ولدت في 26 أيار (مايو) من عام 1938 في موسكو في عائلة موظف. عاشت طفولتها في أيام الحرب والحصار، وتنقّلت في السكن عند أقاربها، وعاشت في دار للأيتام بالقرب من مدينة أوفا. بعد الحرب عادت إلى موسكو وتخرجت في قسم الصحافة بجامعة موسكو. تمثّل نتاجاتها موسوعة من نوع خاص للحياة النسوية من مرحلة الصِبا إلى الشيخوخة، وكتبت حكايات لكل من البالغين والأطفال، صدرتْ أول مجموعة سردية للكاتبة لودميلا بيتروشيفسكايا في عام 1987 بعنوان «الحب الخالد». ألَّفت بيتروشيفسكايا الكثير من المسرحيات والقصص والروايات. ونالت العديد من الجوائز الروسية والعالمية على أعمالها السردية والمسرحية وتعرض مسرحياتها على أفضل المسارح في روسيا وفي الكثير من المدن الأوربية والأمريكية. وصدرت ترجمات أعمالها إلى أكثر من 35 لغة، وقد قمنا بترجمة عدد من القصص القصيرة للكاتبة ونشرناها في بعض الصحف والمجلات العراقية، وترجمنا لها رواية «صبية من متروبول»، وقد قدَّمتْ الكاتبة سردها هذا على شكل مجموعة من القصص والمقالات القصصية التي كتبتها بدوافع شتى. ومع ذلك من خلال وصف الحوادث والمصير الدرامي للشخصيات تتكشف أمامنا تدريجياً بشكل جلي القصة الصعبة لقدَر حياة المؤلفة نفسها.

تكشف لنا الكاتبة في عملها هذا بأسلوبها المُشَوِّق الجوانب الخفية للمجتمع الروسي من بداية الثورة إلى مرحلة السبعينيّات من القرن الماضي بجوانبها الإيجابية والسلبية.

إنَّ إبداعات لودميلا بيتروشيفسكايا النثرية والمسرحية واحدة من ألمع الظواهر في أدب نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وهي اليوم كاتبة معترف بها عالمياً، يمتاز أسلوبها في العديد من أعمالها النثرية والمسرحيات بصعوبة مميَّزة لأنها أحياناً تكتب بلغة غير موجودة لاسيما في سلسلة من الحكايات اللغوية التي استعملت فيها مفردات (ما عدى حروف الجر وأدوات الربط) ذات اشتقاق ذاتي (اعتماداً على السوابق واللواحق الروسية) غير موجودة في اللغة الروسية يصعب فهمها على الروس ناهيك عن غير الروسي الذي يحاول ترجمتها. وفي بعض الأحيان تستعمل في كتاباتها أدوات الجر والهتاف السلافية القديمة التي تمثل صعوبة بالغة للمترجمين عن اللغة الروسية.

تخلقُ بيتروشيفسكايا، شأنها شأن الكتاب الروس الطليعيين في أوائل القرن العشرين، وتبتدعُ واقعها الفني الخاص، ولا تعيد سرد النص من الواقع الحقيقي. وهنا بالذات تكمن قوة إبداعها وخلقها الفني الجديد في الشكل والمحتوى. إذ تدعو مفرداتها الخاصة القارئ للمشاركة في خلق النص، لأن كل واحد من القراء يفهم مقاصد بيتروشيفسكايا اعتماداً على خبرته الحياتية (الثقافية) وهذا الأمر يشكل تحدٍّ كبير للمترجم الذي ينبغي أنْ يستعمل تراكماته اللغوية والثقافية كلها حتى يستطيع فهم النص ومن ثم نقله إلى لغته الهدف. وهذا التحدي بالذات هو الذي دفعنا إلى ترجمة بعض أعماله هذه الكاتبة المتميِّزة.

وبما أنَّ مفردات نصوص بيتروشيفسكا تتحمّل عدة تفسيرات، وأنَّ الشيء الوحيد الثابت هو فهم قواعد النحو لأعمالها، فقد اعتمدنا عند الترجمة على تفكيك النص وتحليل كل جملة إلى عناصرها الأولية وتحديد المسند والمسند إليه والفضلة من خلال طرح أسئلة من قبيل «مَن قام بالفعل؟ وما هو الفعل؟ وعلى مَن وقع الفعل؟». إذ أنَّ فهم العلاقات التركيبية في الجملة يجعلها مفهومة ويُسهِّل ترجمتها إلى اللغة الهدف.

ومع إنَّ المفردات التي ابتدعتها بيتروشيفسكايا في نصوصها مبنية وفقاً لقوانين الاشتقاق في اللغة الروسية إلّا أنها استعملت في بنائها جذوراً لا وجود لها في اللغة الروسية وأضافت إليها سوابق ولواحق ونهايات معروفة في اللغة الروسية. وقد اتضح لنا أثناء القراءة التمهيدية للنصوص قبل الترجمة أنَّ المورفيمات الثانوية هي التي تعطي الكثير من المعلومات التي تجعل الكلمة في مثل هذه النصوص مفهومة تماماً وترجمتها ممكنة على الرغم من صعوبتها.

إنَّ النصوص بالنسبة لبيتروشيفسكايا هي شكل من أشكال التمويه ولعبة تكمن في أساسها علاقتها بالعالم وبالواقع وبالقضايا الاجتماعية والسياسية والفلسفية. وكأنَّ الكاتبة تؤلِّف نصوصها بشكل عابر يكتسب فيه السرد طابع الارتجال الحر. وعلى الرغم من صعوبة تحديد المعنى الحرفي لبعض مفردات السرد عند الترجمة إلّا أننا اعتمدنا على فهمنا لها وترجمنها وفقاً لذلك الطابع الارتجالي بما يجعل النص مستساغاً للقارئ العربي برغم الاحتفاظ على التمويه في الشكل.

تركز بيتروشيفسكايا في أعمالها على إمكانية استيعاب القارئ لنصوصها وفي الوقت نفسه تؤكِّد على المعزى الإنساني الفلسفي العميق لأعمالها. تنتقي الكاتبة بعناية خطاب أبطالها وكأنها تصغي إليهم وتَستَرجِع بصورة حرفية كلماتهم وأغلاطهم اللفظية وأخطائهم القواعدية، ومن خلال ذلك تدفع القراء عن طريق الكلام إلى سبر أغوار سيكولوجية أبطالها. ونرى مقدار اللاوعي والذاتية والالتباس، ولكن أيضاً المعاناة. وكذلك نرى سعي الإنسان لتحقيق السعادة والعيش في وئام وكذلك الإقدام ورباطة الجأش في إمكانية تحمّل الحياة. وهنا ينبغي على المترجم أنْ ينقل ذلك الجو الذي خلقته الكاتبة بكل أمانة من دون أنْ يشتت فكر قارئ النص في اللغة الهدف.

«صبية من متروبول» – هي حكايات حقيقية عن حياة مؤلفة الكتاب. بدءاً من الاستعراضات الأدبية الأولى لها في الأفنية بين المنازل مقابل قطعة خبز وهي في سن السابعة من العمر، ومن كتابة القصص الخيالية حول اليد السوداء التي تمتد نحوها في غرفة النوم في دار رعاية الأطفال، والمغامرات في المدرسة والجامعة إلى أول عمل إذاعي، والمسرحيات الأولى. كما يتضمن مواقف هزلية عن حياة المجتمع البوهيمي في الداخل والخارج. إنّه كتاب للأشخاص المبدعين ولأولئك الذين يستكشفون الأدب والمسرح والفن ويستعرض الكيفية التي رعت فيها صبية صغيرة أحلامها لتغدو كاتبة مرموقة ومعروفة ومحبوبة على المستوى العالمي، ومدى صعوبة الطريق نحو الإبداع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com