جماليّات الرَجَز والأبوذيّة
بحر الرجز هو أحد البحور الستة عشر في العَروض العربي، ويقوم الشطر منه على ثلاث تفعيلات من وزن مُسْتَفْعِلُنْ، وتتلاحق الأشطار أو تتكرر صدرا ًوعجزاً في النظام التراثي. ومن أبرز أمثلة الرجز بالأشطر المتلاحقة ما يروى عن خولة بنت الأزور وهي تهجم على جيوش الروم وتقود عدداً من فارسات بني قومها:
نحنُ بناتُ تُبَّعٍ وحِميَر
وضَربُنا في القوم ليس يُنكر
لأننا في الحرب نارٌ تُسعَر
اليومَ تلقَونَ العذابَ الأكبر
ولا تكفّ كتب التراث عن ترديد عبارة «الرجز حِمارُ الشعراء» لأنه مَطيّةٌ ذلول يركبُها من يشاء من الشعراء. وأحسبُ أن هذا الكلام ينطوي على كثير من عدم الإنصاف، لأن عدداً من الشعراء الكبار نظموا على بحر الرجز، ليس أقلّهم المتنبي الذي لا يستَعصي عليه أي بحر من بحور الشعر العربي، وقد نظم على بحر الرجز، لا استسهالاً، بل لأنه وجد فيه ما يناسب مزاجه عندما نظم:
أيَّ مكانٍ أرتقي أيَّ عظيمٍ أتّقي
وكلَّ ما قد خلق الله وما لم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في نظري كشَعرةٍ في مَفرِقي!
وفي الموضوعات الجادّة لدينا ألفيّة ابن مالك في النحو، منظومةً على بحر الرجز كذلك:
كلامُنا لفظٌ مُفيدٌ كاستَقِم إسمٌ وفعلٌ ثم حرفٌ الكَلِم …
أفيدُكم يا إخوتي فائدَة لفظةُ ما بعد إذا زائدة …
وبسبب مما في بحر الرجز من طواعية في أشكال تفعيلته نجد بعض الشعراء يستعملونه في موضوعات عابثة أو في الهجاء، حيث يمكن امتزاج اللغة الفصيحة مع اللغة العامّية أو المَحكِية. وقد يكون من أبرز الأمثلة على ذلك أراجيز الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، الذي يُجَلجِل في قصائده بالعربية الفصيحة في موضوعات في غاية الرفعة، مثل الاحتفاء بحب الوطن، أو بتمجيد كبار الشخصيات في العلم والأدب، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك قصيدته الكبرى في تكريم ذكرى الشاعرين شوقي وحافظ. هذه قصيدة تطوِّع صيغة المثنّى في قافية تبهر الأنفاس، انتظاراً لقافيةٍ جديدةٍ تُديم أصداء الألف والنون في تثنية الإسم والفعل والصفة وحتى الضمير، وكلّ ذلك يحيل القصيدة إلى أرغن هائل من النغم والإيقاع:
خُذا بيدي، أم أنتُما عَجِلانِ فإني أخو هَمٍّ كما تَرَيانِ
ولا تُكثِرا سؤلي ولكن تلطّفا وفُكّا ضمادَ الجُرح ثُم سلاني…
تركتُ ذُرى بغداد شطباً نَخيلُها مَهيباً مُحيّاها على الحَدَثان…
إلى جانب هذا نجده يتناول تفعيلة الرجز وما يتفرّع عنها في قصائد في غاية العَبث والاستخفاف بموضوعات أو أشخاص بأسلوب من الهجاء المؤدَّب، إذا صحّ القول. لكن الشاعر الكبير لم ينشُر هذه الأراجيز بل كان يرويها مُتندِّراً في مجالس خاصة، ولديّ منها مجموعة طيِّبة لا أرى كبير بأس من ذكر بعضها في هذه المقالة المختصرة، لأن تلك الأراجيز تبيّن براعة الشاعرفي استعمال بَحر الرجز في موضوعات هازلة كاستعماله في موضوعات جادّة. هذه أرجوزةٌ في هجاء مُهذب عن الخطوط الجوّية العراقية:
قضى اجتماعُ هَيئةِ المطارِ في ليلةِ العشرينَ من آذارِ
توجيهَ إنذارٍ إلى طيّار
لأنه قد أتعَبَ المكينة وأنهَكَ الطائرةَ المسكينة
ورُغمَ تأكيداتنا المُشَدّدة أوصَلها في الساعةِ المُحَدّدة….
فلما سألتُه ما الذي حدث ليلة العشرين من آذار؟ قال: لا شيء، ولكن هكذا جاءتني القافية! وأكمَلَ:
إذا أردتَ سفرة قويّة فاذهبْ إلى خُطوطِنا الجَوّية
واحجز قُبيلَ سنةٍ وشدِّد وكلّ شهرٍ مَرّتين جَدِّد
واقصد إلى المطار قبل يومين لكي تكونَ واثقاً من أمرين
فأوّلاً أن هناك طائرة وأنّها بعدَ غدٍ مُسافرة
ما ذاك إلاّ أن ما نُشيرُ نوعٌ من الحِيطةِ لا يضيرُ
فهي إذا ما قَبَّطت تطير
وأردف قائلاً: طائراتنا تنافس باصات علاوي الحلّة في الانطلاق والوصول!
وفي أرجوزةٍ أخرى يَسخَر فيها من تمثال عباس ابن فرناس الذي أُقيم في بداية شارع المطار:
عباسُ أيّ زَعزع نكراء قادَتك حتى هذه الأنحاء!
ألَم يُصادِفكَ على الطريقِ مِن ناصحٍ مِن مُشفقٍ صَديقِ
من هَويَةٍ تنزع عنكَ ريشك ولو أطار عَصفُها جِريشَك
تُراكَ لو وَكّرتَ في باريسا إذاً نزلتَ منزلا نفيسا
لكان نحّاتُكَ شخصاً أريَحي أقلّها إذا رآك يستحي
لرَفضَت أخلاقُه المُعاصرة أن تنتهى رجلاك عند الخاصرة
مُثبّتاً في مَدخلِ المطارِ لكي تَراهُ صَفوةُ الزُوّارِ
لكنّه لكثرةِ الأشغال كلّفَ «ظَهرَه» بالإستقبال…
وبعض الكلمات هنا يُستَحسن عدم ذكرها صراحةً تجنّباً للإحراج.
وهناك أراجيز أخرى كثيرة منها أرجوزةٌ عن مشكلات البناء أيّام الحصار الاقتصادي على العراق، وكان من الصعب الحصول على مواد البناء الأساسية من الأسواق العراقية، مثل قضبان الحديد لعمل السمنت المسلّح، والزجاج وحتى المسامير والبراغي، فظهرت السوق السوداء في التعامل بهذه المواد بأسعار عالية جدّاً مما جعل بعض المُحتالين يتقدمون بطلبات إلى الحكومة بمشروع بناء مسجد ولا بُدّ من السفر إلى الخارج لشراء المواد الضرورية للبناء ولكنهم عندما يعودون يكونون قد جلبوا معهم أضعافاً مضاعفةً من المواد الضرورية للبناء فيبيعونها بالسوق السوداء بأسعار خيالية، فتنصحهم الأرجوزة بما يجب أن يجلبوه من الخارج لغرضهم النبيل في إكمال بناء الجوامع وأعمال الخير:
وبعدها تمضي إلى براغِ تعودُ منها مُثقلاً براغي
وهي من المواد المفقودة التي لابُد من شرائها ولو بالأسعار العالية، وأنتَ والخيرِ على ميعادِ…
وللشعر الشعبي جمالياته كذلك، وفي كل لهجة عربية جمالها الذي يصعب نقله إلى لهجة أخرى، كما نجد في اللهجة المصرية أو اللبنانية التي أشاعها الراديو منذ عشرينات القرن الماضي وزاد في ذلك انتشار الأفلام المصرية.
وقد انتشر الشعر باللهجات العامّية إلى جانب الشعر في العربية الفصيحة. في تونس مثلا نجد «المالوف» التونسي، وقريباً منه الشعر الشعبي في المغرب. وفي العراق يوجد نظام «الأبوذية» ببيتين على الأوزان الخفيفة التي تلتزم الأشطر الثلاثة الأولى منها قافيةً واحدة تتغير في الشطر الرابع الذي ينهي البيتين، وتعود القافية الرابعة للظهور في نهاية الشطر الرابع من البيتين اللاحِقين. والأبوذية العراقية من الشعر الشعبي الذي يُستعمَل في الغناء، وكذلك في الأغراض السياسية من مديح وهجاء أو لمجرّد التظرّف. ومن أبرز الأمثلة على الأبوذية العراقية ما قدّمته الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة، إلى جانب شعرها النفيس بالعربية الفصيحة. وجاذبية الشعر الشعبي العراقي في نظام الأبوذية أنه لا يتخلّى عن المحسِّنات اللفظية والبديعية المعروفة في الشعر الفصيح بالعربية. وقد أثبت الشعر العامّي في العراق، عن غير قصد حتماً، رأي شعراء الرومانسية وفي مقدمتهم وردزورث أن كلّ كلمة يمكن أن تكون شعرية بيد الشاعر الموهوب. كلمة «بصل» مثلا اكتسبت شحنةً شعرية في أبوذية غزل من تأليف لميعة:
وليفي من ورا الطوفة أبص له أريده ولو على خبزَة وبصلة
نَعنت الله عْلَبو الواشي وبَصله فرك كلبين يل جانن سويّة
والاسم الأعجمي شهرزاد يكتسب شاعرية في أبوذية غزل عند لميعة:
سنه فراكك تحمّلته وشهر زاد يمن هَجرك عَلمعَنّي بشهر زاد
نذر لو لفّت ذراعي شهرزاد تسع ميّات أطِشهن وآهليّة.
المخاطَب هنا هو شهرزاد الحبيبة الصَدود، التي يخاطبها العاشق بصيغة المُذكّر على عادة الشعراء العشاق. فلو استجابت الحبيبة ولفّت ذراع العاشق في طريقهما إلى الزواج سيقوم العاشق بنثر (طَش) تسع ميّات من الدنانير.
إلى جانب هذه الأمثلة الرائقة من الغزل باللهجة العامية ثمّة الكثير من أمثله الأبوذيات في الهجاء الاجتماعي والسياسي بالدرجة الأولى مما لا يتّسع له المقام في حدود مقاله صغيرة.