مقالات

الدال والمدلول وما يمكن وما يزول

سلام عادل .. صورة غير نمطية للقيادة الشيوعية

 

محمد السعدي

يعتبر كتاب الدكتور عبد الحسين شعبان  الموسوم ” سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول” وثيقة مهمة وتاريخية ومرجعية للحركة الشيوعية ومادة حيوية  للبحث والدراسة، وقد نال اهتماماً كبيراً ومساحة واسعة من النقد والتعليق وفتح حواراً فعالاً وحيوياً حوله، خصوصاً إزاء إشكالات تاريخية، بل وحتى راهنة.  وانعقدت حوله ندوات وحلقات نقاشية، فضلاً عن تغطية يستحقها في الصحف والمواقع الأليكترونية، سواءً في العراق أو في خارجه، وسيبقى لحين آخر مثار نقاش وجدال، ولاسيّما الوثيقتين التاريخيتين اللتان أوردهما: الأولى الخاصة بالكونفرنس الثاني للحزب 1956 والثانية حول ردود سلام عادل على ضيق الأفق القومي الذي أصاب عدداً من القيادات الشيوعية الكردية، وهو ما يستحق التوقف عنده، وخصوصاً تأثيراته اللاحقة (1957).

 

توقيع كتاب

وكتبتُ مقالةً نُشرت بعدّة مواقع عراقية وعربية بعد قراءتي لسرديته عن سلام عادل في صحيفة الزمان التي نُشرت على حلقات، وحين صدر الكتاب وقامت مؤسسة بيدر في مالمو باستضافة الباحث للتوقيع على الكتاب في ندوة مهمة، عدتُ إليه مجدداً، خصوصاً بعد الملاحظات المهمة التي أبداها الكاتب حول مقالتي السابقة، وها أنا أفعل ذلك للتدقيق وحرصاً مني على الحقيقة وتأكيداً لها، لأن أعداء سلام عادل حاولوا  الإساءة  إليه بأشكال مختلفة منهم ما نشره ( محمد أبو عزة ) الكاتب والروائي الفلسطيني وسكرتير تحرير مجلة (دنيا العرب) ، والذي كان ضمن جحافل قوات الحرس القومي وذلك بعد انقلاب 8 شباط 1963 حيث روى قصة اعتقال سلام عادل في الأمن العام وكيف بصق بوجه أحد القياديين البعثيين، وهي رواية دحضها الباحث شعبان ، وشكّك ما ورد فيها وفي صحتها، واقتضت الأمانة قول ذلك وتأكيده.  كما خطّأ كتاب شعبان ما ذهب إليه آرا خاجادور حول إطلاق علي صالح السعدي رصاصة الرحمة على سلام عادل وذلك من خلال الوقائع التاريخية التي أوردها بما فيها كون السعدي كان على رأس وفد كان في القاهرة والجزائر وتاريخ عودته كان بعد استشهاد سلام عادل (بالرجوع إلى كتاب أمين هويدي). وفي الوقت نفسه فنّد رواية هاني الفكيكي حول الحوار بين الضحية والجلاد وإبداء استعداد سلام عادل لإصدار بيان مشترك مع قيادة البعث إذا ما تم إطلاق سراح المعتقلين ووقف التعذيب، وهي رواية مدسوسة وخبيثة ومشوّهة، وكان الباحث قد أوضح حقيقة ما جرى ورباطة جأش سلام عادل ومبدأيته حين طالب الانقلابيين بالكف عن ذلك وإعلان عدائهم للامبريالية، وكان ذلك تحدياً كبيراً في المواجهة البطولية بين سلام عادل وحازم جواد الذي كان قد ترأس التحقيق معه. وقد أورد المفكر شعبان فقرات عديدة من أقوال جواد التي يعترف بها بتعذيب المعتقلين بحجة أن الاتحاد السوفييتي يعذّب أعداءه.. تميّزت قيادة سلام عادل بمواصفات فريدة في حينها، لاسيّما عملها الجاد والمسؤول لاستعادة وحدة الشيوعيين وإنهاء الانقسامات والاعتراف بالأخطاء والثغرات والسعي لمعالجتها بروح الحرص والأفق المنفتح بعيداً عن التعصّب. فبعد أن تسلم سلام عادل قيادة الحزب في حزيران  العام 1955 وذلك بعد عزل حميد عثمان وهروبه إلى كردستان وانضمامه إلى الحزب  الديمقراطي الكردستاني، أخذ الشهيد سلام عادل على عاتقه مهمة صعبة وخطيرة، حيث قام بجمع وتوحيد ولم شمل رفاق الحزب وتوحيد تنظيماته بعد تعرّضها إلى تصدعات كبيرة لسنوات مضت بسبب الصراعات الداخلية وملاحقات الشرطة السرية لتنظيمات الحزب وكشف الأسرار بين الأطراف المتصارعة.   ويذكر هنا العديد من الشيوعيين وفي مقدمتهم باقر ابراهيم وحسين سلطان قول سلام عادل إن (فصل أي رفيق من الحزب بمثابة قلع شعرة من عيوني ) ،وعلى هذا الأساس تحرك وعمل من أجل وحدة الشيوعيين على مبادئ الحوار الفكري والرأي المختلف والحرص المتبادل انطلاقاً من قناعاته الثابتة بأهمية دور الحزب الوطني والعربي، وهو النهج الذي حظي بتأييد شامل من الشيوعيين، خصوصاً المرونة التي أبداها مع المبدأية والصبر وطول النفس لتحقيق الهدف. لقد كان هذا التوجه التوحيدي من أهم المفاصل الحزبية والمنعطفات التاريخية التي واجهتها قيادة سلام عادل فما كان يمكن تحقيق المنجزات وصولاً لثورة تموز دون تصفية التكتلات والانشقاقات والمجموعات المتباعدة والمتصارعة، وبروح مبدأية متسامحة فقررت العمل من أجل الوحدة مهما كان الثمن، وهو ما يذكره الدكتور شعبان فبالرغم من التقاطعات الفكرية  سعى للتواصل مع (راية الشغيلة) ،والتي كان من قادتها  عزيز محمد السكرتير السابق للحزب ،والشهداء جمال الحيدري ونافع يونس، على الرغم من أن جريدة القاعدة التي يصدرها الحزب وصفتها في حينها بأنها زمرة بلاطية ( نسبة إلى البلاط الملكي ) ،وإنها انحطت في المستنقع والقاذورات اليمينية ،متهمة إياها بالانتهازية، ويقول شعبان إن مثل هذه الاتهامات غالباً ما تصدر في المنعطفات التي تشهد انقسامات وصراعات داخل الحزب ،لكنه سرعان ما يطويها الزمن بفعل بعض التسويات والاتفاقات والانعطافات .

حل المنظمة

أما ’’ منظمة وحدة الشيوعيين ” فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف وقد أسهم عامر عبدالله بحكم صلته الوطيدة بهما في إقناعهما بحل المنظمة والالتحاق بالحزب مجدداً وذلك في إطار المنهج الذي اتبعه سلام عادل، كما انضمت كتلة داود الصائغ (رابطة الشيوعيين) لاحقاً إلى صفوف الحزب وتنظيماته. ويمكنني الإشادة بدينامكية وقدرة سلام عادل في استيعاب الصراعات الحزبية والآراء المختلفة واحتوائها لمصلحة الحزب والوطن ، وعلى الرغم من أن الصراعات الداخلية بعد الثورة أنهكت سلام عادل،  دون أن ننسى الصراعات مع الحكم وأطرافه والقوى السياسية الأخرى إلا أنه حاول احتواء كتلة المبدأ وداود الصائغ بعد أن حصل الأخير على إجازة باسم الحزب الشيوعي العراقي في حين رفض عبد الكريم قاسم منح الحزب مثل هذه الإجازة حتى بعد تبديل اسمه إلى ” حزب اتحاد الشعب”، وكان سلام عادل قد أرسل عدداً من الصحافيين والكتاب للعمل كمحررين في جريدة المبدأ والسعي لتغيير اتجاهها بما يتوافق مع نهج الحزب ومواقفه.

ويتابع د. شعبان بدقة كبيرة تفاصيل تنشر بعضها لأول مرّة عن استشهاد سلام عادل بعد تعذيبه في قصر النهاية، وهو لا  تفي بما هو مكتوب ومنشور، بل يذهب أحياناً إلى الجلادين أنفسهم ليستفسر عن هذا الموقف أو ذاك، مثلما يواصل الحديث مع بعض الضحايا وشهود العيان، ليبرز حقيقة شجاعة سلام عادل، بل يجبر حتى من قام بالارتكاب للاعتراف بذلك، في إطار عمل مضني ومجتهد. ويتابع ذلك ابتداءً من إصدار بيان المقاومة ضد انقلاب 8 شباط ولغاية اعتقاله ونقله إلى مركز المأمون ومنه إلى قصر النهاية، (19 شباط وحتى استشهاده مساء 23 شباط 1963).وامتازت قيادة سلام عادل ، ولاسيّما قبل الثورة بالمبادرات فمن توحيد الحزب إلى قيادة الشارع في انتفاضة العام 1956 تضامناً مع الشقيقة مصر ضد العدوان إلى توحيد الحركة الوطنية بقيام ” جبهة الاتحاد الوطني” في عام 1957 ومنها إلى العمل مع الضباط الأحرار تمهيداً للثورة، كما انتهجت سياسة عربية متميزة تم التعبير عنها في الوثيقتين التاريخيتين، وكذلك منهجاً أممياً في حل القضية الكردية عبر حق تقرير المصير والاستقلال الذاتي، وفي الوقت نفسه نقد للاتجاهات التصفوية البرجوازية الذيلية التي ظهرت لدى فريق من الشيوعيين الأكراد، وهو نقد استشرافي جريء ومبدئي، وليس كما تم اتباعه لاحقاً مع مجاملات وتنازلات للتيار القومي السائد، والذي ألحق ضرراً بالحزب وهوّيته، خصوصاً بانقسام الشيوعيين على أساس قومي. ويفرد الكاتب صفحات من كتابه الذي يستحق القراءة ليبرز مواقف مهمة في حياة سلام عادل من سلطة قاسم الدكتاتورية والقضية الكردية والتباين عن رؤية السوفييت، إضافة إلى الصراع الداخلي في هرم قيادة الحزب والتدهور السريع في ضياع منجزات الثورة ونتائجها . وقد تحدّث المؤلف عن ذلك بانسيابية وحيوية على منصة مؤسسة بيدر في مدينة مالمو/ السويدية. وعلى الرغم من الأخطاء والالتباسات كما يقول شعبان في قضايا عديدة ومنها أعمال العنف في الموصل وكركوك، وكذلك الموقف من سلطة قاسم والتذبذب والتردّد، إلّا أن قيادة سلام عادل ختمت حياتها بالاستشهاد البطولي، حيث استشهد تحت التعذيب نحو 25 قائداً شيوعياً، في مقدمتهم سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلّي ومحـــــــمد حسين أبو العيس ونــــــــافع يونس وحمزة سلمان الجبوري ومهدي حميد وعبد الرحيم شريف وحسن عوينة وعبد الجبار وهـــــــبي وتوفيق منير، إضافة إلى عدد من العـــــــسكريين القياديين بينهم ماجد محمد أمين وفاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وطه الشيخ أحمـــــــد وجلال الأوقاتي وخزعل السعدي وآخرين.

– كتاب سلام عادل – الدال والمدلول، صدر عن دار ميزوبوتاميا، بغداد ، 2019 ويحتوي على 323 صفحة من الجم المتوسط.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com