ثقافة

حيزية/ هل وظيفة الرّوائي أن يكرّر المتداوَل؟

بيدر ميديا.."

حيزية/ هل وظيفة الرّوائي أن يكرّر المتداوَل؟

واسيني الأعرج

 

بكل تأكيد لا، وإلا سيكون الروائي مجرد مؤرخ سيري لا قيمة فنية لما يكتبه. سيكون منجزه فاقداً لجوهر الكتابة الإبداعية نفسها التي لا تستقيم إلا بحرية التخييل. لكن الأمر في الواقع الموضوعي شيء آخر، مختلف جذرياً. مطلوب من الكاتب، والروائي لأنه هو حكّاء هذا الزمن، أن يكون وفياً للحقيقة التاريخية (الافتراضية في جوهرها إذ لا توجد حقيقة مطلقاً تقع خارج الهيمنة الأيديولوجية والقوة)، ووفياً للشخصية التاريخية (المقدمة بمثالية مطلقة، أو العكس)، أي إقصاء فرضية البحث عن حقيقة أخرى مخفية، مع أن الحكواتي أو الحكاء الشعبي يملك حرية أكبر في صاغة المادة التاريخية.
السجال الذي أثارته رواية حيزية (1855-1878) حتى قبل صدورها، في شهر مايو الماضي، دفعني إلى إعادة تأمل هذه الحالة. فقد كان عنيفاً، وانتهى بالتهديد برفع قضية المس بحرمة القبيلة بنية تدمير الميراث الشعبي، وسلسلة التهم المجانية. حوالي 30 مقالة حول الموضوع متضاربة من مع ومن ضد، وأكثر من 5000 تعليق بالإيجاب والسلب؟ وهي ظاهرة جديدة. العادة أن يتم الاختلاف حول نص موجود في السوق، وهنا لا نص. مجرد أفكار ونتائج أبحاث قام بها الكاتب بعين المكان في اتصالات متتالية مع المجتمع الصحراوي الحافظ لتفاصيل الحكاية، وفي أوساط القبيلة نفسها، وساكنة سيدي خالد حيث دُفِنت حيزية. كل هذا جعلني أفكر في وظيفة الكتابة نفسها وأبعادها في مجتمعاتنا التي ما تزال منغلقة على ما افترضته حقيقة مطلقة، وكأننا لا نعرف هذا المجتمع. فقد اكتشفت أن مجتمعاتنا الحديثة التي تتعامل مع الهواتف الذكية في كل ثانية وتحل معضلاتها التجارية اليومية بواسطة الوسائط الاجتماعية لم تتخلص من قبيلتها وعروشيتها ونظمها البالية للأسف، وعلاقتها بالحداثة سطحية شكلية وفوقية غير عمودية.
«حيزية» شخصية تاريخية لها روابطها العائلية، توفيت منذ قرابة القرن ونصف. وهي أيضاً نبتة قصيدة محمد بن قيطون أكثر منها واقعاً موضوعياً؛ لأنه أعطاها من روحه الكثير. حتى إن بعض نساء القبيلة (الغيورات) يقلن إنها لم تكن بكل ذلك الجمال الذي ذكره ابن قيطون في قصيدته. لكن لا أحد ينفي تاريخيتها وحقيقتها بوصفها شخصية حقيقية وليست افتراضية. وقد ذكر ذلك الكاتب العسكري الفرنسي المستعرب سونيك ( (Sonneckالذي كان أول من أخرج قصيدة «حيزية» من ظلمة قبر الحكاية الشعبية، فدوّنها وترجمها إلى اللغة الفرنسية وشرحها ونشرها في الجريدة الآسيوية (le journal Asiatique شهرا يناير وفبراير 1899) قبل أن يعاود نشرها في 1905 كجزء من الشعرية المغاربية التي قام هو بالتعريف بها في الجريدة نفسها. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت القصيدة مدونة وخرجت من مجرد الحكاية، عند حفظة الشعر الشعبي. وفي شرحه اللغوي والتاريخي والإنثروبولوجي، أورد سونيك معلومات كثيرة لا يعرفها غالبية المختصين الجزائريين وغيرهم، من الذين اهتموا بالقصيدة وتابعوها شرحاً ودراسة وفي الأغلب الأعم تكراراً، والذين ضموا القصيدة إلى الشعر الشعبي العربي العذري، بحجة أن الشاعر كان رجل دين ولا يمكنه أن يقول كلاماً فاحشاً كالذي ورد في القصيدة. هم لا يفرقون أولاً بين الإيوتيكي والفاحش؛ إذ لا توجد في القصيدة أي كلمة واحدة «فاحشة» وغير لائقة، العكس هو الذي حدث. الإشكال ليس في اللغة كلغة، ولكن في الخلفيات الثقافية والدينية والمنظومة الأخلاقية المتسيدة. في كل الأحوال، القصيدة ليست عفيفة بالمعنى التقليدي، فيها لمسة إيروتيكية واضحة. طبيعي جداً أن يكون الأمر كذلك ما دامت القصيدة اختارت الحب المقموع والمصادَر أصلاً بسبب النظم القبلية المنغلقة حيث تعمّ جرائم الشرف، بشكل شبه سري. يقول محمد قيطون:
صدرك مثل الرخـــــــام فيه اثنين تـــــوام (توأمان يعني نهدان)، من تفـــــــــاح السقام، مسوه يــديـا (لمستهما بيدي)
بيدي درت (قمتُ برسم) الوشــام، في صدر أم حــزام، مختـم تختام في زنود طــــوايــــــــا
أزرق عنق الحمام، ما فيهشي تلــــــطام، مقدود بــــلا قلام، من شغل يديـــــــا
درتــــه بين النهود، نــــزلتـــــه مقــدود، فوق سرار الزنود، حطيت سمــايــــا (كتبت اسمي بين نهديها، وعلى زنديها)
الأمر واضح في أن العلاقة بلغت درجة عليا من القرب الجسدي. ولا أدري لماذا الإصرار على نفس هذا القرب واعتباره مساً بكرامة القبيلة، مع العلم أن عمر القصة حوالي قرن ونصف؟ لم نصل بعد إلى تقبل أنسنة الشخصية. فإعطاؤها حقها الإنساني هو ما يجعلها تدخل إلى القلوب بسرعة لأنها في النهاية تشبه الملايين من العاشقات اللواتي حرمن من حقهن في الحب. أتذكر عندما قامت سيدة وأنا أناقش الموضوع في مكتبة قسنطينة: «ضع في رأسك يا سيد واسيني أن هناك الآلاف، وربما الملايين من الشبيهات بحيزية ومي زيادة، يدفعن ثمن أنوثتهن بسبب الجهل وضيق الأفق». يجب إزالة الغطاء الأخلاقي للتمكن من الوصول إلى جوهر قصة حيزية. فالكتابة هي رحلة في المبهم الجميل، لكن المليء بالمزالق والمخاطر. بكثير من الحيرة، ليس خوفاً من الموضوع، فهو عامّ وواسع ويمكن التعامل معه إبداعياً، نظراً لغناه ولتعددية أوجهه، لكن السؤال الثقيل هو كيف ننقل شخصية تشكل اليوم جزءاً من الوجدان المجتمعي العام دون الإخلال بقيمتها الثقافية، وقيمتها الإنسانية وقوة حضورها. أي، كيف يمكن أن يكون النص المبدَع في قيمة الحكاية الأصلية وتنويعاً عليها، لكن أيضاً لا يمكن تفادي السؤال الثقيل: كيف يمكن أن يكون ذلك دون هز اليقينيات الأصلية التي تعود الناس عليها، وفي الوقت نفسه إدراج الجديد الناتج عن البحث والكشف، التخييل الذي يغني القصة أدبياً، ويجعل الناس يتقبلونه دون رفض مسبق واعتباره جزءاً من مسار عام يتعلق بشخصية هي على حافتي التاريخ والممارسة الأدبية؟ الرهان كبير، والمشاق كثيرة. مهما تثقفت المرأة في المجتمعات العربية المحافظة، تظل تحت رحمة الطقس الاجتماعي القبلي، المتحكم في نظام التفكير العام. بينما حيزية هي حالة متفردة؛ تقع بين الحقيقي والأسطوري. الكتابة عنها ستعتمد جزئياً على الحقيقة التاريخية المشوشة إذ لا توجد لها أية سيرة حقيقية تناولت حياتها بالتفصيل نظراً لغياب المعلومة الموضوعية، لكنها في الوقت نفسه ستسير في خط التخييل الترميمي من خلال الأبحاث المسبقة في التاريخ الشخصي لحيزية والعام. وكل ما نعرفه عن حيزية قادم من حياة افتراضية مصدرها الأوحد هو مرثية شعرية حملت اسمها: قصيدة حيزية لمحمد بن قيطون، وبعض الشذرات التاريخية غير الدقيقة حول قبيلتها المبعثرة هنا وهناك. وهذا ينقص كثيراً من معيار الحقيقة واللجوء إلى المعيار الإبداعي بينما القارئ مهيكل معرفياً بأنه يتعامل مع شخصية تاريخية بملامحها وصفاتها وتاريخ قصتها. هنا عصب الحكاية وجوهر العمل الروائي الافتراضي.
هل هناك يد رتبت هذه القصة وقصة وفاتها مثلاً، بكل تفاصيلها؟ بالخصوص نهايتها التراجيدية أو «الموت الغريب» لتصبح مقبولة ورومانسية أيضاً في ظل نظام قبلي وعروشي شرس، نظرته للمرأة لم تتغير إلى اليوم إلا قليلاً؟ لماذا لا يكون الموت الفجائي جريمة أخلاقية (؟) استمر التستر عليها إلى أن وصلتنا؟ بعد مرور أكثر من قرن ونصف على قصة حيزية التراجيدية، ما تزال العقلية المتحجرة هي المتحكم في كل شيء؟ أجنحة القبيلة كلها متفقة على الانغلاق على القصة وعدم إظهار الحقيقة التاريخية، مع أن إنسانية القصة تخطت العتبات القبلية والمحلية والوطنية والقومية لتصبح قصة إنسانية لها تفردها ضمن القصص العشقي التراجيدي العالمي.
أعود إلى سؤال البداية: هل على الروائي اعتماد التخفي والأخلاقي عندما يكتب عن قصة حب جميلة قتلها الانغلاق؟ وهل عليه أن يبرر للقبيلة فعلها؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com