منوعات

دردشة مع نوري عبد الرزاق (2)

بيدر ميديا.."

دردشة مع نوري عبد الرزاق      (2)

الجيل الاول للحركة الشيوعية العراقية

عبد الحسين شعبان

على سبيل الاستهلال

            ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.

الرؤيوي

            نوري عبد الرزاق، بقدر ما هو مؤثر فهو متأثر، وهكذا يكون التفاعل، وبقدر ما هو راصد فهو مرصود، وهكذا يكون الانشغال وبقدر ما هو فاعل فهو منفعل وهكذا يكون التأثير، ولا أقول ذلك من باب الصداقة والرفقة، فمثلما بيننا مشتركات واتفاقات وارتياحات وعمل مشترك ورؤية، فبيننا اختلافات وتباينات وعتب واعتذار ونقد، وذلك اعتراف بواقع، وتلك صورة علاقة زادت عن 50 عامًا في إطار حركة ضاجّة متطاحنة مليئة بالمتناقضات والمشاحنات والالتباسات والخفايا واللّايقين.         ظلّت صورة نوري عبد الرزاق الأولى في ذهني وقبل ذلك في ذاكرتي ومن ثمّ في ذكرياتي. ولعل د. منيرة البياتي عبّرت عن ذلك أكثر من مرّة وهي تعزّيني برحيل مهدي الحافظ بقولها: إنه ونوري جزء من حياتنا وتاريخنا. تلك هي الصورة الحاضرة مصحوبة بمدد واسع وأفق شاسع وتاريخ  حافل وغني بالكثير من الأفكار والآراء والعلاقات والأحداث، وعمر عامر بكل ما تحفل به الحياة، والعمر لا يقاس بالسنوات فحسب، بل بالحقائق، ففي الحقائق روح وحياة وتاريخ وفلسفة ومنجز. ولعلّ  أعداء الحقيقة وحدهم من لا يعبئ بذلك.      ظلّ نوري وفيًا للثقافة بشكل عام ولثقافته اليسارية بشكل خاص،  وإن كان ميله للتجديد أصلًا بتميّز كبير عن أقرانه ومجايليه، الذين كانوا يقدّمون خطوة ويؤخرون خطوتين، وظلّ الكثير من إداريي الحركة الشيوعية مشدودين إلى القيم المحافظة والتقليدية، لا يستطعون مغادرتها أو العيش خارجها. وحين أقول ظلّ نوري وفيًا للثقافة عمومًا ولثقافته خصوصًا، أقصد أنه وفيًا لنفسه ووفيًا للحقيقة ووفيًا  للتنوير والحداثة والاجتهاد، حتى وإن كان بعيدًا عن المشهد، وبقدر بعده فهو قريب أيضًا، لأن هناك من يخشى البُعد بقدر ما يخشى القُرب.

الوعي الشقي

            قرأ نوري بضمير المستقبل وكان يرى قبل أن يرى غيره. تتضبّب عنده الرؤية أحيانًا وتختلط عنده الألوان أحيانًا أخرى، بل يتوه مع تزاحم الأحداث ويخطئ في التقدير، لكن ثراء المعلومات والغنى النظري والانسجام في السلوك يجعله الأقرب إلى استنباط الأحكام الصحيحة بقراءة “اللحظة الثورية” تاريخيًا، بإجراء مراجعة سريعة تمسّكًا بالبوصلة الإنسانية. وإذا كان عمى الألوان أو العشى الليلي سائدًا لدى الكثير من الإدارات، فإن نوري قياسًا بالعديد منهم كان يرى بعيني زرقاء اليمامة، حتى وإن انطفأت عيناه لكثرة ما رأى على حدّ تعبير الشاعر مظفر النواب “لقد تعبت عيوني من كثرة ما رأيت”. ومع ذلك ظلّت عيون نوري حتى وإن أصبحت غائرة تشعّ بلمعة خاصة هي بصيرته، التي نجمت عن وعي مبكّر وإدراك متقدم ورؤية استشرافية حتى وإن ذهبت شمالًا أو يمينا، أصابت أم أخطأت.

            كنت قد أطلقت على وعي بعض المثقفين “الوعي الشقي” في كتاب بالعنوان إياه، ونوري عبد الرزاق امتاز بوعيه الثقافي الشقي المتقدّم على غيره بالسيرة والسيرورة، بالفكر والرؤية  والسلوك حتى وإن تعرّض لسوء الفهم أو جرى تعمّد سوء الفهم معه أو تنكّرت له جهالات بسبب ذلك أو قلّلت من شأنه إجراءات أو انضباطات، لكنه ظلّ في مكانه المكين يبتعد ويقترب دون أن يجانب الضمير والحقيقة حتى وإن تحطمّت الآمال وتكسّرت الأحلام. وغالبًا ما كان يردّد مقطعًا لقصيدة علي محمود طه “الجندول”: أنا من ضيّع في الأوهام عمره /  نسي التاريخ أو أنسي ذكره، التي لحنها وغنّاها محمد عبد الوهّاب. تلك هي غربة المثقف الحر، بل محنته الأبدية بين شتّى السلطات والمؤسسات والأحزاب، التي تبدأ بالحديث من نقطة لتنتهي عند نقطة أخرى بالضدّ منها أحيانًا في ظل ّ الانحدار البيروقراطي وسوء المقاصد والغايات والتشبّث بالشكليات والابتعاد عن الجوهر، في ظلّ أوضاع ملتبسة وصراعات لا تعرف الرحمة في الغالب، وعلاقات ليس فيها من المروءة شيء أحيانًا.

جيل الكبار

            نوري عبد الرزاق آخر كبار الجيل الأول للحركة الشيوعية العراقية، فقد تجاوز ا? 88 عامًا، وإن كانت الأمراض قد داهمته، لكنه ظلّ يتمتّع ببنية ذهنية وعقلية تغرف من ماضيه الثقافي لتستشرف الحاضر وترقب المستقبل. كما يعتبر نوري من آخر كبار الحركة الشيوعية العربية، والكبر ليس في العمر فحسب، بل كبر في الثقافة والرأي وبُعد النظر والتصالح مع الذات.

            إنه يعرف العراق بالعمق ويحفظه على الغيب وإن غاب عنه طويلًا، إلّا أنه يتابع كلّ شاردة وواردة عنه ويسأل ويستوضح. وتستطيع أن تلحظ أن في كل إشارة يذكرها مدى الدقّة في التشخيص والقدرة على استنباط الجوهري من الأشياء، وكأنه يعيش الحدث على البُعد، حتى في أسئلته الأقرب إلى الاستنطاق يريد أن يتوغّل في التفاصيل الدقيقة، ولا يريد أية معلومة تفلت من بين أصابعه.

            ومثلما يعرف العراق فهو يعرف دول المنطقة وكأن موسوعة إليكترونية في رأسه تمتد من المحيط إلى الخليج. كما يلمّ بأوضاع الدول الاشتراكية السابقة من هافانا إلى عدن إضافة إلى الاتحاد السوفيتي والصين وفيتنام وكوريا وآسيا الوسطى، إلى آخر حزب شيوعي أو يساري في العالم، يعرف إشكالياتها ومشاكلها وتياراتها وقادتها الرسميين والشعبيين.

 كما يعرف العالم بوقائعه وتفصيلاته ومتغيّراته، بما فيها آدابه وفنونه وعلومه وتكنولوجياته ومخابراته وجيوشه وفرقه الرياضية والمسرحية وموسيقاه وأغانيه. وسيحدّثك عن “إسرائيل” ودورها العدواني التاريخي وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني الذي حرص على الإتيان عليه في البيانات والنداءات التي تصدر عن المنظمات الدولية، سواء التي كان على رأسها أم شارك في مؤتمراتها.

وسيتكلّم بحرقة عن اتفاقيات أوسلو ا دون مزاودات لتي لم تلبّ الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية ، ناهيك عن تنكّر “إسرائيل” لها، والرأي لدينا أن “إسرائيل” لا تريد “سلامًا”  لأنها بؤرة عدوان وأداة حرب مستمرة. كما لم ينس دور إيران وتركيا. وهو الموقف المتوازن الذي اتخذناه في الحرب العراقية – الإيرانية ومن الاجتياحات المتكرّرة للأراضي العراقية، فغياب مشروع عربي موحّد يجعل المشروع الصهيوني نافذًا في المنطقة، مثلما يجعل المشروعين الإيراني والتركي يتمدّدان ببعدهما الأيديولوجي القومي الديني والطائفي. وهنا استوقف عند سد النهضة الأثيوبي وكيف تحاول أديس أبابا الضغط على مصر والسودان بالضدّ من قواعد القانون الدولي. وقد خضت معه موضوع حرب أوكرانيا “الروسية” وصعود الصين وما بعد كورونا ومونديال قطر. وفي كلّ ذلك يقدّم قراءات وتفسيرات يضمّنها تحليلات مثلما فيها الكثير من الخفايا والأسرار والوقائع، مع أن اللّايقين يظلّ أحد هواجسه في السياسة الدولية، وهي الحالة التي كنت قلّبتها معه بعد حركة الانتفاضات الشعبية التي عمّت عددًا من البلدان العربية في العام 2011.

وكم كان معجبًا بالتحضيرات التي أجرتها قطر استعدادًا لافتتاح المونديال وهو الذي لا يفرّط يمباراة دولية كبرى، فما بالك حين يكون الأمر “كأس العالم”، وأنا أكتب ذلك الآن بعد انتهاء تلك الدورة الأثيرة، أتوقّف عند موجة شعبية عفوية اندلعت في مونديال قطر وهي ما أسميه “العروبة الناعمة” الجديدة التي هي تعبير وجداني عن مشاعر تربط العرب ببعضهم خارج  دوائر الأيديولوجيات والتعصّب، استنادًا إلى اللغة والثقافة والتاريخ والأديان، وكان الموقف من فلسطين الذي يمثّل الضمير هو القاسم المشترك الأعظم.

حالة اللّايقين

            حالة اللّايقين “Uncertainty” حاضرة دائمًا في حديثه، خصوصًا بشأن الوضع الدولي والإقليمي، ولاسيّما المنافسة بين بكين وواشنطن، ونظام العلاقات الدولية المنتظر بعد حرب أوكرانيا والحرب الباردة المحتملة  فيما إذا حدث استقطاب جديد لأكثر من قطب دولي، لكنها ستكون حربًا باردة مختلفة عن الحرب الباردة السابقة 1946 – 1989? فالأولى كانت حربًا أيديولوجية تناحريّة أساسًا وإن تضمّنت كل عناصر الحرب الأخرى غير العسكرية الشاملة لكنها كانت تحدث بالوكالة أو مباشرة في عدد من المناطق  بالعالم، في حين أن الحرب الباردة الراهنة اقتصادية وثقافية وسياسية وأمنية، وهي بلا أيديولوجيا، فلم يعد الصراع بين الاشتراكية التي أطيح بها في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، وبين الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة.

            وسألته عن حركة عدم الانحياز، هل يمكن أن تستعيد دورها أو لحركة مماثلة أن تنشأ في ظل توازن جديد للقوى؟ فكان رأيه أن الزمن تجاوزها، كما أن ليس هناك زعماء مثل تيتو أو نهرو أو عبد الناصر، ولا يوجد معسكرين متناحرين، ولكن من الممكن قيام محاور جديدة جيوسياسية – اقتصادية.       وقال صحيح أن نكوصًا حصل في الواقع العربي، لكن القضية الفلسطينية أصبحت عالمية، وهي عبء على الغرب بسبب دعمه “لإسرائيل” المعتدية، وإذا ما نشأ محور عربي ومشروع عربي، فإنه سيكون عامل توازن بين إيران وتركيا، وسيؤثر على مجريات الصراع العربي – “الإسرائيلي” وعلى دول الجوار العربي.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com