ثقافة

محنة الهوية وحرية القول في ثلاثية الروائية آمال بن عبد الله

بيدر ميديا.."

محنة الهوية وحرية القول في ثلاثية الروائية آمال بن عبد الله

واسيني الأعرج

 

برواياتها الثلاث: «أحيقار» أو رواية الحكمة الساحرة، إلى رواية «ظلال العتمة» حيث صدمة الهوية القلقة والمسروقة، مروراً برواية «باية/ الماتريوشكا» أو البحث عن المرأة في ركامات الفكر المحافظ، تنشئ آمال عبد الله عالماً روائياً متكاملاً يدفع بنا بقوة نحو التساؤل الوجودي الكبير: ماذا نساوي في عالم قلق وصعب علينا أن ننتزع منه حقنا بنضال كبير، حتى الأشياء العادية؟ على الرغم من اختلاف الموضوع وأمكنة الكتابة والمجتمع، يستنفذ الإنسان عمره وهو يبحث عن معبر للمرور نحو الحياة، وكثيراً ما يبقى في ذلك البهو الطويل الذي يؤدي إلى اللاشيء. فلا جديد إذن إذا قلت إن الروائية آمال بن عبد الله صوت نسوي له حضوره الأدبي الجميل على المستوى الجهوي حيث صورت مجتمعها الذي تعرفه جيداً وصعدت به عالياً، وحاولت أن تخرجه من الصور النمطية الجاهزة وترسم حياة في كل غناها محافظة على المسافة الحية التي تسمح لها بتأمل هذا المجتمع الذي هي منه وجزء من وجدانها، بالقراءة الموضوعية والتحليل. وهو ما يمنحها صفة الكاتبة المرتبطة بجذورها وبمجتمعها وبمنطقتها ذات الخصوصية والتمايز.
يرتقي «أحيقار» إلى رتبة رجل الحكمة الذي يحسن المشورة ويصوغ الحكمة في قول موجز بليغ، يختزل التجربة البشرية بمختلف خبراتها بشكل مدهش، سريع البديهة، خلاق في الأمثال من خلال تجربته الإنسانية. الرواية تتحدث عن قصة شاب مفعم بالحياة ورغبة ملحة في التغيير وصنع الجديد، شاب متخرج من جامعة أمريكية يعمل كمهندس، بينما في أوقات فراغه يشتغل على صناعة محتوى مفيد يحاول من خلاله أن يكون مؤثراً، يقرر أن يعرض سلسلة كان قد خطط لها لتعرض في رمضان، وبينما هو في عصف ذهني لاختيار موضوع السلسلة، إذ به يتذكر مخطوطة كان قد حصل عليها من صديقه قبل شهور، ليكتشف بعد قراءته للمخطوطة شخصية الرجل الحكيم «أحيقار».
الرواية متعددة الأصوات بين صوت لقمان وصوت كارمن جارته في البناية، والتي تنشأ بينهما علاقة صداقة تنتهي بالحب، وصوت حارس العمارة «العم صالح». تعتمد الروائية أسلوب الواقعية السحرية، إذ ترتقي بشخصياتها الروائية نحو أفق التخييل الحر والأسطورة في مدينة مفعمة بالتاريخ وقصص الحضارات التي مرت من هناك، سطيف. هي أول عمل روائي صدر للكاتبة لتنتقل من العالم القصصي (أعتاب تشرين التي حصلت على جائزة الفكر والإبداع التي نظمتها ولاية وادي سوف برعاية وزارة الثقافة سنة 2018). في روايتها الثانية التي شكلت قفزة نوعية في إبداعها «الماتريوشكا» [2019. دار نزهة الألباب. 129ص] من خلال فكرة تجريدية حكمت الرواية بشكل كلي وهي: «يمكننا أن نلمس حلمنا» كيفما كانت الأقدار التي تعصف بنا، ونخبئه عن الأنظار الشريرة والقاسية. مدهشة قدرات الإنسان على التآلف مع الخيبة وهزات الحياة العنيفة.
قد يخسر الإنسان بعض الرهانات لكنه يظل حياً بحثاً دوماً عن الأجمل داخل ركام الرماد، وتصبح الطفولة المتحررة من أصفاد الأعراف التي مضى منها وأصبح من الصعب بالنسبة لامرأة حية العيش تحت شرطياتها المجتمعية. فالتعبير الذاتي عن مشاغل الروح ومشاعر الألم تمر حتماً عن طريق الحياة التي لا تقبل الارتكان للنظرة التي تحشر المرأة في وظائف تقليدية وبيولوجية في الأغلب الأعم. في هذه الرواية تسرد باية محنتها وقلقها الوجودي. وحتى تكون قريبة من ذاتها، اختارت أن يكون مرتكز سرديتها، الأنا، ضمير المتكلم. مواجهة «أنا» غير المعترف بها اجتماعياً لأنها أنثى وظيفتها محددة سلفاً. باية ترسم ذاتاً منكسرة لكن مقاومة في الوقت نفسه. ضمير «الأنا» يسمح لها بسبر أغوار القلق الذاتي بين ثقافة تنويرية حرة وواسعة، ووضع يجر في الأغلب الأعم إلى الوراء. يمس أعماقها بقوة. يسائلها في حوار ذاتي شديد الحساسية. لا تمر باية بشكل عرضي في مجتمعها، فهي النموذج الناجح، الفتاة المتفوقة بالمرتبة الأولى على مستوى غرداية ذات الأصول المزابية، التي وجدت نفسها في مواجهة جدها المنتمي إلى ثقافة أخرى وإلى زمن آخر، وإلى حساسيات ثقافية مختلفة؛ لهذا، ما تقوم به باية يبدو مرفوضاً وغير مقبول، وعليها أن تقنع محيطها بجدوى أفكارها. دور المرأة مجتمعياً أكبر من تسييجات الفكر المحافظ الذي لم يخرج مما تلقاه الذي لا يخضع لمساءلة العصر. باية تقع على الحافتين، حافة المجتمع القديم وتوفير راحة الاستقرار، وحافة مجتمع جديد جارف بقيمة. السؤال الذي تطرحه الرواية وسطي، كيف نجمع بين الاثنين لتجاوز قلق عظيم يخترق الفكر العربي كلياً. على باية أن تتجاوز ما رسم لها سلفاً حتى قبل ولادتها، فهي ليست أكثر من دمى الماتريوشكا المتشابهة والمتداخل بعضها في بعض. باية الصبية، ومن ثم باية الأم ثم باية الجدة. لكن صدف الحياة لها أيضاً سلطانها؛ تقف أمام مكتبة والدتها الراحلة لتهديها المصباح السحري الذي يمدها بالقوة والشجاعة للمحاربة من أجل حلمها، لم يكن طريقها محفوفاً بالورود وهي تكتشف أسرار حياة والدتها التي كانت تدونها في دفتر دفنته بين الكتب.
لا تتنكر لمجتمعها أبداً، لكن تريده أن يتحرك من خلال ديناميكية الحياة ويرتبط بقوة بعصره بالإجابة عن أسئلته الحادة.
في روايتها الثالثة، تنقل آمال بن عبد الله النقاش في اتجاه معضلات الهوية. فالهوية وجود وليست مجرد حركة استبدالية. في رواية ظلال العتمة [دار خيال. 2022- 250 ص] تواصل قراءها بعصرها وزمنها من خلال حفرياتها الثقافية في مجتمعها. في الصمت الذي يخفي أصواتهن ويدفعهن إلى التخفي تحت أغلفة الكتابة الاستعارية. ترى «جيداء» تدخل عالم الأدب فتخلق شخصية بديلة لها لتحملها حرفها وحرائقها وجنونها، صنعت من «العنقاء» أشهر كاتب وتوارت هي خلف الستار، خوفاً من قيود مجتمع وجدت نفسها مرغمة على اللعب معه لعبة التخفي؛ أي أن تكتب بحرية عن طريق لعبة القناع أو الاختباء وراء الاسم المستعار. قالت عنه: «اعتصرت هذا المخلوق من كياني قطرة قطرة…». فهل تستطيع وهي على حافة الهاوية، أن تسترد اسمها وحقها الطبيعي. فما يكون مجرد لعبة في البداية يتحول إلى حقيقة صعبة تضع الهوية مثار قلق وتساؤل. خطيئتها الأدبية جعلتها تصطدم مع حقيقة قلبت موازين حياتها رأساً على عقب وجعلتها تقف لتعيد حساباتها من جديد، الموت المحتم كان مصيرها بعد اكتشافها بأنها مصابة بمرض السرطان، وجدت نفسها وحيدة في مواجهة وحش شرس، فتمنت في لحظة يأس وضعف أن تقابل بديلها الذي أوجدته في عالمها المتخيل وعاشت معه سنوات وهي تراسله لتخفف عن كاهلها أعباء الحياة، فأقحمته في كل تفاصيل حياتها وخلقت معه أجواء حميمية افتراضية كانت تهرب إليها كلما ضاقت بها السبل، تقابله لا لكي يوقع على أعمالها التي وهبته إياها، وإنما كي تسحب منه بساط الشهرة وتسترد حقها قبل موتها، كأن المرض زودها بالقوة التي كانت تفتقر إليها.
إن آمال بن عبد الله بمنجزها المميز، تستحق كل الاهتمام، فهي من مجتمع ميزابي يبدو بعيداً لكنه في عمق حياتنا وهويتنا. صوت نسائي شجاع في التجريب الأدبي، من النص الأسطوري والتاريخي إلى سردية الهوية إلى من السهل التخلي عنها لكن من الصعب استرجاعها.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com