مجتمع

صورة الزعيم قاسم في ذاكرة الشيوعيين .

بيدر ميديا.."

صورة الزعيم قاسم في ذاكرة الشيوعيين .

      قراءة نقدية .

محمد السعدي

لا يتجادل أثنيين سويين على وطنية الزعيم قاسم وعفة لسانه وقلبه ونظافة هندامه وبساطة روحه وشجاعته في مواجهة الموت في مبنى الصالحية ببغداد يوم ٩ شباط ١٩٦٣. لكن حتماً يتجادل أثنان على أداء قاسم الحكومي والوظيفي في إدارة مؤسسات الدولة وشؤون البلد ، وتخبطاته في القرارات ونزعته بإتجاه الدكتاتورية والارتجال وتشبثه بكرسيه . في صبيحة 14 تموز 1958 ثمة عسكر أنقضوا على ثكنات ومحميات النظام الملكي ومؤسساته ولولا التأييد الجماهيري والشعبي لبيان رقم واحد من إذاعة بغداد في مبنى الصالحية في شوارع بغداد والمدن الأخرى لبقى ذكرى هذا اليوم ضمن دائرة مغامرات الإنقلابات العسكرية . يوم دموي دشن به بإبادة العائلة المالكة في قصر الرحاب بعد أن خرجوا من فضاءات غرف نومهم رافعين رايات الاستسلام . أطلق النار عليهم من قبل الضابط عبد الستار العبوسي ، ولم ينجو منهم الا الأميرة بديعة أخت الامير عبد الإله وخالة الشاب المغدور الملك فيصل الثاني . تابعت بأهتمام طيلة السنوات التي مضت ما كتب حول الزعيم قاسم . فريق وهو المؤيد له . ذهب بعيداً عن حقيقة مجريات الاحداث ليجعل من قاسم قديساً ، ونفر آخر جعل منه دكتاتوراً مستبداً.

حتى ننصف الرجل والمرحلة والتاريخ في فترة حكمه التي لا تتجاوز الخمسة سنوات مرت بمخاضات عسيرة . أدت ببعضها الى إسقاطات مشوهة . في رأي أول تلك الاسقاطات كانت محكمة المهداوي تجربة فاشلة . عكست وجهاً سلبياً عن أهداف ثورة تموز . وفي بعض المرافعات أنقلبت سلباً على سمعة الثورة ورجالها وخدمة أعداء الثورة , بل ألبت الناس عليها . محاكمة سعيد القزاز وزير داخلية النظام الملكي نموذجاً . وهناك نماذج أخرى عديدة في ملفات المحكمة لا يقتدى بها بما حملته في جلساتها من تعابير وألفاظ تخدش الذوق العام .

كان عبد الكريم قاسم بقدر وطنيته سياسياً فاشل بأمتياز ، تذبذب مواقفه من عدة أحداث ووقائع ، كان يفترض أن تكون مواقفه متساوية وبمسافات واحدة تجاه تطورات الاحداث في البلد . الموقف من المقاومة الشعبية وشعاراتها المستفزة وتجوالها في الشوارع العامة بذريعة حماية صورة الزعيم ومنجزات الثورة . خطابه المشهود في كنيسة ” المار يوسف ”عام 1959 ضد الشيوعيين  . الموقف من حركة الشواف في الموصل وقطار السلام . محاكمة أياد سعيد ثابت بعد عفو رئاسي وعودته من المهجر على ضوء أحداث حركة مايس 1941 ورشيد عالي الكيلاني . أعدام الضباط الاحرار ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ،  الذي بدأ يبكي في يومها بمكتبه في وزارة الدفاع حسب شهود مرافقيه ، مطاردة وإعتقال وأغتيالات الشيوعيين على مرآى ومسمع من بصيرته من قبل جهازه الأمني والقوى المعادية لهم ، كل تلك الاحداث والتطورات تؤدي بنا الى دكتاتورية عسكرية في إدارة الحكم والتي كان يفترض أن تسلم الى حكم مدني أقصاه لمدة عامين بعد نجاح ثورة تموز . موقفه المتذبذب وسط التيارات والاحزاب السياسية . مرة يهادن ويغازل الشيوعيين على حساب البعثيين والقوميين . والشيوعيين كانوا أخلص الناس له ولحكمه دعنا من بعض الهفوات التي أرتكبت في حكمه . وفي الختام هادن البعثيين بالضد من الشيوعيين بل غض النظر عن تحركاتهم ونواياهم رغم تحذيره منهم ومن نواياهم , بالأخير أطاحوا به وبنظامه ودفع الثمن مئات الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين . في اللحظات الاخيرة من حياته وحكمه زاد توجسه في الخوف من الشيوعيين ، وفي باب وزارة الدفاع كان المشهد درامي تراجيدي أبناء الفقراء وساكيني بيوت الصفيح والشيوعيين يطالبوه بالسلاح للدفاع عنه وعن الثورة يتردد رغم أن زعاف الموت يقترب منه وينهي حياته بعد أن حصر نفسه في وزارة الدفاع وسلم نفسه ذليلا بعد ٢٤ ساعة من بدأ الإنقلاب ، كان خائفاً من الشيوعيين لينقلبوا ضده ويقفزوا الى دفة الحكم  وليس خوفاً من سفك الدماء ، فالدماء سالت منذ الصباح الباكر في شوارع بغداد .

من الملفات التي سارعت للاطاحه به وبحكمه . ملف دولة الكويت والتلويح به لاحقيتها لدولة العراق عام 1961. قانون رقم 188 لسنة 1959 للاحوال المدنية والمساواة في الأرث وحقوق المرأة مما أرعب الدوائر الرجعية والمتخلفة والحاقدة على منجزات الثورة وتقدمها . فتوى محسن الحكيم نموذجاً ” الشيوعية كفر وألحاد ” . مما أعطى مبرر فقهي وقانوني وأجتماعي في محاربة الشيوعية في العراق والتبرير في الممارسات الدموية ضدهم ، والدليل ما حدث في يوم 8 شباط عام 1963 في أرض العراق . وقد جرت محاولة فاشلة من مجلس الحكم الانتقالي بعد إحتلال العراق للاطاحة بالقانون وتم التصويت على الغائه ، لكن بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق أنقذه .

ومن الملفات التي عجلت في إنهاء حياته وفترة حكمه قانون رقم 80 لعام 1961 حول تأميم النفط والتضيق على عمل الشركات الاحتكارية النفطية الامبريالية في العراق ، مما دفع دوائر تلك الشركات في دعم القوى المعادية له والاطاحة به ، علاوة على ذلك الملف الكردي والصراع الدائم والدائر بين الحكومة المركزية والملف الكردي . تاريخ العراق معقد وغائر من الصعوبة أن يكتب بواقعية وشفافية بعيداً عن الانتماءات الحزبية والطائفية والاثنية . منذ الدولة الاموية ومراحل الحكم التي أعقبتها على أرض العراق تاريخاً مغلوطاً بعيداً عن واقعية الاحداث ربما نقلت شذرات منه ، لكن هذا لايكفي في تدوين تاريخ كامل ، كان لزاماً علينا نحن الشيوعيين أن نقف بجد ونقد عل تداعيات تلك المرحلة بقراءات واقعية ومتأنية حتى على حساب نقد الذات وأستخلاص الدروس . فالبشر خطاؤون .. كما يقول فولتير .

الملفت في الأمر في السنوات الآخيرة من عمر إحتلال العراق يتباهى الشيوعيين العراقيين بصور الزعيم قاسم بعيدأ عن الوقائع الموضوعية في فترة حكمه وموقفه السلبي والمدمىر من الحزب الشيوعي العراقي وملاكاته في التضييق على نشاطاتهم بل في مطاردتهم ، إذ لم يسمح لهم بنشاط سياسي واضح من خلال منحهم رخصة عمل ضمن شرعية قانون الاحزاب ، وعندما قدموا طلب للحصول على أجازة رفضها بذريعة وجود حزب شيوعي يعمل ضمن قانون الاحزاب والتي منحها الى داود الصائغ فغير الطلب بأسم جريدة أتحاد الشعب الجريدة المركزية للشيوعيين أيضاً رفض طلبهم . وعلى أثر هذا الرفض طلب الشهيد سلام عادل بلقاء به وهو المعارض الى سياسته وتخبطاته مع الشهيد جمال الحيدري ومجموعة من العسكريين ، وعندما خرج من اللقاء كان متذمراً ووصفه بالطاغي والجاهل في قراءة تداعيات الشارع العراقي . وعندما توسعت الدائرة بين أوساط الشيوعيين بالضد من سياسته هنا تدخل السوفييت في الحذر من أي خطوة بإتجاه أزاحته ، في يومها أخرجوا جورج تلو ، الذي كان يرقد في مصحات موسكو وحملوه رسالة شديدة اللهجة الى قيادة الحزب الشيوعي الحذر في النية بأي خطوة ، وكما سموها بالمغامرة إتجاه قاسم وحكمه . لماذا يتباكا الشيوعيين عليه وعلى فترة حكمه إذن ؟. 

خاض الشهيد سلام عادل صراعاً حزبياً وسياساً مع رفاقه من أجل تحيدهم بالموقف من سياسة قاسم ومعارضتها مما عرضته تلك المواقف الى أبعاده وبأمر سوفيتي الى خارج البلد وبعيداً عن الفعل الثوري عام ١٩٥٩ بحجة التأهيل الدراسي ، وعندما عاد في نهاية عام ١٩٦٢ وبقرار سوفيتي أيضاً . وجد تطورات الأحداث في العراق ” قاب قوسين أو أدنى ” من الشيوعيين في الخطورة ضدهم حيث العناصر القومية والبعثيين محتلين مواقع مهمة وحساسة في الدولة بدعم مباشر من الزعيم ومطاردة وابعاد الشيوعيين ورميهم في السجون والمعتقلات ، وعندما أنقلبوا البعثيين عليه في يوم ٨ شباط عام ١٩٦٣ وجدوا مئات من الشيوعيين في السجون والمعتقلات مما وفر لهم وقتاً في إنهاء حياتهم . وحسب شهادات مرافقه الشخصي ”جاسم العزاوي ” أثناء مرافقته في جولاته على الافواج والكتائب يطالب قادتها البعثيين والقوميين في تطهير الجيش من العناصر الشيوعية ، وهنا سؤال يطرح نفسه بألحاح ، ما هو موقف الشيوعيين العسكر من تسلكات الزعيم تجاه رفاقهم وهم القريبين من دائرته الضيقة . مثالاً .. طه الشيخ أحمد ، جلال الاوقاتي ، وصفي طاهر ، فاضل عباس المهداوي ، ماجد محمد أمين ؟؟. درس تاريخي مهم في المشهد السياسي العراقي الحديث بحاجة شديدة الى قراءة جديدة ومراجعة نقدية جريئه .

في قراءة شخصية متأخرة حول صبيحة ٨ شباط عام ١٩٦٣ وبيان الحزب الشيوعي العراقي الداعي الى سحق المؤامرة الرجعية ومن متطلبات العمل السياسي  يفترض التأني بما ستؤول إليه الامور وعلى أساسها تتخذ المواقف في حدث مثل هذا ، والذي أعطى للبعثيين والقوميين صبغة شرعية في أصدار بيانهم المرقم ١٣ بإبادة الشيوعيين ، لكن هذا لاينفي نوايا البعثيين في إستهداف الشيوعيين والقوى الديمقراطية . كما أثبتت الوقائع في ذلك اليوم المشؤوم بأبادة الشيوعيين وأصدقائهم ولم ينجو أحداً من مخالبهم ، لقد دمروا البلاد والعباد ، وأستشهد زعيم الشيوعيين سلام عادل ، عندما إعتقل يوم ١٩ شباط ومات تحت التعذيب يوم ٢٣ من نفس الشهر عام ١٩٦٣ . وبعد عشرة سنوات من القتل والدم عاد الشيوعيين ليصافحوا أيادي البعثيين الملطخة بدم رفاقهم تحت يافطة ” جبهة وطنية وقومية تقدمية ”

محمد السعدي

مالمو/ تموز ٢٠٢٣

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com