تحقيقات

محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى  (3)

بيدر ميديا.."

محطات مع عبد الإله النصراوي في الوطن والمنفى     (3)

ثلاثة عوامل تسهم بالتقارب بين القوى الوطنية

عبد الحسين شعبان

ثلاثة مشتركات

ثلاث قضايا برزت على الساحة وقادت إلى بعض التقارب بين القوى الوطنية، على الرغم من اختلافاتها وتقاطعاتها والذكريات الأليمة التي يحملها كل منها عن الآخر.

أولها – توقيع بيان 29 حزيران / يونيو 1966? بشأن القضية الكردية، والذي وفّر فرصة مناسبة كهدنة طويلة، حيث كانت شعارات الحركة الوطنية حينها “الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان”، فلم تعد قضية الكرد مجرد “عصاة” يحركهم شاه إيران والقوى الإمبريالية أو “عرب سكنوا الجبال” حسب وجهة نظر الجماعات المتعصّبة، وخصوصًا من جانب القوميين والبعثيين، بل هي قضية شعب له حقوق لا بدّ من تلبيتها، ولا بدّ من حلّ سلمي للمسألة الكردية بالتفاهم والتعاون. وقد أصبح ذلك الشعار لا يخصّ الشيوعيين والحزب الديمقراطي الكردستاني وحدهما، بل تبنّته بعض الأطراف القومية أيضًا، وإن كان بقناعات متفاوته.

            وثانيها – انتخابات الطلبة في ربيع العام 1967? والذي فاز بها اتحاد الطلبة السري المدعوم من الحزب الشيوعي، وكان فوزه ساحقًا ? 76 % من المقاعد الانتخابية، ونحو 80 % من أصوات الناخبين، الأمر الذي فرض على الجميع بمن فيهم الشيوعيين، إعادة النظر بحساباتهم وقوتهم ونفوذهم، وطرح مجدّدًا الدعوة إلى جبهة وطنية باستخلاص درس مهم، لكنه سرعان ما يُنسى أن ليس بإمكان حزب أو تيار واحد إدارة البلد أو حكمه لوحده.

وثالثها – هزيمة 5 حزيران / يونيو 1967 التي لحقت بالعرب وأدّت إلى “إسرائيل” باحتلال أراض عربية جديدة، الأمر الذي فرض على الجميع إعادة النظر بطرائق الحكم وأساليبه وأدواته والجهات التي تقف خلفه، وأخذت العديد من القوى القومية تطرح شعارات راديكالية. وكان ذلك واحدًا من الأسباب التي قادت لاحقًا إلى انشقاق الحركة الاشتراكية العربية بقيادة النصراوي.

انتعشت خلال تلك الفترة مجدّدًا فكرة الجبهة الوطنية، وحدثت لقاءات بين القوى السياسية، وحصل نوع من التقارب بين القوميين والشيوعيين، وبينهما مع حزب البعث السوري، لكن انشطار الحزب الشيوعي جعل الأطراف المعنية تحتار في العلاقة مع الفريقين المتصارعين.

وقد جمعتنا جلسة مطوّلة في منزل حسن شعبان في أول أيام الانشقاق، وقد سألني عن رأيي، وأين موقعي وتوجّهي؟ ودار حوار بيننا شاركت فيه رجاء الزنبوري (أم مضاء)، خصوصًا بعد عودة حسن شعبان من الجبهة، حيث كان ضابط احتياط، تم استدعاؤه بعد 5 حزيران / يوليو، والتحق بالجيش في الأردن.

وقد أخبرني النصراوي في دمشق لاحقًا أنه في الوقت الذي كان يستقبل فيه عزيز الحاج (رمزي) وحسين جواد الگمر (وليد) في منزله، وإذا بعامر عبد الله ومهدي الحافظ يطرقان باب المنزل ويرنّان الجرس، وقد ارتاب من في المنزل لشعورهم أن ثمة من يلاحق الحاج، وحين عرفنا، كما يقول النصراوي من هو الطارق، خرجت لملاقاتهما، واعتذرت منهما لأنني في اجتماع حاليًا، وحدّدت موعدًا لهما في وقت لاحق. وبالطبع كان كلا الفريقين يريد أن يشرح أسباب ما حصل من صراع، وكلّ منهما يحاول تأكيد شرعيته وتخطئة الآخر.

مجالات التعاون

بعد الانشقاق الذي حصل في الحركة الاشتراكية (16 تموز / يوليو 1968)? حدث نوع من التقارب بين الجناح الذي قاده عبد الإله النصراوي مع جناح القيادة المركزية، الذي كان بقيادة عزيز الحاج، في حين كان جناح فؤاد الركابي وهاشم علي محسن (حزب العمل الاشتراكي العربي)، أقرب إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، لكن العلاقات ظلّت طيّبة، ولم يكدّرها شيء، وقد قُدّر لي أن أتابع مجالين للنشاطات المشتركة، أحدهما مع الطلبة والثاني مع الجمعية العراقية للعلوم السياسية، التي انضمّت لاحقًا إلى الحقوقيين، وفي هذين المجالين، لم يكتف النصراوي بآراء جماعته، بل كنّا نلتقي أحيانًا، خصوصًا عند بعض المسائل العقدية، ليستفسر مني ويتأكّد من بعض التوجهات.

وكان عبد الرزّاق النايف قد عرض على الحركة الاشتراكية (قبل انشطارها)، التعاون لإزاحة الرئيس عبد الرحمن محمد عارف، لكن الركابي رفض ذلك بشكل قاطع، وهو ما أكّده لي النصراوي أيضًا بقوله، كانت القيادة ترفض التعاون معه لمعرفتها باتصالاته المريبة. كما أخبرني الصديق باقر ياسين، القيادي في حزب البعث اليساري (الموالي لسوريا)، أن عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداوود طلبا من فؤاد شاكر، القيادي البعثي، التعاون معهم لإقصاء عبد الرحمن عارف، إلّا أنهم رفضوا ذلك بشدّة.

وفي ذكرى نكسة 5 حزيران / يونيو 1967 (الأولى)، جرت محاولات للتنسيق مع الأطراف السياسية، ولكن لم يتمّ التوصّل سوى لاتفاق بين الحزب الشيوعي (اللجنة المركزية) وحزب البعث (اليساري – الجناح السوري)، وكانت تظاهرة القيادة المركزية منفصلة، وهي الأهم والأبرز، أما الحركة الاشتراكية فكانت ضمن تظاهرة اتحاد نقابات العمّال، الذي يرأسه هاشم علي محسن.

الإضراب الطلابي

اتفقنا على إعلان الإضراب الطلابي مع الحركة الاشتراكية، والبعث – الجناح السوري، والحركة الكردية بجناحيها (الحزب الديمقراطي الكردستاني ومجموعة المكتب السياسي)، وذلك في أواخر العام 1967? واستمرّ عدّة أسابيع بعد عيد رأس السنة 1968? بعد أن بلورنا بضعة مطالب مهنية، وهو ما رويته في كرّاس صدر لي العام 1983 في بشتاشان بعنوان “لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق”، علمًا بأن القوّة الأساسية كانت في الإضراب هي للقيادة المركزية.

وجرت محاولات لكسر الإضراب بالقوّة من جانب السلطة بالتعاون مع حزب البعث (قيادة البكر – صدام)، سواء عبر صدامات مباشرة مع المجموعة أم حين واجهت قوات الأمن الطلبة المضربين في كلية التربية بإطلاق النار عليهم، وأدّى ذلك إلى جرح عدد منهم، واعتقال آخرين، الأمر الذي زاد من حدّة التوتّر السياسي.

وقد تحرّكنا بوفود إلى القوى والشخصيات الوطنية، لإطلاعها على مطالب الحركة الطلابية، حيث زرنا فؤاد الركابي وهاشم علي محسن وكامل الجادرجي، الذي كان مريضًا، وصالح اليوسفي وجلال الطالباني، لكن تململًا كان قد حدث، حيث كان راديو موسكو قد علّق على الإضراب الطلابي معتبرًا أنه قام بتحريض وتشجيع من الجماعات المتطرّفة ( المقصود هنا القيادة المركزية)، الأمر الذي فاجئنا به الركابي خلال لقائنا به، وقد وجّه سؤالًا لي، ولم أكن قد استمعت إلى راديو موسكو وإلى ذلك التعليق الغريب مساء اليوم الذي سبق اللقاء، فاستغربت منه، وكان ردّي أن الحركة الطلابية لديها مطالب مشروعة وهي متمسّكة بها، بغضّ النظر عن الآراء والتقديرات بشأنها.

حضر اللقاء صباح عدّاي من الحركة وحازم النعيمي من البعث “السوري” (قبل أن ينتقل إلى الحركة الشيوعية) وصلاح عبد الجبار (من جماعة المكتب السياسي) وكاتب السطور من اتحاد الطلبة (الشيوعي). ومساء ذلك اللقاء اتصل بي النصراوي وطلبني للقاء، وقد التقينا، فسألني عن حقيقة الموقف؛ وهل توجيهاتنا هي الاستمرار بالإضراب؟ أم أنها، بعد ما أذيع من راديو موسكو، سيتم التراجع عنها. قلت له بصراحة: ليس لدينا أي توجيه آخر، وأن القوة الأساسية هي للقيادة المركزية، لكن ثمة وعودًا من السلطة بتلبية بعض المطالب وإطلاق سراح المعتقلين وتعيين الخرّيجين وغير ذلك من المطالب المهنية.

 وكنّا حينها قد التقينا جواد هاشم، الذي كان عضوًا في مجلس التخطيط وأستاذًا جامعيًا قبل أن يتم استيزاره بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968? الأمر الذي سيعني استمرار الإضراب أي تصعيد المواجهة أو التراجع والتآكل التدريجي، وعلينا اتخاذ قرار قبل أن يقع المحذور، فلسنا بقادرين على التصعيد، ولا نستطيع أن نتحمّل أعباء الهزيمة، وهذا كان رأيي الذي سبق أن عبّرت عنه مع رفاقي. وعمليًا علينا اتخاذ قرار بإنهاء الإضراب قبل أن يُفرض علينا ذلك.

اعتُقل النصراوي وعدد من إدارة الحركة الاشتراكية وبعض قيادات القوميين بعد 17 تموز / يوليو، وبقيَ لبضعة أشهر في المعتقل، وحين أُفرج عنه، طلبه صدام حسين للقاء به، وكان قد جاء طلال سلمان إلى العراق، وطلب اللقاء مع بعض الشخصيات العراقية المعتقلة لإجراء مقابلات إلى مجلة الصياد اللبنانية، كما أجرى لقاء مع عزيز الحاج في معتقل قصر النهاية، أشاد فيه الأخير بالحكم الوطني والإجراءات التي اتّخذها، وقدّم نقدًا ذاتيًا أقرب إلى الجلد الذاتي لمسار القيادة المركزية، مستبدلًا شعار الاسقاط بتقديم الولاء.

وطلب سلمان من نائب الرئيس صدام، اللقاء مع النصراوي، كما أخبرني كلاهما، وهو ما حصل فعلًا، وقد سبق ذلك تراجعًا من جانب الحركة بالإشادة ببعض إجراءات البعث، الأمر الذي أحدث نوعًا من الانفراج، فأعلنت الحركة تأييدها للاعتراف بألمانيا الديمقراطية، وبخطوة إطلاق سراح المعتقلين، وإعادة المفصولين، ودعت إلى قيام جبهة وطنية والسماح للأحزاب بحريّة العمل، وهي مطالب كان الحزب الشيوعي قد تبنّاها وطرحها منذ 17 تموز / يوليو 1968.

وقد حصل التعاون مع الحركة وبالتنسيق مع النصراوي في مجالين في العام 1969? وفي المرتين كنت معنيًا بذلك في مجال الطلبة، حيث خضنا الانتخابات  بقائمة موحّدة (على الرغم من تخرّجي حينها من الجامعة)، وشجّعنا الحركة على تأسيس كيان طلابي، فقد كانوا يحضرون معنا ومع الاتحاد الوطني باسم (المكتب الطلابي للحركة الاشتراكية)، وساعدناهم على ذلك فأسسوا جبهة الطلبة التقدميين، وقد قرّرنا النزول بقائمة واحدة، بعد عدم الاتفاق مع  قيادة الاتحاد الوطني، حيث وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، وبالفعل أطلقنا على قائمتنا اسم “القائمة المهنية التقدمية”، وكان يحضر عن الحركة صباح عدّاي، كما حضر معنا الاجتماعات الرباعية مع الكرد، طيب محمد طيب وفاضل ملّا محمود، الذي تحوّل إلى الحركة الإسلامية المؤيدة لإيران، بعد مروره بتجربة تعاون مع القيادة المركزية، وقٌتل في فيينا مع عبد الرحمن قاسملو، وهو صديق الأخ عادل عبد المهدي (أبو هاشم)، الذي لديه تجربة مماثلة.وفي المرّة الثانية بانتخابات الجمعية العراقية للعلوم السياسية، وكانت اللقاءات مع هاني ادريس وسمير العاني من الحركة، ومن ثم مع صباح عدّاي، ومن جانب البعث كان زهير يحيى ومجبل السامرائي ، والتقينا مرّة واحدة بحامد الجبوري، وخلال فترة التأسيس مع محمد محجوب، ومن الكرد كان طيّب محمد طيّب، و قد مثّلت الحزب حينها.

وعند إجراء الانتخابات، مثّل البعث طه الحديثي، بعد أن اعتذر منذر الشاوي من رئاسة الجمعية، ومثّل الحركة صباح عدّاي، والكرد طيّب محمد طيب، والشيوعيون نعمان شعبان، وكان عبد الإله يستعلم مني تفاصيل اللقاءات أيضًا. وقد رويت تفاصيل تلك الحقبة في مقالتي عن كريم الملّا الموسومة ” كريـــــــم المــــلاّ –  سردية الاختلاف ونبض الائتلاف” ، والتي نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 8 تشرين الأول / أكتوبر 2015. وفي مقالتي عن منذر الشاوي الموسومة ” منذر الشاوي: ذاكرة جيل أكاديمي –  حين تتلاقح الفلسفة بالقانون”، والتي نُشرت في جريدة الزمان “العراقية” في 16 آذار / مارس 2021.

كان من ثمار تلك اللقاءات تعاون وثقة بين الأطراف السياسية، وكنّا نأمل قيام تحالف وطني واسع بمواصفات تلك المرحلة، لكن الرياح سارت باتجاه آخر، وهو ما سآتي على ذكره بخصوص النصراوي.

وقبل أن أنتقل إلى مرحلة تدهور العلاقات مع السلطة، أودّ أن أشير إلى أننا نظّمنا في إطار الجمعية العراقية للعلوم السياسية،  ندوة بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد لينين في 11 نيسان / إبريل 1970? وحضر من طرفنا عبد الرزاق الصافي، ومن الحركة محمد حسين رؤوف، ولم يحضر ممثّل البعث، الذي كان يفترض حضور عبد الفتاح الياسين، وفي ذات الفترة نظمت السفارة السوفيتية حفل استقبال، وقد دعوت معي لحضورها، صباح عدّاي من الحركة الاشتراكية، وهي المرّة الثانية التي التقى بها مع صدّام حسين، وقد أصبح نائبًا للرئيس، حيث التقيت به في المرّة الأولى خلال الإضراب الطلابي، وهو لقاء عابر ودون تعارف.

وبعد بيان 11 آذار / مارس 1970? بدأت العلاقات مع حزب البعث تتردّى، حيث تمّ شنّ هجوم على الشيوعيين، بدأ من المحافظات الجنوبية من البصرة والعمارة والناصرية وحتى بغداد، إضافة إلى الكوت وديالى والأنبار وصلاح الدين والموصل، وكذلك محافظات الفرات الأوسط: النجف وكربلاء والحلّة والسماوة والديوانية.

اعتُقل عبد الإله النصراوي بعد أن ساهم في مؤتمر الحزب الديمقراطي الكردستاني (تموز / يوليو 1970)? هو ومحمد حسن سلمان، المفكر الاقتصادي اليساري، وكانا قد ألقى كلّ منهما كلمة جاء فيها على نقد السياسة الرسمية، وهو ما فعله أيضًا كريم أحمد، عضو المكتب السياسي، الذي بقي في كردستان حينها.وفي أعقاب تلك الفترة، وصلت إلى بيروت، وقد نسقت مع الحزب الشيوعي اللبناني في عدد من اللقاءات، من بينها مقابلة صحافية معي، أجرتها جريدة الراية ووضعت عنوانًا لها “هارب من العراق يروي قصصًا رهيبة عن قصر النهاية”، جئت فيها على ذكر اعتقال النصراوي ومحمد حسن سلمان ولؤي أبو التمن واغتيال ماجد العبابجي، وقبل ذلك اغتيال عبد الستار خضير الصكر ومحمد الخضري واختطاف عبد الامير سعيد، ونشرتها الجريدة على حلقتين وفي يومين متتاليين، وقد ذكرت ذلك في مقالتي عن مهدي الحافظ الموسومة “مهدي الحافظ: يا له من زمن؟” والمنشورة في جريدة الزمان (العراقية) على 4 حلقات في 8 و 9 و 10 و13-14 تشرين الأول / أكتوبر 2018.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com