متفرقاتمقالات

جولات الفساد في العراق… أزمات متكررة وحلول غائبة

بيدر ميديا.."

جولات الفساد في العراق… أزمات متكررة وحلول غائبة

صادق الطائي

 

ظاهرة الفساد الإداري والمالي في العراق قديمة، وموجودة في كل العهود وإن بنسب متفاوتة، لكنها ازدادت بدرجات فلكية وغير مسبوقة بعد 2003، حيث استخدمت الوظيفة لغايات ومكاسب شخصية وحزبية، ما أدى إلى تفشي الفساد وضعف الإرادة السياسية لمكافحته. ويمكننا القول إن ظاهرة تفشي الفساد في العراق كانت المحرك الأساس والدافع لخروج حركات الاحتجاج الشعبي، التي انطلقت موجاتها على مدى سنوات في بغداد والعديد من مدن العراق.. وإن اتساع حجم الفساد وتشابك حلقاته بلغ درجة لم يسبق لها مثيل، إذ أصبح من المسائل التي تهدد مسيرة التنمية، حيث نخر جسم المجتمع بدءا بالأمن وتبعه شلل في عملية البناء والتنمية الاقتصادية، التي انطوت على تدمير الاقتصاد، والقدرة المالية والإدارية، وبالتالي عجز الدولة عن مواجهة تحديات إعمار، أو إعادة إعمار وبناء البنى التحتيه اللازمة.

لم يجد المفسدون من يردعهم فصاروا مثالاً يحتذى، حتى تحول العراق إلى بؤرة للفساد المالي والإداري يتربع فيها على عرش الفساد العالمي

يشير الكثير من الإحصائيات الصادرة عن المنظمات العالمية المعنية بشؤون النزاهة ومكافحة الفساد المالي والإداري، إلى أن العراق بات يحتل مكانة متقدمة عالميا بنسبة الفساد ولعدة سنوات متتالية، على الرغم من وجود الكثير من الدوائر الرقابية كهيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، ومكاتب المفتشين العموميين، ودوائر الرقابة الداخلية في الوزارات التي يفترض أن تعمل جميعها على مراقبة الأداء الحكومي في المجالات المالية والإدارية. يحتل العراق هذه المراكز المتقدمة في مجال انتشار الفساد لأن ما يتم تناوله بالتدقيق والتحقيق من قبل الجهات الرقابية لا يصل في أحسن الأحوال إلى نسبة (5%) من حالات الفساد المالي والإداري والمهني الموجود فعلاً في دوائر الدولة. ويمكننا أن نشخص العلة ونقول إن المشكلة الأساسية، التي أدت إلى استشراء الفساد في العراق هو نظام المحاصصة المتبع في البرلمان والحكومة، الذي سبب ضعف الدور الرقابي لمجلس النواب بسبب المساومات المتبعة في علاقات الكتل البرلمانية، التي تجعلها متفاهمة اتفاقاً أو ضمناً على عدم محاسبة المفسدين من أي طرف، لأنه يعرض المفسدين من الأطراف الأخرى للمساءلة أيضاً. وكذلك الحماية التي توفرها الأحزاب الحاكمة للمفسدين المنتمين إليها قد ساعد، إضافة إلى عوامل أخرى، على شيوع ثقافة ارتكاب الفساد ومحاربة النزاهة والنزيهين، وممارسة هذه الثقافة في واقع العمل الوظيفي في دوائر الدولة العراقية وبشكل كبير جداً طولاً وعرضاً من دون رادع قانوني ولا رقابي، فتم نهب المال العام، وانتشر الفساد بصور متعددة كالسرقة والرشاوى والاحتيال والاختلاس والهدر، عبر عمليات المشتريات والعقود الوهمية أو غير السليمة، ولم يجد المفسدون من يردعهم فصاروا مثالاً يحتذى من الكثير من الموظفين الأدنى منصباً أو مسؤولية، حتى تحول العراق إلى بؤرة للفساد المالي والإداري يتربع فيها على عرش الفساد العالمي. ونلاحظ أن كل رؤساء الحكومات في العراق، الذين تولوا منصبهم منذ 2005 وحتى الآن، قدموا برامج حكوماتهم للمصادقة عليها في البرلمان، وكانوا يضعون فقرة محاربة الفساد في مقدمة برامجهم الحكومية، لكن من دون أن يتحقق شيء ملموس من هذا الادعاء على أرض الواقع، بل يمكننا القول إن العكس هو ما حدث ويحدث، والنتيجة زيادة تفشي الفساد يوما بعد آخر. وللفساد في العراق وجوه عديدة ومجالات مختلفة، وحسب الأدبيات القانونية والسياسية والإدارية التي تناولت الموضوع، يمكننا الإشارة إلى الفساد السياسي الذي يتمثل بالانحراف عن النهج المحدد لأدبيات التكتل، أو الحزب، أو المنظمة السياسية، نتيجة الشعور بالأزلية أو كونه الأوحد أو الأعظم، وهنالك عمليات بيع المبادئ الموضوعة في أدبيات المنظمة للكتل الدولية أو الإقليمية أو القومية لسبب ما، فالخيانة والتواطؤ والتغافل والإذعان والجهل والضغط، وغيرها من الانحرافات كلها تمثل أشكالا متنوعة للفساد السياسي. وهناك الفساد الإداري الذي يتعلق بمظاهر الفساد والانحراف الإداري أو الوظيفي، التي تصدر عن المنظمة أو الموظف العام أثناء تأدية العمل بمخالفة التشريع القانوني وضوابط ولوائح العمل، أي استغلال موظفي الدولة لمواقعهم وصلاحياتهم للحصول على مكاسب ومنافع بطرق غير مشروعة. ويلحق به الفساد المالي ومظاهره متنوعة وتشمل الانحرافات المالية ومخالفة الأحكام والقواعد المعتمدة حالياً في تنظيمات الدولة ومؤسساتها مع مخالفة ضوابط وتعليمات الرقابة المالية. وقد حددت عدة جهات دولية تعريفات الفساد وضوابط معالجته، إذ أصدرت الأمم المتحدة عددا من القرارات لمحاربة ومكافحة الفساد للقناعة التامة بخطورته وتهديده استقرار وأمن المجتمعات، كما أصدرت الأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد سنة 2004 التي انضم إليها الكثير من دول العالم ومن بينها العراق.أما البنك الدولي فقد وضع مجموعة من الخطوات والاستراتيجيات لغرض مساعدة الدول في مواجهة الفساد، والحد من أثاره السلبية في عملية التنمية الاقتصادية، وكذلك لجأ صندوق النقد الدولي إلى الحد من الفساد بتعليق المساعدات المالية لأي دولة يكون فيها الفساد عائقا في عملية التنمية الاقتصادية، وقد أنشأت منظمة الشفافية العالمية عام 1993 وهي منظمة غير حكومية تعمل بشكل أساس على مكافحة الفساد والحد منه، عبر التأكيد على وضوح التشريعات وتبسيط الإجراءات واستقرارها وانسجامها مع بعضها في الموضوعية والمرونة والتطور، وفقاً للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية. ويمتلك العراق في هيكلته الإدارية ثلاث مؤسسات رقابية تعمل على مكافحة الفساد الإداري والمالي هي؛ هيئة النزاهة العامة التي أنشئت بموجب الأمر 55 لسنة 2004، ومهمتها التحقيق في حالات الفساد المشكوك فيها، كقبول الهدايا والرشاوى والمحسوبية والتمييز على الأساس العرقي، أو الطائفي واستغلال السلطة لتحقيق أهداف شخصية، أو سوء استخدام الأموال العامة من خلال وضع أسس ومعايير للأخلاق الواردة في لائحة السلوك التي يستوجب الالتزام بتعليماتها من قبل جميع موظفي الدولة، وهناك مكتب المفتش العام في كل وزارة، الذي أنشئ بموجب الأمر 57 لسنة 2004 في الوزارات كافة، ومهمته المراجعة والتدقيق لرفع مستويات المسؤولية والنزاهة والإشراف على الوزارات ومنع حالات التبذير وإساءة استخدام السلطة والتعاون مع هيئة النزاهة من خلال التقارير التي تقدم عن حالات الفساد في الوزارات المختلفة. وبالطبع هنالك ديوان الرقابة المالية، وهو الجهة المسؤولة عن التدقيق المالي في العراق، وهو من المؤسسات القديمة، التي تم تفعيل دورها بموجب الأمر 77 لسنة 2004، ومهمته تزويد الجمهور والحكومة بالمعلومات الدقيقة الخاصة بالعمليات الحكومية والأوضاع المالية لغرض تعزيز الاقتصاد، من خلال مهمة التدقيق المالي وتقييم الأداء لغرض مكافحة الفساد.
إن ما قدمته الحكومات المتعاقبة من وعود وما قامت به البرلمانات المتتالية من دور رقابي لم تمس مشكلة الفساد إلا مسا خارجيا لا يتجاوز القشرة، ولم تعمل على معالجة واقتلاع هذا الداء من جذوره، فإدماج بعض الوزارت مع بعضها لا يعد حلا لمشكلة الفساد، ولا حتى تقليص الحمايات أو مخصصات الدرجات الخاصة، لا يعد كذلك إصلاحا حقيقيا أو خطوة جادة في مواجهة الفساد، لذلك نقول إن أي إصلاح في العراق لا بد من أن يبدأ بوضع معالجات حقيقية وجادة لمكافحة الفساد عبر تفعيل دور القضاء وحماية استقلاله، وتفعيل دور مؤسسات الرقابة. والكل يلاحظ أن التحقيق في المخالفات في العراق يستغرق فترة زمنية طويلة من دون أن يحسم بشكل حقيقي وقانوني، وهذا الأمر ساهم في تمييع القضايا الجنائية وهروب بعض الجناة قبل المحاكمة مثلما حصل فعلاً في خروج كل المعنيين في سرقة القرن، هذا الأمر يؤدي بالتأكيد إلى زعزعة القيم الأخلاقية القائمة على الصدق والأمانة والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص، كما يساهم في انتشار السلبية وعدم الإحساس بالمسؤولية. وقد لعب الفساد دورا رئيسيا في ضعف الاستثمار وهروب الأموال خارج البلد، في الوقت الذي كان من المفروض استغلال هذه الأموال في إقامة مشاريع اقتصادية تنموية تخدم المواطنين وتوفر فرص عمل حقيقية لهم. كما تتسبب عمليات الفساد في هجرة أصحاب الكفاءات والعقول الاقتصادية خارج البلاد، بسبب المحسوبية والوساطة في شغل المناصب العامة. الأمرّ والأدهى أن أفراد الطبقة السياسية في العراق وبكل أطيافها يخرجون علينا في وسائل الإعلام يوميا، وهم ينددون بالفساد وبسرقة المال العام. فإذا كانوا هم من ينددون بالفساد، إذن من هو الفاسد؟! هل هو الشعب المغلوب على امره والمبتلى بهذه الطبقة السياسية؟
*كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com