مقالات

السودان  من الانقلاب إلى الانقلاب .

بيدر ميديا.."

ا

السودان  من الانقلاب إلى الانقلاب 

عبد الحسين شعبان

 

            يبدو أن السودان والكثير من بلدان العالم الثالث، لم تغادر حقبة الخمسينيات والستينيات. وتقبع في الذاكرة التاريخية طائفة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1956.

ولعلّ ما يحدث اليوم من مواجهات عسكرية بين “الأخوة الأعداء“، باستعارة عنوان رواية الكاتب اليوناني كازانتزاكيس، إنما هو استمرار لذلك المسلسل الدرامي الذي ما تزال نهايته مفتوحة، فقد احتدم النزاع المسلّح  بين قوات “الدعم السريع“، التي نشأت في العام 2013 وعرفت باسم “الجنجويد” والقوات المسلّحة النظامية بعد فشل الاتفاق على حلّ يُنهي الأزمة السياسية منذ التغيير الذي حصل بإطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، بل زادت تعقيدًا منذ الحركة الانقلابية العسكرية في 25 أكتوبر / تشرين الأول 2021، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.

ومنذ إزاحة نظام البشير، انقسمت البلاد إلى فريقين، أحدها عسكري يتألف من جناحيين، هما القوات المسلحة التي يقف على رأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع  بقيادة نائبه محمد حمدان دقلوحميدتي”؛ وثانيهما مدني، وهي وإن اختلف فيما بينه، إلّا أنه يكاد يجمع على مطلبه بقيام حكم مدني وإعادة الجيش إلى الثكنات.

وبالعودة إلى سيناريو الانقلابات والانقلابات المضادّة، فيمكن القول أن أوّل انقلاب كان بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، وذلك على هامش الخلاف حول حركة التمرد في الجنوب، وقد أطيح به في ثورة  أكتوبر / تشرين الأول 1964.

ونظّم ما أُطلق عليه “الضباط الأحرار” تيمّنًا بالتجربة الناصرية المصرية انقلابًا عسكريًا في 25 مايو / أيار 1969، وذلك بقيادة الجنرال محمد جعفر النميري، الذي سرعان ما اختلف أقطابه، فنظم هاشم العطا انقلابًا في يوليو / تموز 1971، لكن الحركة الانقلابية فشلت، وتمكّن النميري من استعادة السلطة، وقام بإعدام قادة الحركة، من بينهم قادة الحزب الشيوعي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجورج قرنق، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، وتدريجيًا اتّجه الحكم نحو التشدّد والغلوّ بزعم تطبيق “الشريعة الإسلامية”، ولم يكن ذلك سوى تكميم الأفواه وتقييد حريّة التعبير بشكل خاص، والحريّات بشكل عام.

ونجحت الحركة الشعبية في الإطاحة بالنميري في 6  أبريل / نيسان 1985، وحدث انفراج نسبي في الوضع السياسي. فتشكّلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بعد إجراء انتخابات، حتى تمكن الفريق عمر حسن البشير من الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري  في 30  يونيو / تموز 1989، وذلك بتحالفه مع الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها حسن الترابي، لكن السودان لم يشهد الاستقرار المنشود والتطوّر السلمي المدني، خصوصًا بتعتّق الأزمات واستمرار الحرب الأهلية، لما يزيد عن ربع قرن.

وكنت في زيارة لي للسودان في العام 2000 قد سألت الرئيس البشير في حديث متلفز وعلى الهواء مباشرة، بثّه التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة من لندن: هل لديكم مشروع بشأن حلّ مشكلة الجنوب بعد أن فشلت جميع الحكومات السابقة في التوصّل إلى تفاهم وحلّ مقبول؟ فأجاب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ينطق بها، ليس لديه اعتراض فيما إذا أراد الجنوبيون الانفصال. الجدير بالذكر أن الحركة الجنوبية هي الأخرى فشلت في تحقيق أهدافها عبر الحلّ العسكري. وقد جرى تضمين  موضوع استقلال الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام (كينيا)، ووضع موضع التطبيق باستفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة ( يناير / كانون الثاني 2011)، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن جسم السودان الأساسي وانضمّت إلى الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من الإطاحة بحكم البشير العسكري، إلّا أن الجيش عاد ليلعب الدور المحوري، خصوصًا بعد انقلاب البرهان المذكور وازدواجية السلطة مع حميدتي، وتبدد اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين حتى موعد الانتخابات، وهو الأمر الذي قاد لتنافس العسكريين فيما بينهم، إذْ لم يعد ممكنًا استمرار السلطة برأسين (رئيس مجلس السيادة ونائبه)، وهكذا انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع.

أكّدت التجربة التاريخية أن كل انقلاب عسكري يولد انقلابًا جديدًا من بطنه، وهكذا يتمّ تفريخ الانقلابات، وتستمرّ دوّامة العنف. ففي جميع البلدان التي حكم فيها العسكر، عادت البلاد القهقري، و ذلك واحد من أسباب تعثّر التنمية المستدامة. ومقارنة بالبلدان التي سلكت طريق التطوّر السلمي المدني، فثمة هوّة عميقة بينها وبين البلدان التي عرفت الانقلابات العسكرية، فليس بالشعارات يمكن تحقيق التنمية والرفاه والعيش الكريم لعموم الناس.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com